الإيمان بكل ما هو سائد ومألوف ومتوارث ومعتاد من معتقدات دينية أوثقافات بيئية أومعارف اجتماعية لا يحتاج إلى أي جهد عقلي أو تعب ذهني أو معاناة فكرية ، بينما كل الجهد والمعاناة والتعب هو أن تؤمن بعقلك وتثق بتفكيرك وتعرف قدراتك وتكتشف ذاتك ، ولذلك يبقى المغيّبون عن الحياة والخاضعون لما هو متوارث ومتداول ، والغارقون في ثقافة الماضويات السحيقة والهاربون إلى الأوهام والفنتازيا التخيلية والمستأنسون بإعادة انتاج وتداول الثقافات الدينية والاجتماعية السائدة بغباء وسذاجة ويقينية هم في راحة تامة ، لأنهم أعطوا عقولهم اجازة طويلة الأمد من جهد ومعاناة وتعب التفكير والمساءلة والنقد والبحث والشك ..
وحينما يقول الفيلسوف ( سبينوزا ) في واحدةٍ من أجرأ مواجهاته الفكرية ضد اللاهوت الأصولي الكنسي الذي كان مسيطراً آنذاك : فإما أن نفكر بحرية ، وإما ألا نفكر أبداً ، فإنه كان يريد من قوله ذاك أن يضع العقل الأوروبي أمام مسؤوليته الجادة في نيل حريته الكاملة في التفكير والرأي والمواجهة لكي يخوض معركة التحرير من الأوهام والثقافات الأصولية التي كانت تصادر العقل وتغتال التفكير وتقيّد الفكر وتكبّل الرأي ، ولم تكن صيحة سبينوزا في ذلك الوقت سوى واحدة من أبهى الإشراقات الفكرية والفلسفية التي توهجت بها عقول الفلاسفة في عصر النهضة والتنوير وخاضت من خلالها معركتها لتحرير العقل الأوروبي من هيمنة الاستبداد الأصولي الديني ، ووضعت بذلك الأساسات الضرورية لانتهاج العقلانية والحرية الفكرية سبيلاً للخروج من شرنقة التخلف والظلامية الدينية ، وفي إشارة صميمية لهذا المعنى يقول المفكر هاشم صالح في كتابه القيّم مدخل إلى التنوير الأوروبي : فمؤسس المعقولية الجديدة هو شخص يدعى اسحاق نيوتن ، فهو الذي أعطى للعقل البشري ثقة هائلة بنفسه وجعله قادراً على أن يكتشف عن طريق المنهجية التجريبية والرياضية قوانين الكون بسمائه وأرضه ، بدءاً من تلك اللحظة أخذت البشرية الأوروبية تقلع اقلاعاً حضارياً كبيراً جعلها تتفوق على جميع شعوب الأرض ، فإذا كان الإنسان قادراً بواسطة عقله فقط على أن يكتشف القوانين التي تتحكم بالكون ، فلماذا لا يشغل هذا العقل إذن ؟ لماذا يلغي العقل بحجة النقل .!
وأنا إذ أتساءل منطقياً مع الأستاذ هاشم صالح عن لماذا يلغي الإنسان عقله ويرهنه لثقافة النقل ويطلق عليه تبعاً لذلك رصاصة الموت ، أجد أنه علينا أن نعرف جيداً كيف نخوض بعقولنا معركة تحريره من كل ما يجعله خاضعاً ومستسلماً وقابلاً للتبعية والهيمنة والوصاية الدينية والبيئية والاجتماعية والفكرية السائدة ، تلك التي تعيقه عن التفكير والبحث والنقد والمساءلة والتفكيك بحريةٍ وثقة واستقلالية ، ومن غير امتلاك الفرد لعقل متحرر من سطوة الثقافات الغيبية واليقينية التي تسلب منه فاعلية التفكير الحر ، يبقى في هذه الحالة خاضعاً تماماً للصياغات المعرفية والمسلكية والحياتية التي تنتجها تلك الثقافات انطلاقاً من ايمانها المطلق بالقدريات والغيبيات واليقينيات والمنقولات الدينية التراثية ، وعليهِ فإن أولى الخطوات في معارك الفرد التحررية من هيمنة واستبداد تلك الثقافات تبدأ باجتراحهِ مساحة من التفكير الحر في عقله ، تلك المساحة التي تمنحه مع الوقت قدراً من جرأة وشجاعة التساؤل والتفكير والبحث في الجوانب غير المسموح بها في التفكير من الموروثات الثقافية الدينية والاجتماعية ، فالمسألة تبدأ على مستوى الذات أولاً وأخيراً ، فكلّما كان الفرد قادراً على خلق مساحة حرة من التفكير في عقله ، كلّما كان قادراً في اتجاه مقابل على منح عقله ثقة كاملة في الاستنتاج والتساؤل والشك ، وتلك المساحة ضرورية له بمكان من حيث إنها في الوقت نفسه تمنح الفرد ثقة التمرد بوعي على كل ما يعيق عقله وتفكيره وحريته ..
وحينما تخفت وتضمر وتضمحل في الإنسان درجات احساسه العقلاني والمنطقي والواقعي والتفكيري بجوانب الحياة عموماً ، نجده تلقائياً يهرب إلى عالم الأوهام ويستسلم لثقافة الغيبيات والقدريات والماضويات التراثية ، لأنه في هذه الحالة لا يتحسس أبعاد وجوده الحياتية وفقاً لمنطوقات عقله وتفكيره الواقعي بل يستعيض عنهما بالاتكاء على الأوهام والغيبيات والموروثات النقلية ، ولذلك كلّما كان الإنسان قريباً من حركة الحياة ومتداخلاً معها في كافة اتجاهاتها من خلال احساسه العقلاني والمنطقي بها ، كلّما كان مدركاً ومندفعاً نحو تفعيل مداركه العقلية ومجترحاً في الوقت نفسه صيغاً عقلية ومنطقية وتفكيرية لوجوده وحركته فيها ، فمعركة تحرير العقل تتطلب من الإنسان أن يغوص عميقاً بادراكه الاحساسي الواقعي والعقلاني والمنطقي في الحياة ليبتعد بمسافات كبيرة عن كل ما يجرَّه إلى الركون لثقافة الغيبيات والقدريات والأوهام ، ويبتعد بنفس القدر أيضاً عن كل المحاولات التي تتعمّد اقصاء عقله عن التفكير والبحث والمساءلة ..
وفي داخل عقل كل إنسان مقدار هائل من ذاتية الانبعاث الضوئي الذي يقدح فجأةً بالشرارات المعرفية والعلمية المدهشة مستنطقةً فيه مستويات التفكير ودافعة به نحو الاستكشاف والتفحّص والتمييز ، وليسَ أمام الإنسان سوى أن يترك المجال رحباً للانبعاثات الضوئية التي تقدح بها عقله ، ومن خلالها سيقتحم معركة تحريره من القيود والأغلال والأوهام والأوثان الثقافية بثقةٍ وقدرة وتمكن ، وحينما تؤمن دائماً بأن هناك ثمة ضوء يلتمع بالدهشة والألق المعرفي في عقلك ، فذلك يعني أنكَ مُدركٌ تماماً لقدرتك على الإمساك بما يجعلك تخرج متعافياً من عتمات الأفكار الظلامية ، وأيضاً لكي يخوض الإنسان معركة تحرير العقل فأن ذلك يتطلب منه بدرجة أساسية أن يكون مفعماً دائماً بالاشتهاء المعرفي ، ذلك الاشتهاء الذي يحرز فيه انتصاراً على بقية الاشتهاءات الحياتية الأخرى ، ويدفعه بنهم وشوق وشغف نحو تعزيز قدراته العقلية التفكيرية بالجديد والمنفتح والرحب والإنساني ، فحينما يتغلب فيه هذا الاشتهاء المعرفي ويتطبع به ويتخلق في غواياته المثيرة والمضيئة ويتخلق أيضاً في اثاراته المتتالية والمتجددة ، يصبح حينها مفتوناً بالبحث دائماً عن كل ما يزيح عن عقله ترسبات الافهامات الانغلاقية والماضوية والضيقة ..
وحينما يكتشف الواحد منا في مرحلةٍ انعطافية ومفصلية من عمره أن عقله في يوم ما كان واقعاً بالكامل وبإرادته ربما تحت حاكمية وهيمنة الثقافات الاستلابية والقامعة للتفكير والنقد ، ربما حينها سيستشعر مدى فداحة ما كان فيه من ضياع وتيه ، وبالتأكيد سيعتبر أن المرحلة التخديرية تلك من حياته كانت بكل المقاييس تعدياً صارخاً على حقه الإنساني في حريته الفكرية وفي قراره الحر المستقل وفي اختياراته الطبيعية ، وتعدياً سافراً أيضاً على كينونته الذاتية التي من حقها أن تكون ناقدة ومفكّرة ، ولا يخرج الواحد من تلك الغيبوبة العقلية إلا وهو يحمل بين أعطافه وفي أعماقه جرحاً بليغاً يظلّ في القادم من عمره يناضل من أجل أن يتعافى منه سريعاً ، لأن ليس هناك أقسى على الإنسان أن يشعر بعد أن يفيق من غيبوبته العقلية أن عقله كان مُصادراً وتابعاً وخاضعاً للغير وللثقافات التي سلبته حرية التفكير والرأي ، وتحسس هذا الجرح الغائر يضعه تالياً أمام مسؤولية جادة وصارمة في تفعيل نزعته التفكيرية الحرة المتسقة مع انبعاثاته الضوئية العقلية ، ولذلك نجد أن أغلب الذين تمرّدوا على السائد وحطموا قوالب الأفكار الجاهزة وواجهوا استبداد الثقافات الظلامية المتخلفة وآمنوا بعقولهم ، كانوا مسكونين بهذا الجرح الباعث لتحسس ألمهم الحقيقي ، وفي الوقت نفسه كان يدفعهم هذا الجرح لخوض معركة تحرير عقولهم ، يجتازون به مرحلةً بعد مرحلة وأفقاً بعد أفق ليتعافوا من آلامه وأوجاعه ..
وأن تخرجَ منتصراً من أهوال هذه المعركة التحريرية ، تملك عقلك وتثق بتفكيرك وتتصالح مع قرارك وترتاح لاختيارك وتستنطق احساسك وتختبر تجربتك ، فذلك يعني أنكَ تتمتع بعقل تفكيري حر يجوس من غير تهيّبٍ ودونما تردد الدروب القصيّة ويقتحم الآفاق المسدودة ويلج العوالم الخفية ، بحثاً عن الحقيقة ، حقيقة أن تكون إنساناً تؤمن بحقكَ الكامل في اجتراح ما تراه مناسباً لك بعيداً عن منطق الأوصياء وحرّاس المحاريب ومرضى الأيديولوجيات ، وأهم ما يميّز العقل التفكيري أنه يؤمن بحق الآخرين في التعددية والاختلاف مع احتفاظه بحقه التام في البحث عن الحقيقة ، ولكنه يقف دائماً ضد التعصب وضد الهويات الاحتكارية والأفكار الانغلاقية والمرجعيات الثقافية الخانقة القسرية والتخندقات والكراهيات الطائفية والاحترازات الدينية والاجتماعية التي تنفي وتنبذ الآخر المختلف ، ويرى أن كل ذلك من مخلفات العهود البائدة ، وعادةً ما يكون العقل التفكيري الحر مسكوناً بهواجس الشك والبحث والنقد والمساءلة ، ليس لأنه مهووس ومعجون بذلك فقط ، بل لأنه يريد أن يتعقّب الثغرات ليقف على الأخطاء والهنات يُشخّصها ويُمسكُ بها قبل أن تستفحل وتتورم بالدمامات والتقيحات والأوبئة ، ويجنح باستمرار العقل التفكيري الحر نحو اجتراح أفضل الصيغ العقلانية والواقعية للوجود الإنساني وانتهاجها تالياً ، تحفظ من خلالها كرامة الإنسان وعقله وحريته وقراره ، وليس بعيداً عنا ما انتجه العقل الإنساني حديثاً في مجال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كواحدة ربما من أفضل الصيغ الوجودية للإنسان أينما كان ، وما هذا الجهد البشري الخالص والخلاق والمتواصل للوصول إلى اجتراح وانتاج وتحقيق تلك الصياغات والأنماط الحياتية وفقاً للأنساق والقيم الإنسانية العامة إلا واحدة من مجهودات العقل التفكيري الحر في تفعيل نزعتة الإنسانية ..
كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com