ربما لا شيءَ هناك، سوى ما يستحقُّ أنْ يكونَ شعوراً عميقاً بِالوعيّ. هذا الشعور وما يرافقهُ من متعة التفلسفِ وإدراك الذات، وشهوة المعرفة وفتنة الخَلق ولذة الاجتراح. هوَ كلّ ما من شأنهِ أنْ يضعنا في مخاض التخلّقات الباهرة والمبدعة والمضيئة والشاخصة، وليسَ سوى الوعيّ هذا، يدفعنا نحو اكتشاف حقيقة كونِنا إنّنا لا نزال على قيد الاستخدام الفعليّ لِعقولنا..
وأنْ تكونَ في وعيكَ هذا، يقظاً، متنوّراً، ملهماً، مُدركاً، متسائلاً، فذلكَ يعني إنّكَ تملكُ أنْ تمنحَ ما تحيا فيه، وما تحيا من أجلهِ أيضاً، معناه الحرّ والمتفرّد والخلاّق. والإنسان لا يستطيع أنْ يدركَ الوعيّ بِذاته، أو أنْ يدركَ الوعيّ بِالشيء نفسه، إلاّ بعد أنْ يقطع شوطاً طويلاً في معرفة عقله، أو بمعنىً أشمل، أنْ يفهم عقله. أنْ يعرف عميقاً أنّه في حاجةٍ إلى عقله، وفي حاجةٍ إلى استخدامهِ، والطريق إلى عقله، يبدأ من هنا، من نقطة معرفتهِ بهذه الحاجة، وحاجتهُ إلى هذه الحاجة، تضعهُ في مخاض الفهم، الفهم الذي يحرّره من الخوف. فثمة خوف يتربّص بالإنسان دائماً، إنّه الخوف من فهم عقله، لأنّه أصبح يرى أنْ مزاولةِ واقعه وحياته بمنأى عن العقل، أكثر سلامةً له، وتريحه من مواجهة تساؤلاته وشكوكه وقلقه وتوجّساته..
ولأنّ الوعيّ مشروطٌ بمعرفة الإنسان لِعقلهِ وضرورة استخدامه، ومشروطٌ كذلك بِإدراكهِ لِذاته الحرَّة ولِتعالقاتهِ المثمرة مع الحياة والفكر والتجارب، كانَ أنْ اكتشف إنسانُ الوعيّ هذا، السببَ وراء حاجته العميقة للمعرفة. المعرفة التي تمنحهُ مسافةً في التفكير والتفكّر، وشساعة في الفهم والتّفهّم، ووضوحاً في البصيرة والتّبصَّر، وعمقاً في الإبداع والتغيير. وانطلاقاً من هذا الأمر، أخذَ هذا الإنسان يستوعبُ أهمّية الوعيّ بالذات، أفقاً ملهماً وطريقاً منيراً في تحسَّسِ منابع المعرفة، وفهم العقل، واستيعاب تعالقاته مع الأفكار والتّصورات والتجارب والتّغيرات. وقد منحه كلّ ذلك ارتكازاً جوهريّاً على منهج العاقليّة في فهم وجودهِ وذاتهِ وتفتّحاته المعرفيّة، وفي خلق فلسفته الخاصَّة التي تهبهُ إدراكاً بحقيقةِ وعيه وحرّيّتهِ الفكريّة وعقله الحرّ، ولذلك أستطيع القول، بأنّ منتهى البؤس أنْ يجهل الإنسان عقله، ويجهل أيضاً جهل عقله، ويمضي بعد ذلك واثقاً من جهلهِ هذا، ومعتقداً بِقداستهِ، ومتيقّناً في الوقتِ ذاته، من جدوى جهله بِجهل عقله..
وأولئكَ الذين يستخدمونَ عقولهم، ماهرون جداً في حراسةِ ما لديهم من فكر الحريّة، وماهرونَ في حماية ما يتمتّعون به من سلامة التفكير، وفي رعاية ما يتوفّر فيهم من شغف المعرفة، لأنّهم يعونَ جيّداً ما معنى أنْ يكون الإنسان مستحوذاً على كلّ ذلك من رصيد الوعيّ والفهم، يرعاهُ بالتفرّد والنضج والاستقلاليّة. إنّه زادهُ الذي يعينهُ على فهم عقله، وفهم ذاته والوعيّ بها. لأنّه يدركُ عميقاً عمق تجربته الذاتيّة هذه، إنَّ ما يحتفظُ به من تلك الأرصدة العقليّة، تمنعه من الوقوع في هشاشة اليقين والتراجع والاطمئنان البائس، وتبعدهُ عن الانسياق خلف الشائع من سذاجة الأفكار وضحالة التفسيرات..
ولذلك كان أنْ أصبح إنسان الوعيّ، هو إنسان العقل الحاضر. إنّه حضور العقل الحديث، يحضرُ في كلّ تطوّرٍ وإنجاز، وفي كلّ فتحٍ معرفيّ وفلسفيّ وعلميّ خلاّق. كونه حضوراً شاخصاً بالوعيّ والفرادة والحداثة والتفكّر والتبصَّر والتحديق والتأمّل. وفي حضورهِ هذا يتجلّى حضوراً ساطعاً، لا يتخلّفُ عن يومه، ويتقدَّم في عصرهِ، ولا يتراجع عن ما وجد نفسهُ فيه، من تطوّرٍ واكتشاف وتسارع وتسابق وتجدَّد. وانطلاقاً من ذلك كان أنْ اتّصفَ الإنسان الحديث هذا، بِإنسان الذات الواعية، والفاعلة، لأنّها الذاتُ التي تتعالقُ كثيفاً مع مجهوداتها الفكريّة الخاصَّة في انشغالات الاجتراح والتأويل والكشف والتحليل والرصد والخَلق. وتأسيساً على ذلك، نجد أنّ إنسان الوعيّ هذا، قد انتصر على كافّة أشكال المؤسسات المجتمعيّة التقليديّة، لأنّه يمتلكُ رؤيته الخاصَّة وتفكيره المستقل وإرادته التفكيريّة، وقدرته على استدعاء معرفيّاته وأدواته النقديّة وأسلوبه المغاير، مدفوعاً بنزعته الثقافيّة والتفكيريّة، وباشتهاءه المعرفيّ، وبِتوقه الشديد للجديد والمغاير والعميق. وكلّ ذلك جعله قادراً على مواجهة كلّ أساليب الأدلجة والوصاية والهيمنة، وقادراً في الوقت ذاته على مواجهة كلّ تلك الثقافات القائمة على فكر التحيّز والطاعة والتبعيّة والتعصَّب والغيب والجهالة..
وما يجعل الوعيّ الإنسانيّ، جديراً بِصناعة المعرفة، هوَ استحضاره الخلاّق، للمبدأ الذي يتأسَّس على حضور الحقيقة في تجلّيات الوعيّ التفكيريّ والنّقدي. تلكَ الحقيقة التي تتمثّلُ في استنهاض العقل لمواجهة الجهل، وفي تدريب العقل على ممارسة التفكير والنقد والمساءلة، وهي الحقيقة ذاتها التي تمارس تعالقاتها المعرفيّة مع تجربتها الفكريّة والنّقديّة، بِالرصد والتخلّقِ والمتابعة. فالتجربة في عقل الحقيقة، ذاكرةٌ مفعمة بالتساؤلات والاستنطاقات والتوجّسات والاجتراحات والترصَّدات، والتعثّرات أيضاً. والتجربة في وعيّ العقل، عملية تفكّريّة واعية تحديداً، لأنّها تتقصَّد استجلاء نور الفهم والبصيرة في تعالقاتها المنطقيّة مع الأفكار والأنساق المعرفية..
والإنسان في وعيّ الحداثة الفكريّة، ممسوسٌ بالحريّة والذاتيّة والعاقليّة، ولذلك كانَ أنْ دافع دائماً عن وجوده وكيانه هذا، كائناً يتخلّقُ في فلسفة ظهوره وانكشافهِ وانفتاحهِ. إنّه وعيهُ الذي يُظهرهُ مفكّراً وناقداً ومتسائلاً، وهو وعيهُ أيضاً، الذي يكشفه أمام نفسه منسجماً ومتصالحاً وصادقاً وواضحاً، وهو وعيهُ الذي يدركُ من خلالهِ أهمّية أنْ يكونَ منفتحاً، وشغوفاً بِتبنّي فلسفة الانفتاح. وفي جانب عاقليّتهِ يسعى دائماً في تفتّحاتهِ الفكريّة، أنْ يكونَ مسكوناً بالوعيّ والاختيار والحريّة، وفي إدراكه العميق لِذاتيّتهِ يتجلّى متوافقاً مع ذاتهِ الناطقة والحرَّة والمفكّرة..
والإنسان في تجلّيات وعيه، يتميّزُ عن غيره، بأنّه كائنٌ يتكلّم بالمعاني عن المعاني كياناً في لغةٍ حيَّة، إنّه لا يستطع إلاّ أنْ يكونَ متكلّماً في لغة المعاني. يتكلّمُ لأنّه يدركُ أنّ الوعيّ في لغتهِ لا يعني سوى ذلك الاستجلاء المعرفيّ الخلاّق للمعاني الحرَّة، ويتكلّم لأنّه في جوهر ما يتكلّمُ به وفيه، يكونُ شاخصاً أمامَ ذاته في ذاتيّتهِ، وأمامَ المعاني في معانيه الحرَّة والملهمة، وأمامَ الأشياء في تفسيراته ومسمّياته عنها. وفي استنطاق المعاني يحضر إنسان الوعيّ، معنىً شاخصأ في فرادتهِ وفي حريّتهِ وفي تخلّقاته وفي تعالقاتهِ. إنّه بذلك، وفي كلّ ذلك يتفوّقُ على غيرهِ، من حيث كونهِ، يملكُ تساؤلاً ونطقاً وتفسيراً وخَلقاً، وقدرةً على خلقِ لغتهِ وأسلوبه ومعاني كلامه، يبعثهُ ذلك وجوداً وتمكّناً، ويستجليه حضوراً وظهوراً وتخلّقاً وإبداعاً..
وإنسان الوعيّ التفكيريّ، عبر ارتكازهِ على العاقليّة والحريّة، أساساً وجوهراً، كانَ أنْ منح العقل ذاتاً خاصَّة، أيّ بمعنىً آخر، جعل من العقل ذاتاً، ومن الذاتِ عقلاً . أيّ إنّ العقل هنا استفرد بمزايا الذاتيّة، من حيث إنّه اكتسبَ في الوقتِ نفسه، صفاتها الحرَّة والمفكّرة والواعية، وكانَ أن تجلّى حضوراً بكيانه المستقلّ، والذاتُ هيَ الأخرى تشكّلتْ في مخاض العقل، واكتسبتْ منه مهارة التفكير والنقد والسؤال. وكانا أنْ اندمجا في كيانٍ واحد، اتّسمَ بالتعالق الخلاّق والتّضافر الملهم، ولذلك تميّز هذا الإنسان بِكونهِ، الإنسانُ الناظر والشاهد والحاضر والظاهر والمبين، والخطّاء والمخطيء والمتعلّم، والناقد والفاهم والمستفهم، والمتكلّم والناطق والمستنطق، والسائل والمتسائل، والمفكّر والمتفكّر والعارف والباصر والمتبصّر، والباحث والكاشف والمستكشف..
والأمر الجوهريّ في إنسان الوعيّ، يتحقّقُ كياناً ووجوداً وتمثّلاً ومعنىً، في فِكر الحضور، إنّه يحضر في هذا الحضور الجهور، ذاتاً وتحقيقاً وإنجازاً وتعالقاً ورأياً، وفي حضورهِ الحاضر هذا، حضور الوعيّ والبصيرة والفرادة. وقد تجسَّد هذا الحضور، سطوعاً وإرادةً وبياناً وفكراً في وعيّ العقل الإنسانيّ، وهوَ الوعيّ الذي تأسَّس عبر فلسفةٍ تقوم على مركزيّة الإنسان. بمعنى أنْ يتجلّى الكائن والكينونة في الإنسان، أنْ يتجلّى في مقام الذات والعقل والفكرة والخلق والإبداع والتفلسف. ولذلك كانَ أنْ أدركَ هذا الإنسان عقله، أيّ امتلك جوهر الفهم لعقلهِ، الفهم الباعثُ على الوعيّ بجدوى التساؤل الفلسفيّ، وهوَ التساؤل الذي يضعهُ حضوراً وتحقيقاً في مخاض التجربة الذاتيّة، مُدركاً لِحقيقة تجاذباتهِ وتداخلاته وتعالقاته الفكريّة والتفكيريّة، مع توجّساته وتساؤلاته وأفكاره واستنطاقاته ومعرفياته وشكوكه واجتراحاته وانشغالاته..
Tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي