تعيدنا معركة رئاسة الجمهورية إلى قرنة شهوان، هذا بحد ذاته مؤشر إيجابي، إذ ان هزيمة قرنة شهوان في انتخابات الجبل كانت، كما ظهر في ما بعد، أولى محطات الانحطاط السياسي الذي نرتع به اليوم. اختفت القرنة بعد الهزيمة. لقد غدت في التاريخ واليوم لا يخطئ من يدرج اسم نسيب لحود وبطرس حرب وسمير فرنجية… تحت اسم قرنة شهوان، فالقرنة هي أولاً مستقلوها، رغم أنها ضمت بالإضافة إليهم أحزاباً مسيحية. إذا كان المستقلون بعد الخروج السوري باتوا أقل حضوراً فإن الأحزاب التي استأثرت بالبروز أحزاب وليست أحزاباً، إنها تدور حول قادتها والماكينات الحزبية والعسكرية أيضا تنتهي عندهم، والحزب هكذا نوع من عائلة سياسية بكل بنيانها البطريركي. القادة عندئذ ليسوا أفراداً فحسب بل هم أفراد أعلون، أي أبطال، والحال أن الأبطال أزاحوا في الحياة اللبنانية الأفراد، ولنقل، بعبارة أخرى، إن الأبطال أزاحوا السياسيين. إذا كان من اسم يستحقه أشخاص قرنة شهوان فهو أنهم سياسيون لا أبطال، ذلك هو إنجازهم الجليل والصعب والذي لم يتحقق إلا وهو محفوف بالقلق مهدد كل لحظة. إذ إن استعادة السياسة بعد حرب 15 عاماً والانتداب الذي تبعه ليست أمراً سهلاً. أطاحت الحرب بالسياسة بما هي اشتراك وتسوية ومفاوضة وتقاطعات، أما الانتداب فأزرى بالسياسة وحوّلها الى خصوصيات ونزاعات مافياوية. حاول أركان قرنة شهوان بادئ بدء استعادة السياسة، الأمر الذي كان يحتاج الى جهد أسطوري. إذ ان فقدان الدولة أو كاريكاتوريتها كانا يحولان دون وجود أي إطار للتفاهم السياسي. كان لا بد من عمل تأسيسي نهضت له قرنة شهوان، وفي الغالب، بدون أي تفاهم أولي عليه. كان التنازع السافر والفالت وغير المقيد بأي قواعد يخترق الدولة والمجتمع ويحيل أي سجال الى تصاد وتجاوز علنيين. في نزاع غير مشروط كهذا لا يمكن بالطبع إيجاد أي «أجاندا» سياسية، وبالطبع لا يمكن بسهولة إيجاد فضاءات مشتركة. أخذت قرنة شهوان على عاتقها ممارسة سياسية من طرف واحد، كان من الصعب في ظروف الانتداب إيجاد جبهة مشتركة فقامت جبهة مسيحية صرفة، وكان على هذه الجبهة أولاً أن تكافح ضد فئويتها القائمة في تركيبتها. أياً كان الأمر لم تقم قرنة شهوان، ولو في دير وبرعاية الأكليروس الماروني، بتقديم مطالبها الفئوية التي كانت وخاصة ذلك الحين ملحة نافرة. عانى المسيحيون طوال الانتداب من استضعاف لكن قرنة شهوان لم تعتبر أن هنا قضيتها الأولى وأن الدفاع عن المصالح المسيحية هو سبب وجودها. كانت مسيحية بالكامل لكن هذه المسيحية لم تكن برنامجها السياسي. لم تطرح مثلاً طوال ذلك الوقت قضية تهميش المسيحيين الدارجة اليوم، على سهولة ذلك ومكاسبه الفورية وارتضاء الانتداب بأن تبقى المعركة في هذه الحلقة. لم تكن قرنة شهوان، إذا استعملنا المفهوم اللينيني، حلقية، رغم استعدادها الطبيعي لذلك، ومن أجل هذا كان عليها أن تكافح ضد طبيعتها. هذا بحد ذاته إنقاذ للسياسة وفرز لها من الحزازات الشعبية المتأرثة. إنها مستوى لا ينفصل عن مشاعر كهذه لكنه لا يعرضها كما هي، في عماها وسديميتها، بل يسعى الى ترميزها وإدراجها في وعي عام. عانى المسيحيون من شعور بالاستضعاف لكن هذه المسألة لم تكن مستقلة بذاتها. كانت جزءاً من استيلاء على البلد وكبت كل نزوع استقلالي فيه واستتباع له بكل ما حواه، تهميش المسيحيين كان يقابل استتباع المسلمين وفي النهاية فإن التحريض ضد التهميش بدون المرور بتلك الحلقة الضرورية كان يعني ببساطة استفزاز المسيحيين ضد المسلمين، وتضييع الحلقة المركزية والهدف الرئيسي. اليوم، من العجيب، تحاسب قرنة شهوان على هذا الوعي، وفي جو الحماقة والاستنفار العامين لا يحار بعض أقطابها قولاً ويجيبون بما يشبه الاعتذار، بدلاً من أن يقولوا بفخر: لقد كان همنا أن نحمي لبنان. اليوم حيث تمارس السياسة كضربات تحت الحزام وتحريض فئوي مضمر واستثمار لحزازات تضع اللبناني ضد اللبناني الآخر، وتغيّب الفاعل، بل القاتل، تحاسب قرنة شهوان على أنها ارتفعت على هذا الدرك.
كان على «الجبهة المسيحية» أو أن تكون مسيحية وأن لا تكون. ساق الكنيسة والزعامات المسيحية إلى إيجاد قرنة شهوان أمور أهمها وعي مسبق بأن الغرض الرئيسي هو الاستقلال والمعركة معركته. إنها معركة منوطة أولاً بالمسيحيين الذين وجد لبنان، على صورته الحالية، لأجلهم والذين منحوه طابعه الخاص والذين طابقوا على نحو نهائي بين مصيره وقدرهم. وإذا اتسع لبنان، وإذا غدا بمسلميه ومسيحييه، باتت هذه المطابقة أكثر صعوبة وتعقيداً، وأصبح من الواجب أن تكون لها سياستها الخاصة. لبنان تحت الانتداب بجناحيه وكلاهما، ولو بصور مختلفة، تحت العسف. لكن التفاوت بين الاثنين، ولأسباب ثقافية وتاريخية، لا يجعل الردود من جهة المسيحيين والمسلمين بالفورية والسرعة نفسيهما. كانت هناك سرعتان، إذا جاز القول، ومستويان من الرد، أحدهما المسيحي قابل للإيجاب والذهاب الى الفعل، والثاني المسلم أقرب الى السلب والممانعة. إذا تذمر العماد عون في منفاه من تفاوت السرعتين ورأى أنه في حال كهذه لا يسع المسيحيين الانتظار، فإن هذا لم يكن موقف قرنة شهوان ولا حالها. لم يكن واضحا إذا كان في الإمكان السير بعيدا الى الأمام بجناح واحد، إذا كانت معركة الاستقلال يمكن أن تثمر بالمسيحيين وحدهم وإذا كان سيرهم (المسيحيين) وحيدين لن يحرف المعركة الى الداخل ويحولها الى شقاق أهلي. كان العماد في منفاه متعجلاً أما قرنة شهوان التي تحولت قيادة يومية للمسيحيين فكانت، في نضالها اليومي، أمام موازنات وتقديرات أخرى، بل أمام وعي آخر.
خرج لبنان من حرب أهلية طويلة بتسوية هشة لا تملك ضمانة داخلية من أي نوع وتقوم فقط بضمان خارجي. خرج منها منقسما ولم يكن على الوصاية السورية والسلطة الصورية التي رعتها سوى إدارة الانقسام، فكل خلاف مهما بلغ كان يجد بسرعة سبيله الى قوى أهلية ويجد ترجمة ما في الشقاق الأهلي. أما الوصاية فأسست سياستها على هذا الاختلال الذي جعلها بدون جهد كبير تستضعف الواقع اللبناني وتتحكم به. كان المطلوب لفترة طويلة هو السلم الأهلي وبثمنه أمكن الغض عن كل شيء. فقد تراجعنا الى الدرجة الصفر وبات كل تنازل ممكنا بثمن البقاء أحياء. كان لا بد من أجل ذلك من كسر الشوكة الاستقلالية الحية تاريخيا لدى المسيحيين وإبقاء الوضع اللبناني في حالة سباتية. أرجع الى ذلك لا لأذكر فقط بالظرف الذي عملت فيه قرنة شهوان بل بالطابع التأسيسي لعملها. كان تحطيم لبنان يبدو بالدرجة الأولى تحطيماً للمسيحيين، وكان سهلاً أن يبدو ذلك استفزازاً للمسيحيين وحدهم ودعوة لمواصلة الشقاق الأهلي اذ يجد المسيحيون المسلمين أمامهم لا المخطط الأصلي. كان سهلاً، كما نرى الآن، تحويل المعركة الى هذه الناحية، لكن قرنة شهوان كانت جهة مسيحية لمواجهة انزلاق مسيحي محتمل الى وهم كهذا. كانت جبهة مسيحية لتصويب الوجهة وحفظ الصراع في مستواه الرئيسي. جبهة مسيحية لإبقاء المسيحيين نصب الخصم الفعلي، ولإضفاء قليل من الفعل والمنطق على صراع لا يزال مشدوداً الى لا وعيه ورواسبه وحزازاته. المسيحيون هم الطليعة وإذا أخطأوا السبيل ضاعت المسألة كلها. صحيح أنهم المتضررون الأوائل، صحيح أن خطة الانتداب قامت أولاً على تدفيعهم تكاليف الحرب الأهلية، صحيح أن الشقاق الأهلي كان طرياً، صحيح أن استغلال كل هذا كان ممكنا وميسورا، لكن قادة قرنة شهوان لم يكونوا في هذا الوارد، هؤلاء لم يكونوا أبطالاً ولا معبودين لذا فكروا أولاً في إخراج الصراع من هذا المستنقع، واحتاج ذلك الى وعي مختلف الى تمسك بالأساسيات، الى لجم النفس عن الحك على التروما المسيحية العامة واللعب بالإرث الطري للحرب واستثمار الانقسام الأهلي.
تطلب هذا عملاً تأسيسياً. كان ينبغي أولاً إيجاد مستوى مفقود منذ دهر للسياسة وبدا ذلك أشبه بإنشاء خط وهمي. إذ ان مستوى للسياسة عابرا للانقسامات الدموية وللجماعات والاتنيات والطحين الاجتماعي والأقليات المقتتلة في ما بينها والمتقاتلة أيضا في داخلها، كان فرضا لا غير. كان، كما بدا، من صنيع الخيال، ان لم يكن من حبال الوهم. مستوى يخترق الجماعات وحدودها وعوازلها كان محض اختراع في البداية ويصدر عن رؤيا وعن تصور مستقبلي فقط إن لم يصدر عن التزام وتطلع فحسب. المستوى السياسي إذاً لن يكون سوى خيط معلق مهدد كل لحظة بأن يهوي في شبك الانقسامات والحزازات وأن يترنح في الصراع الأهلي. كان ذلك يتطلب افتراض دولة لم تكن سوى خيمة كراكوز ومجتمع كان مطحوناً ومتذرراً، افتراض دولة ومجتمع، كان ذلك أقرب الى لعبة افتراضية أو الى مجرد رسم. بوسعنا هكذا ان نتحدث عن خيال سياسي، لكن بوسع أهل قرنة شهوان أن يفخروا اكثر بأن سياستهم لم تكن واقعية ولا مطابقة لانحطاط الواقع. بأن سياستهم لم تكن شعبية أيضاً إذ لم تبن على التروما والشعور بالاستثناء المسيحي. لم تكن واقعية لأنها وضعت نصبها الاستقلال والعمل من أجله في الداخل وهذا ذلك الحين مطلب خرافي. الاستقلال رغم الانقسام الداخلي واستتباع المجتمع وتمرغ الطبقة السياسية والتواطؤ العربي والعالمي، الاستقلال لا كمثال مفارق ولكن كبرنامج يومي ولواقع ينجز يوميا وتظهر بالتدريج فضاءاته وسياساته، واقع يتحقق بالتدريج ويتحول الى حقيقة والى قوة.
الدور المسيحي
في غياب «الأبطال» في المنفى أو السجن، بات على حفنة من سياسيين ومثقفين أن تتسلم القيادة الميدانية. في ظل الكنيسة قامت هذه القلة بصياغة سياسات ومواقف وأحياناً رؤى ومبادئ النضال الاستقلالي. لم تسع هذه القلة الى استغلال وجودها على الأرض لمنافسة القيادات الغائبة على الشعبية. لا أظن أن ذلك لم يكن ميسوراً، فقد استطاعت مواقف أهلية على الدوام أن تجتذب جمهورا، ولا شك في أن برانويا الجمهور جاهزة لكل دغدغة، وبوسع كليشيهات وتصعيدات لفظية أن تجد صدى فوريا. لكن أهل قرنة شهوان لم يسلكوا في الأصل سياسة شعبية كما قلنا. كانت سياساتهم «مثقفة» على نحو ما، بل ذات مستوى نظري وفكري واضح في صياغاتها. كانت بحثا عن نوع من المعادلة اللبنانية، عن تجديد للصيغة وإعادة تأسيس للرسالة المسيحية في لبنان. الأرجح أن هذه السياسات، كما سبق ان قلنا، لم تكن شعبية أساساً، بعكس ذلك كانت صادرة من فروض، وتطلعات والتزامات، على هذا كانت نابعة من مستوى سياسي مفترض ومن استقلال نسبي لهذا المستوى، من فرضية دولة ومجتمع غائبين. إنها سياسات مجموعة تنتدب نفسها لدور النخبة، وتنبع من موازنات لا تطابق الواقع الأهلي للجماعة المسيحية وتتخطاه. لن تكون هذه شعبية ولن تربي شعبية ولن تخلب الجمهور، ولن تخترع له نماذج بطولية. وعلى هذا فإن هذه السياسات لم تترسخ وأهلها لم يغدوا نجوما. لحظة خروج السوريين كانت هي أيضا لحظة توازن جديد، انكفأت فيه كل جماعة الى نفسها، والى بارانوياها وعصبيتها، ولاوعيها الأهلي. هكذا أبدى التاريخ واحدة من مهازله، تحقيق الاستقلال ضد الاستقلاليين.
جبهة قرنة شهوان مسيحية وطالما كان هذا يومها مأخذا عليها. هي بالتأكيد لم تكن كذلك لو وجدت استعداداً مماثلاً لدى المسلمين، لكننا اليوم أمام دعاوى التهميش المسيحي نفهم جدوى قرنة شهوان كجبهة مسيحية. لقد وجدت لتصويب الدور المسيحي الذي كان بدأ ينكمش ويحيد منذ الحرب الأهلية. تجددت دعوة للبنان مسيحي كانت في الظرف اللبناني تبطن بدون وعي الانفراد المسيحي وبالتالي الثانوية المسيحية. إذا كان المسيحيون طبعوا الدولة والاقتصاد والثقافة في لبنان فهذا يعني أن لبنان في عهدتهم وأنهم أكثر الجماعات مطابقة للدولة اللبنانية وأكثر الجماعات وكالة عن المجتمع اللبناني وعن الصيغة اللبنانية وعن الكيان اللبناني، حين يفرز المسيحيون أنفسهم عن الجماعات الأخرى، وحين ينفردون وحدهم يجازفون بهذه المطابقة وتلك الوكالة. في الحرب اللبنانية بدا أن المسيحيين ليسوا على صلابة كافية في مطابقتهم للدولة اللبنانية الواحدة، وبدا أن هناك خطوط انسحاب الى الجماعة والى الكيان الأهلي. الأرجح أن هذا «الاختلال» بين عوامل أطاحت لا بالدولة اللبنانية فحسب ولكن بالدور المسيحي في لبنان، ويمكن أن نحمّل هذا الانفراد على المدى البعيد مسؤولية ما يدعى التهميش المسيحي اليوم. قرنة شهوان المسيحية كانت، بالكفاءة السياسية والنظرية لبعض أصحابها، محاولة، لم تنجح للأسف، للعودة الى المطابقة والوكالة، للعودة الى أن تكون المسيحية مجدداً مركز صياغة للدولة والسياسة اللبنانيتين، أي أن تكون المسيحية مصدر صياغة سياسة فوق طائفية أو مركز صياغة متجددة للمعادلة اللبنانية. من هنا نفهم لماذا سعت قرنة شهوان الى أن توازن بين السرعتين، السرعة الاسلامية والمسيحية، وأن تضع في حساب مواقفها البطء الاسلامي وأن تصوغ المعادلة الايجابية التي انتهت إليها الحرب والقائمة على عودة الجميع الى لبنان بالتساوي، لم تكن هذه دعوة جديدة لكنها كانت الصياغة الرمزية لتسوية لبنانية أحبطها الانتداب، قائمة على عودة المسلمين الى لبنان «النهائي» مقابل الاشتراك الفاعل في الدولة. لم تكن هذه الكليشيه هي كل شيء فالمهم هو القدرة عبر سنين على التزام وصياغة خطاب مسموع لدى الطرف الآخر لا يستطيع تجنب الحوار معه والوصول بذلك الى تقاطعات والى مساحات مشتركة، ولا يمكننا إلا أن نفكر بأن تواتر هذا الخطاب على مدى سنوات وتواتر الحوار معه، كانا بالتأكيد في أساس استقطاب متزايد للمسلمين الى الخطاب الاستقلالي، وتحولهم من ممانعة سلبية الى موقف إيجابي، لقد وجدت قرنة شهوان، وربما «الحريرية» معها، لالتقاط خطاب التسوية، الذي سعى الانتداب الى التلاعب به، وتحويله (أي الخطاب) الى سياسة ومواقف وصياغة يومية.
فرضية الدولة
كان الاستقلال مطلبا خرافيا، بعض من كانوا في المنفى بقوا الى عهد قريب يصرون أن المحافل الدولية طريق أجدى وأفعل من النضال الداخلي، لكن قرنة شهوان حولت الاستقلال، رغم الضباب ومناخ الاستحالة وفقدان القوى، الى محرك سياسي. كان هذا في جملة ممارسة لعبت طويلاً بالافتراضات. طرح الاستقلال «المستحيل» كأولوية وقامت على أساسه سياسة يومية كان الانتداب حريصا على إبقاء السجال الداخلي في حالة مزرية من المناكفات والتجاذبات الاهلية والمافياوية، مع ذلك قامت سياسة ومستوى سياسي سمحا بإضاءة مناطق مشتركة، بتكوين مجابهات صريحة، بقيام معارك ديموقراطية وبتأمين نواة للدولة. لقد حوفظ على المستوى السياسي كافتراض لم يلبث أن غدا حقيقة وغدا السجال معه أكثر محورية واشتراكا وحضورا وجهة، ومع السجال والمجابهة وجد وعي استقلالي بل وجد بالتدريج حيز استقلالي وقوى استقلالية، لم توجدها بالطبع قرنة شهوان ولم تكن من صنعها، لكنها خرجت الى العلن وانتظمت في أجواء هذا السجال وتلك المجابهة. وضعت قرنة شهوان النضال الاستقلالي على تقاطعات لبنانية هامة، حمته بالتأكيد من أن ينزلق الى خندق أهلي ويتحول هكذا الى حد انقسام، وحيث يتم في النهاية امتصاصه وتفريغه. هذا ما حمى النضال الاستقلالي وساهم بنقله الى طوائف وجماعات اخرى.
تكاد قرنة شهوان من مطرح مسيحي تعادل الحريرية من مطرح إسلامي. كلتاهما خرجتا من فرضية الدولة، التي لم تكن الى ذلك الحين سوى فرضية. قدمت الحريرية مشروع دولة ووجدت في قرنة شهوان قطبا مساجلا من الناحية الاخرى، سجال الحريرية وقرنة شهوان هو الاغنى من هذه الجهة، ويمكن أن نذكر هنا بالنقاشات حول الموازنة والسياسة الاقتصادية للحريري، بل يمكن أن نذكر بأن سجال قرنة شهوان والحريري هو السجال السياسي الوحيد تقريبا المعافى الذي يقطع حقبة الانحطاط السياسي المخيمة من عقود، يمكننا أن نذكر ايضا بأن الحريرية استطاعت وعلى طريقتها، أن تخلق في المقلب الثاني حيزاً استقلاليا وقوة استقلالية، الامر الذي جعلها تقابل القوة الاستقلالية الاخرى. هذا ما كلف عميدها حياته.
سقوط قرنة شهوان كان محكا للانحطاط السياسي الحالي الذي عنى غياب المستوى السياسي، وتدهور الدولة وسقوط السجال في خنادق الانقسام. فهل تفيد معركة الرئاسة قرنة شهوان كمختبر لما نسميه المعادلة اللبنانية والسجال العابر للطوائف والخطاب التسووي، وهذه جميعها يمكن أن تشكل فعلا معنى «التوافق». هل يمكن أن تنقذ قرنة شهوان مجدداً المسيحية اللبنانية من الثانوية والانفراد اللذين تنحدر إليهما تحت ضغط الهلوسة التهميشية. قد يحمل ترشيح نسيب لحود بصورة خاصة، هذه المعاني، فالرجل الذي كان أحد ألمع ممثلي قرنة شهوان في سجال الدولة والسياسة الاقتصادية مع الحريرية، والذي حافظ بصرامة على مستوى في السجال لا يتنازل للاوعي الاهلي كما يدل برنامجه، والذي لم يشترك في نهب الدولة أو الاتجار بها أو المنازعات المافياوية، والذي هو وحده تقريبا بين المرشحين تطلع النخب اللبنانية الثقافية والاقتصادية. قد يكون لا منقذا ولا مخلصا ولا معلماً بالطبع، ولكن أملا وإيعازا بأن دور لبنان في المنطقة ونخبه وعناصر الايجابية والرسالة المسيحية في تاريخه قد كوفئت جميعها، واننا هذه المرة ايضا لم نزر بأفضل ما في لبنان.
السفير