من نيف وستين عاماً انقضت على محاولة بلورة أو صوغ دولة ـ أمة “وطنية” سورية، ينسبها عامة السوريين إلى القومية وإلى العروبة، تعهد حكم البعثيين ثلثيها أو فوق الثلثين بقليل (انظر “نوافذ” في 25/11/2007، عجالة الكاتب في “سوريا حاضراً، ظلال مجتمع في المرآة”). ولم يقتصر الحكم على سوس الدولة، على معناها العثماني، وجني ثمار الاستيلاء والفتح، فتعداه إلى تنظيم الإقليم، والأراضي الإقليمية الوطنية، على صورة الجماعة المستولية. ويلاحظ مريم عبابسة وسيريل روسّيل ومحمد الدّبيّات أن السياسات البعثية أولت عنايتها المحافظات الساحلية، ومحافظات الجزيرة، وقدمتها على المحور التاريخي الذي يتوسط سوريا، من دمشق جنوباً إلى حلب شمالاً وبينهما حمص، وعلى النخب المدينية القديمة. فنشأت مدن جديدة بظواهر دمشق وحلب وضواحيها، وعلى ضفاف الفرات. واقتسمت الإقليم السوري ثلاثة محاور. الأول هو المحور التقليدي والتاريخي، والثاني يصل اللاذقية بطرطوس. والثالث يجمع الرّقة ودير الزور إلى الحسكة. وتغلب الصفة الطائفية المذهبية على المحاور الثلاثة. وغداة الاستقلال، في 1946، رعى الحكم دمج المحافظات، وربطها بعضها ببعض، اقتصاداً ومواصلات وإدارة وخدمات (إنارة، صحة، تعليم)، وضواها إلى المحور الوسطي السني، في المرتبة الأولى. ولكنه غذى كذلك ازدهاراً ساحلياً، وتولى استصلاح اراض زراعية في الجزيرة. وانتهج الحكم الاستقلالي سياسة زراعية حمائية بإزاء الخارج، ودعم المنتجات من الداخل. فلم تزدهر الزراعة وحسب، بل أقام نصف السكان السوريين بأريافهم، وبقوا فيها، ولم ينزحوا عنها شأن معظم السكان في البلدان الأخرى القريبة. فلم تزد نسبة سكان المدن عن 52 في المئة، في 2004. ويعود بعض السبب في انكماش المدن السورية، قياساً على حركة التمدين العامة، إلى عزلة الاقتصاد السوري وانغلاقه، وإلى ضعف الاندماج الاقتصادي في الشرقين الأدنى والأوسط.
انفكاك وانخراط وتقطع
وتولى التأميم في 1963 إضعاف المدن السنية الكبيرة، حلب ودمشق وحمص وحماه واللاذقية، وشرذم بورجوازيتها وملاكيها ونخبها “الحرة”. وأرسى الانقلاب البعثي الأول حكم الفريق الحزبي الجديد على محازبين وأنصار وناشطين معظمهم من جبل العلويين، ومن الجزيرة، إقليمَيْ المحورين الآتيين. وحملت تأميمات الصناعات والأعمال الصناعية المتوسطة، ثم مصادرة الأراضي الزراعية وتوزيعها على المزارعين والفلاحين، عامةَ المدن والأرياف على “مبايعة” الحكام الجدد. وأقوى روابط العامة المدينية والريفية بالفريق الحزبي الحاكم ليست اجتماعية في المرتبة الأولى بل عصبية، مذهبية ومحلية وأهلية. وتضافر على تقوية اللحمة العصبية هذه توزيع عوائد الدولة توزيعاً ريعياً على الأنصار الأهليين. فكان التوزيع المركزي هذا، على وجهيه: الأرض والوظيفة (في الإدارة والمرافق المؤممة)، ركن التوحيد والولاء “الوطنيين”، وهو كذلك ركن المراقبة والإلحاق. وعمدت السلطات الحزبية إلى توسيع التأطير الإداري، وتكثير المناطق والمراكز، وتذرّعت بهذا إلى زيادة عدد الوظائف وشراء ولاء الموظفين.
وخالف ضمور المدن الاجتماعي والاقتصادي المنزع الغالب إلى ترك الريف والنزوح إليها. وفاقمت صبغة النازحين المذهبية المشكلة. فالنازحون من الريف وقراه وأرضه إلى اللاذقية وطرطوس وحمص ودمشق والسويداء، أو إلى السلمية، هم علويون ودروز وإسماعيليون. ويقْدم هؤلاء على مدن، أي على أهالي مدن يتمتعون بزيادة سكانية، أو بـ”دينامية ديموغرافية” على ما يقال، تفوق متوسط زيادة القادمين، وتضيِّق عليهم نزولهم. ويأوي الوافدون إلى مناطق سكن تفتقر إلى تجهيزات الإقامة المتوسطة والمقبولة، وتنتهك الشرائط القانونية. فربع سكان دمشق وحلب، ونصف سكان الرقة ودير الزور، ينزلون محال أو مناطق “غير صالحة للسكن” العادي، وتفتقر إلى معظم مواصفاته او شرائطه. وفي السنوات 19981 ـ 1994، بلغ البناء غير المجاز قانوناً 66 في المئة من جملة أعمال البناء بدمشق، و75 في المئة بحلب. وفي الأثناء نشأت مناطق صناعية بجوار المدن هذه. فتعد منطقة الشيخ نجار 200 مصنع، ومنطقة دمشق 105، وتنتظر دير الزور ودرعا وحماه واللاذقية الواحدة منطقتها. ولكن المدن هذه تنفك تدريجاً، وينفك نموها الاقتصادي والسكاني من دوائرها المحلية وجوارها وريفها، وتنخرط في شبكات استثمار إقليمية وشرق أوسطية هي من ثمرات العولمة ودوائرها الموضعية وحواضرها المعلقة. فيؤدي الانفكاك والانخراط والجديدان والناشئان إلى تقطع أواصر المدن والأرياف بعضها ببعض، وإلى تصدع مسكتها ولحمتها. وقوة الأواصر هذه ومتانتها كانتا سمة التاريخ الإقليمي والاجتماعي السوري الثابتة والفارقة، ومعينه طوال القرن العشرين.
وعلى هذا، يجتمع ثلث الإنتاج الصناعي بدمشق، وشطر غالب من الخدمات والتجارة. وتتولى ثلاث مناطق حرة خدمة المركَّب الصناعي والتجاري والخدمي هذا. وفي الأثناء تعاظم عدد سكان دمشق وحزامها أربعة أضعاف في نصف قرن (1960 ـ 2004)، فبلغ 4 ملايين. ودمر اراضي الغوطة. فنزل المهاجرون من القلمون منحدر قاسيون. وانتشر مهاجرون آخرون، أقليات مذهبية أو قومية، على جهتي الطريق العريضة إلى عمان، والطريق إلى المطار، والطريق إلى حلب، وحاطوا “الحاضرة” جنوباً وشمالاً وشرقاً. وشفعت إحاطتهم هذه بإحاطة الفلسطينيين السابقة، ونزولهم مخيم اليرموك ومخيم فلسطين، وبينهما “مدن” تبالة ودويلة وجرمانة وغيرها. وتتخلل عشوائيات الهجرة والنزوح والمخالفة، بين قاسيون والغوطة، أحياء متوسطة الحال إلى ميسورة في المزة الجديدة ومساكن برزة. وفي قلب المدينة، ترسم شبكة الطرق الجديدة، ومجموعة الفنادق الفخمة، ومحطة سكة الحجاز، وأشغال تجديد معرض دمشق الدولي، وجهاً مختلفاً للمدينة الإقليمية.
ولا يقتصر التقطع الإقليمي الداخلي على دمشق وجوارها. فإلى الجنوب، حيث محافظات القنيطرة (الجولان) ودرعا (حوران) والسويداء (جبل الدروز أو العرب)، يقيم المزارعون والفلاحون السنّة، والمزارعون والفلاحون الدروز، بـ “بلادهم” وبضواحي دمشق وبدمشق نفسها، من غير ان يخالط بعضهم بعضاً أو يطووا خلافات الماضي القريب والبعيد ومنازعاته الطائفية والمذهبية، والقومية العرقية (الشركس و “العرب”)، والاجتماعية (التجار والزراع). وثأر البعثيون من “خانجية” حلب، تجار الحنطة والحبوب وأصحاب الأرض في سهلي انطاكية (قبل انتزاع “اللواء”) وحلب ومزارعو القطن بأراضي الجزيرة المروية، فصادروا الأرض وقسموها، وانتزعوا معامل النسيج والدباغة والتبغ والمطاحن من ايدي اصحابها. وإلى اليوم، لم تلحظ خطط الأشغال العامة، وشق الطرق، وصل حلب بميناء اللاذقية، رئة سوريا الشمالية المتوسطية. فحلب لا تزال عقدة الطرق البرية التركية والعراقية والسورية، ومن ورائها اسواق جنوب أوروبا وحوض البحر الأسود والقوقاز، والساحة المالية الأقدر على المفاوضة مع أوروبا والخليج. واستعادت المدينة، واستعاد “خانجيتها” في حلة جديدة، مكانتها الصناعية في غضون سنوات قليلة أعقبت القانون 10/1991، خطوة “الانفتاح” الأولى. وتقيد نمو حلب عوامل بعضها طارئ مثل منافسة المنسوجات الصينية، وبعضها من صنع البعثيين وضعف تدبيرهم، مثل هزال العمل المصرفي، ودور السيولة في المعاملات المالية، وارتفاع الفوائد جراء ذلك وفشو الاحتيال. وشأن دمشق، يقتصر البناء القانوني على 25 في المئة من أعماله. وفيما شرق المدينة متروك لإقامة البدو المتحضرين، ينضبط غربها “الجديد” على مخطط مدني.
ونزل العلويون من جبلهم، في العقود الأربعة المنصرمة، إلى الساحل، بل الساحلين السوري واللبناني بين بانياس وطرابلس. وهم كانوا يتركونه للعمل في السهل الساحلي، والسهل الداخلي، وإلى الشرق من حماه على حدود بادية الشام وطريق قوافلها، ويعودون إليه في ختام المواسم الزراعية. ونزولهم “الجديد”، في عهد سطوتهم واستيلائهم، يتصل بإقامة دائمة. ومهد تجهيز خدمي يفوق المتوسط الوطني، لهذا الضرب من التوطن. فوصل الساحل الزراعي والصناعي والتجاري بالجبل، وأنشأ منهما وحدة حصينة وعلى حدة. وتقصد الاستثمارات الأوروبية والخليجية، التجهيزية والسياحية، هذه الجهة من البلاد السورية. وغلب العلويون على السنّة، وحلوا محلهم في المدن. وفي السهل الداخلي، أفلت حماه، “كرسي” أصحاب الأرض السنة، أفولاً لم يعقبه انبعاث على شاكلة حلب. وأجهز على المدينة خروجها، في 1982، على البعثيين “الجبليين”، وقمع هذا الخروج. فحرمت مصنع صلب أوكل إليه البعثيون إنشاء “طبقة عاملة” تقارع “البورجوازية” و”الإقطاعية” المحليتين، وتخضعهما. وسطعت حمص، القريبة والمختلطة. وجزيت ببناء مجمع صناعي بتروكيميائي، ومحطة تكرير للنفط، ومدينة صناعية (في 2002)، إلى طريق عريضة وواسعة (في 1992) ربطت السهل الداخلي بالجزيرة.
ولازم ضمّ الجزيرة ومحافظاتها الثلاث (الرقة ودير الزور والحسكة)، إلى “بلاد الشام”، وحدودها الاصطلاحية الفرات أو ضفته الغربية، تعريبُها. فهي بلاد الكرد أولاً، ثم الشركس الذين جنّدهم العثمانيون، وبلاد الأرمن الهاربين من الإبادة والقتل في 1915، والأشوريين العراقيين الناجين من مذابح الضباط العروبيين والمسلمين في 1932. فأقطع شيوخ العشائر أراضي نزلتها عشائرهم، وشيدت حصون و “قصور” عسكرية، أو كركولات، في قلب الديرات الكردية، ونشأت “المدن” الثلاث حول الحصون هذه، وفي ظلها. ولم يغلب التوطن على الجماعات المترحلة الكردية والعربية، إلا في اثناء الجفاف الكبير الذي اصاب أطراف البادية (1951 ـ 1954)، وصحبه ثم خلفه ازدهار زراعة القطن، وارتفاع اسعار محاصيله. فمال الشاوية، وهم بدو يترجحون بين العمل في الأرض وبين العودة إلى البداوة، إلى التوطن الثابت. ونجم عن ارتفاع أسعار القطن، واتساع الأراضي المزروعة والجديدة، ثراء بعض اهل العشائر وقيامهم على الشيوخ، ومنازعتهم المشيخة والصدارة الاجتماعية. وجمع حافظ الأسد في سياسة واحدة استيلاء الحزبيين البعثيين، ومعظمهم من الشاوية، على المواقع الإدارية والسياسية في محافظتي الرقة ودير الزور، من وجه، وطمأنة كبار الملاكين إلى دوام حالهم، وإلى وراثة أولادهم المواقع الإدارية والسياسية التي تحفظ المقامات والوجاهات، من وجه آخر. فأقام القديم على قدمه، والجديد على جديده، والضغائن والمنازعات على حالها. وعندما أغرق سد الأسد، بعد 1973، أراضي قبيلة الولدة قرى مجرى الفرات، تولى الحكم البعثي إنشاء 41 قرية عربية، انتظم منها “حزام عربي”، على الحدود التركية في بلاد كردية في معظمها، وعلى أرض يعود ملكها إلى ملاكين كرد. وتضافر الفساد الحكومي الحزبي والأهلي، وإرث المنازعات والخلافات القبلية الثقيل، على خنق تعاونيات مشروع الفرات، قبل ان يقضي بشار الأسد بطي المشروع بعد نزع دام ربع قرن. وعظم مكانة الجزيرة و”عروبتها”، وهي مصدر ثلثي إنتاج الحنطة، اكتشاف النفط، وابتداء استثماره في 1984. فلما أطلت، في 2004 غداة عام على سقوط صدام حسين واضطراب العراق، حركة كردية ومحلية برأسها، خاف الحزبيون “العرب”، وقتلوا عشرات المتظاهرين، وطاردوهم إلى حلب وجامعتها.
مرآة الصدوع والمنازعات
وعلى مثال الإقليم وأقسامه وموازناته واختلالاته يقرأ الباحث في السكانيات السورية، أو سكانيات السوريين، “يقين” المجتمع، و “تردده ومنازعاته وصدوعه” (على قول يوسف كرباج، كاتب مقدمة الباب السكاني أو الديموغرافي). فوفيات الأولاد العالية مرآة حال البلد الصحية، وتفاوت متوسطاتها بحسب الجماعات الأهلية مرآة تباين أحوال الجماعات واختلافها، من وجه أول، وتفاوت المتوسطات، من وجه آخر، قرينة على حال التماسك الوطني وحدوده وضعفه، وعلى تهميش بعض الجماعات بإزاء أخرى وأفولها. وإذا كان السكان السوريون لم يتردوا إلى الحال التي تنم بهشاشة التماسك الوطني وتصدعه، فحالهم لا تدل على التجانس السكاني المتوقع في مجتمع متماسك، وقليل التفاوت. ولا ينكر ان السوريين يسيرون بخطو بطيء على طريق “المرحلة السكانية (الديموغرافية) الانتقالية”، وهي مرحلة انتقال مستويات الوفيات والولادات من 45 إلى 50 في الألف إلى مستويات قريبة من 10 في الألف. وكانت النساء السوريات، إلى منتصف الثمانينات، مفرطات الخصوبة، وتلد واحدتهن، متوسطاً، 7.8 أولاد. وفي عقدين من الزمن نزلت الخصوبة المفرطة إلى النصف. ولكنها لا تزال بعيدة من التوسط العالمي، وهو “ختام” المرحلة الانتقالية، ويبلغ 2.1 ولدين متوسطاً (على ما هي الحال في المغرب والصين وتونس). والمتوسط المتواضع هذا ثمرة عولمة سكانية، على مثال وجوه العولمة الأخرى، والإحجام عنها. والإحجام ليس وليد “قرار” مدرك بل صدى معقد لأحوال كثيرة، وهو صورة ربما من صور التحفظ عن العولمة والحداثة والمعاصرة.
ولم يعدم السوريون تحصيل منافع الحداثة، في الأثناء. فمتوسط السن التي يسع السوري بلوغها قبل الوفاة، في 2004، هي 75 عاماً. ويفوق المتوسط هذا متوسط سن الآباء والأمهات 15 عاماً، و30 عاماً متوسط سن الأجداد. وكان ربع الأطفال يقضون قبل سن الخامسة، غداة الحرب الثانية. ويقضي اليوم 1.8 في المئة قبل السن هذه. وكان يفترض في السكان السوريين ان يتموا “انتقالهم” في ربع القرن الأخير. فسن النساء (الإناث) حين الزواج ارتفع تدريجاً، والأمية نزعت إلى الانحسار، ونزل الريف عن شطر متعاظم من سكانه للمدينة، وتحسنت صحة الأولاد وضاقت شقة التفاوت بين النساء والرجال. فلم يبق على هذا، إلا ان يلحق متوسط عدد الأولاد بالركب، وينزل إلى الرقم المتوقع والمرجو. وتخلف المتوسط عن الركب لعلة ثقيلة هي تخلف النساء عن دخول سوق العمل والإسهام فيه إسهاماً نشطاً، وعلى حين كانت النساء العاملات 10 في المئة من جملة النساء في سن العمل، في 1960.، رجعت نسبتهن إلى 7.9 نساء في 1981، واستقر متوسط عدد الأولاد الذين تنجبهم المرأة الواحدة على 4.4 أي ضعفي العدد “المناسب”.
وقد يعزى العامل المعوق إلى حال سوريا الاقتصادية في منتصف ثمانينات القرن الماضي. فبعد عقد من الزمن بلغ متوسط النمو السنوي 9.4 في المئة، وغذت الخزينة السورية الهبات العربية وعوائد العاملين السوريين المهاجرين إلى الخليج، أدى تردي سعر النفط، في 1986، إلى تقلص سوق العمل، وأدت نهاية حرب الخليج، في 1988، إلى ضمور “الوساطة” السورية. وتعاظمت مديونية دول الخليج غداة حرب الخليج الثانية. وعلى رغم تأنيث شطر من اليد العاملة السورية، نزولاً عند الضرورة الطارئة، لم ينخفض متوسط عدد الأولاد، بين 1991 و2004 إلا من 4.20 أولاد إلى 3.58. ولم ينفع كثيراً في معالجة الحال هذه ارتفاع متوسط سن الإناث عند الزواج إلى 25.6 سنة (في 2001)، ولا إقبالهن على التعليم، وتمدينهن وإرسال أولادهن إلى المدرسة. فإذا بنخبة النساء، تعليماً وعملاً ويسراً، ينجبن، في 2001، أولاداً فوق ما كن ينجبن في 1991 (2.60 ولدين نظير 2.56 ولدين). والعلة هي نفسها، أي اقتصار عمل النساء على سُبع عمل الرجال، وعزلة المجتمع السوري السكانية.
والمقارنةُ بين انجاب الطوائف والأقوام مرآةُ علاقاتها. فسنّة سورية تعاظمت حصتهم من السكان عموماً من نحو 62 في المئة (1953) إلى نحو 72 في المئة (2004) في نصف القرن المنصرم. وينافس الكرد العلويين على المحل السكاني الثاني (8.1 في المئة و10.9 في المئة). وتقهقر المسيحيون من 13 في المئة إلى 5، جراء “سبقهم” وإدراكهم، مبكرين، تمام “المرحلة الانتقالية” العتيدة. وحملهم على هذا سلوكهم طريق الهجرة منذ منتصف القرن التاسع عشر العثماني، وهم عقدوا قبل الجماعات السورية الأخرى علاقات قوية بالغرب ومهاجره، ثم التأميمات الناصرية فالبعثية التي أجلت بورجوازيتهم عن مواطنها. ولا يبعد الدروز من العلويين، والجماعتان تتشاركان “امتلاك” بلاد هي وقف عليهما ولا يشاركهما فيها جماعة أخرى، ثباتاً على نسبة من السكان (3.1 في المئة فيما يعود إلى الدروز). والجماعتان تقتسمان المحافظات الأربع، اللاذقية وطرطوس والسويداء والقنيطرة، التي تشهد “انتقالاً” سكانياً متوسطاً أو طبيعياً. ولكن جملة سكانها تكاد لا تبلغ المليوني نفس، أو 11 في المئة من السوريين. وإلى السمتين هاتين، تشترك الجماعتان في هجرة عريضة إلى دمشق. فالعاصمة السياسية والإدارية هي عاصمة الجماعتين السكانية، وحاضرتهما، من غير ان تؤدي الحال هذه إلى انفكاك الجماعتين الرمزي من “بلادهما”. ويلاحظ احد الباحثين، فابريس بالانش، ان علاقة العلويين بجبلهم لم تبق العلاقة الإقليمية الوحيدة، ولا الغالبة. وخروجهم من الجبل، وانتشارهم في المدن الساحلية وبعض المدن الداخلية (حمص ودمشق) يضطلع بدور “توحيدي” يتخطى البعثرة الغالبة إلى اليوم. وعلى قدر ما يتقلص ثقل السنة في المدن الساحلية، تقوى روابطهم بمدن الداخل. وعلى قدر ما يتدنى ثقل العلويين في دمشق، جراء الإجراءات الليبرالية الاقتصادية، تشتد أواصرهم بقراهم في جبلهم. فالمهد، أو محل الولادة على قول تذكرة الهوية اللبنانية، هو قوام الهوية العميقة.
ويبدو ان الجماعة العلوية ليست بمنجى من التقلص السكاني. ولعل السبب في استطالة حكمها، أو بعض السبب، هو طاقتها على “مفاوضة” الجماعات الأخرى على الصعيد السكاني، مصاهرة وجواراً واستدخالاً وشراكة. ووسعها التمدد في الجبل المطل على الساحل. فريف الجبل الساحلي أو الغربي علوي كله، إلى بعض الجزر أو الجيوب السنية والمسيحية. وكانت مدن الساحل، في عهد الانتداب، سنية (78 في المئة) ومسيحية (20 في المئة). فغلب العلويون على المدن: طرطوس (70 في المئة، في 1990)، وبانياس وجبلة (65 في المئة)، واللاذقية (55 في المئة). ويرجح ان يكونوا اليوم، في أعقاب 16 عاماً على الإحصاء هذا، بلغوا 80 في المئة. وعليه، ينزل 70 في المئة من جملتهم او مجموعهم في سوريا كلها، الجبل الذي اشتق اسمه منهم، والمدن التي استدخلوها وغلبوا عليها. فإذا جُمع إلى هذا تفوق تجهيز البلاد المتصلة هذه (على خلاف بلاد الدروز بدرعا وحوران) على غيرها من المحافظات السورية، لم يبعد ان يكون إنشاءُ معقل أو حمى أهلي سائق سياسة متماسكة الحلقات وبعيدة النظر (أو ضريرة، على حسب الوجه الذي يراها الواحد عليه).
“علة” النساء
وتنكص المدرسة نكوصاً فاضحاً عن توحيد البلاد السورية وجموع سكانها ومحافظاتهم وطوائفهم على نسبة تعلم متجانسة أو متقاربة. فثلث نساء الشمال أميات، شأن نصف نساء (إناث) الرقة. ولم يبلغ المرحلة الثانوية أو الجامعية من رجال (ذكور) حلب إلا 12 في المئة منهم، نظير 24 في المئة من رجال دمشق، مدينة وريفاً. ومن نساء حلب، 8 في المئة بلغن إحدى المرحلتين، نظير 23 في المئة من نساء دمشق. و10.4 في المئة من الإناث لم يجتزن عتبة مدرسة. وتبلغ نسبة من “لفظهم” أو لم يشرع الجهاز المدرسي أبوابه بوجههم، من اهل حلب، إناثاً وذكوراً، 11.4 في المئة، أي عشرة أضعاف نظرائهم بدمشق، ونصف نظرائهم بدير الزور 22.6 في المئة). ويجر تردي التعلم اقتصار عمل النساء بحلب على 6 في المئة من اللواتي هن في سن العمل، بينما تبلغ نسبة نساء جبل العلويين وجبل الدروز العاملات 20 إلى 30 في المئة من جملتهن. والشمال (السني) أضعف تجهيزاً بالماء والكهرباء والصرف الصحي من غيره من البلاد السورية. فنحو 20 في المئة من مساكن الحلبيين لا تبلغها مياه الشفه. وهذه لا تبلغ 1.4 في المئة من مساكن اهالي مدينة دمشق، و8 في المئة من مساكن ضاحية العاصمة. وتجري على نحو قريب من هذا فروق المداخيل.
وتتولى علاقات القرابة والإقامة إي الزواج والصهر والتوريث والحلف، الإقامة على الأبنية والمراتب، واستئنافها استئنافاً يحفظها على حالها ما أمكن، وتقييد جديدها بقديمها وإنزاله على حكم القديم. فإلى اليوم، وعلى رغم انقلاب الحياة المادية رأساً على عقب، لا يزال 40.4 في المئة من النساء السوريات يتزوجن في بني اعمامهن وأخوالهن ومن هؤلاء وأولئك، ولا يتعدينهم إلى دائرة قرابة او جوار أو “معرفة” وعمل أوسع. وتبلغ النسبة هذه في الريف 47.4 في المئة. وإلى اليوم، لا يزال زواج الأبناء الذكور، وفيئهم إلى “جناح” آبائهم، الطريق إلى توسيع العائلة. وبعض فرادة الجماعة العلوية يتأتى من إقامة الأزواج الذكور ببيوت زوجاتهم (8 في المئة بطرطوس و16 في المئة باللاذقية)، على خلاف التقليد الغالب على السنة (2 في المئة بحلب). وهذا كذلك فرق من الفروق التي ينكرها “السياسيون”، في العلن، على الجماعات التي يأتلف منها المجتمع ويتقطع، ويماشونها، ويماشون تقاليدها ومصالحها في “السر”، أي في القوانين والتشريع والسياسة الفعلية والبعيدة المدى. فلا غرو إذا كانت “المراوغة، وكان “التكتم” (ليلى هودسون)، من طريق الحجاب أو من طريق المحادثة الإلكترونية والرسائل المختصرة، بابي الشباب السوري إلى العلائق الشخصية والعامة.
ولا يشك المراقب، بعد الباحث “الحقلي” ومؤرخ الأربعين عاماً المنصرمة على وجوه التأريخ المتفرقة، في ان منزع الكتلة السورية الحاكمة والمتسلطة إلى “الأبدية” (“إلى الأبد مع…”)، وإلى “تجديد” الرئاسات والولايات و”تمديدها” إلى رمق الرؤساء والموالي الأخير، على ما يعلم اللبنانيون علماً أليماً ومريراً ـ لا يشك في ان المنزع هذا يترتب على جمود المباني الاجتماعية، وتحجر الجماعات على مخاوفها وتحفظاتها والقلق الذي يبعثه فيها مستقبل غريب لم تعد العدة لاستقباله ومفاوضته ومحاورته. فتباعد الجماعات بعضها من بعض، وتحاجزها، واستيلاء بعضها على مقدرات بعض بالقوة والقسر. واتساع الفروق الأساسية بينها، والحؤول بينها وبين جهر خلافاتها وإدارة العلاقات السياسية على الخلافات وتدبرها وحلها، والاستعاضة عن هذا بالخطابة القومية والاستراتيجية وبالكذب الصريح، هذا كله، وغيره مثله، لا يعد ضحاياه إلى استباق تحولات العالم. فإذا اضطر “مجتمع” الجماعات هذه، وهو مجتمع على معنى الغلاف الخارجي وليس على معنى التفاعل والتواشج والتوارد، إلى السير في وجهة غير الوجهة التي سار فيها إلى يومه لم يدر اهله لِمَ اضطروا إلى هذا، ولم قدم هذا النهج على غيره.
طبابة الانهيار
ولعل الأعوام 1979ـ 1986 قرينة على صدق الزعم هذا. ففي غضونها انهار الناتج الداخلي (الإجمالي) السوري، وفقدت السوق سلعاً أساسية وحيوية، وتهدد الإفلاس الخزينة التي عجزت عن ايفاء الديون والقروض وخدمتها. وترتب هذا على انحياز حافظ الأسد إلى الحكم الخميني وسياسته الثورية، بإيران والمشرق الغربي. فانكفأ الدعم العربي الخليجي، وظهر على الملأ ان “ازدهار” السبعينات كان صدى من اصداء تعاظم الريع النفطي، وعوائد العمالة السورية في بلدان الخليج. ولم تنتج العوائد في الداخل أثراً دائماً وطويلاً يغذي بدوره تحسيناً بنيوياً. فالاقتصاد السوري، في عهده الكتلة العسكرية والأمنية والحزبية، “عالة” على البلدان العربية، وعلى اللبنانيين خصوصاً، على قول فيليب دروز ـ فانسان في فصله الذي وقفه على السياسة السورية الإقليمية. واعتياله هذا ليس مرده إلى فقر الموارد وشحها، بل إلى ضعف تثميرها وسوء إعمال علاقتها بالخارج وعلاقة الخارج بها (وضعف تدبير التفاعل، أو العلاقة بالخارج، لازمة فصول “سوريا حاضراً” ومباحثه).
وآذن بالانكفاء والتردي هذين قمع الحكم حركة مدنية داخلية نواتها المحامون ونقابات المهن، ودخول القوات السورية لبنان (وقمعها اللبنانيين “العروبيين” والفلسطينيين المسلحين ليس وجهاً من “عداء الديموقراطية”، على قول بعض المعارضة السورية، فالقول هذا قراءة “قومية” و”سوفياتية” أو تقدمية تشترك مع السياسة الأسدية في تناول الكيانات الوطنية تناولاً يغفل ديناميتها وبنيتها الداخليتين على ما مر وصفه، ويقدم عليهما، شأن التدبير الأسدي، القومي والاستراتيجي، معياري الانقياد والتراص). وتبعهما الدخول في الركب الإيراني، والمشي فيه. وتوج قمع انتفاضة حماه، في 1982، هذا الجزء أو الجملة من الوقائع والحوادث السورية. فلما انكمشت المساعدات العربية، وبعض انكماشها كان جراء أحكام الضرورة المالية، بادر الحكم إلى إجراءات “ليبرالية” في الزراعة. فأباح الاتجار الخاص بالمنتجات الزراعية وأولها القطن والقمح، وكان الاتجار بها حكراً على أجهزة الحكم. ورضي تسديد أثمانها بسعر السوق، وليس بالسعر الذي يعود على الأجهزة بعوائد تتصرف فيها على ما تشاء ويحلو لها. والإقرار بسعر تجاري مستقل عن احتياجات الإنفاق العسكري والأمني والمذهبي “الزبائني”، من أقسى الأمور على كتلة متسلطة لا تقر للمصالح الاجتماعية المخالفة بحقها في الاحتكام إلى معايير غير معيار الكتلة المتسلطة. ودعي القطاع الخاص إلى زيادة الصادرات. واستقبلت شركات النفط العالمية بالترحيب، وكانت إلى أمس قريب موضع تهمة محققة وأثيمة.
وتوج حافظ الأسد هذا الجزء من الحوادث والوقائع بانخراطه في التحالف الدولي الذي تصدرته الولايات المتحدة، وتولى إخراج صدام حسين من الكويت. وغداة الانخراط هذا صدر القانون رقم 10/1991. فـ “حرر” الاستثمار الخاص في ميادين اقتصادية ثانوية تعود على اصحابها بأرباح سريعة، ولا يصعب جعلها مواقع ريعية. واستأنفت المصادر الخليجية بعض مساعداتها وهباتها. وهاجرت العمالة السورية إلى بلدان الخليج، وإلى لبنان، بأعداد كبيرة. وكان “حل” المسألة اللبنانية، في 1989 ـ 1992 (1990)، من ثمرات “المرحلة الجديدة”، على قول سوفياتي وشيوعي سائر. فشهد الاقتصاد السوري غداة الانعطاف الاقتصادي والسياسي الضعيف هذا “طفرة” قوية رفعت متوسط النمو السنوي إلى 10 في المئة. ويسترسل بعض الباحثين، شأن سمير عيطة كاتب الفصل الاقتصادي العام من “سوريا حاضراً”، مع أحلامهم “الصينية”، وهي أحلام الكتلة المتسلطة. فيرون فيما يرى الرائي في المنام حافظ الأسد في صورة دينغ هسياو ـ بينغ، باني الرأسمالية الصينية المحدثة، فاتحاً باب السوق الداخلية بوجه المستثمرين السوريين والأجانب. وتغفل الرؤيا هذه، على معنى حلم المنام، الفرق بين كتلة حاكمة (سورية) عصبية وأهلية وبين كتلة (صينية) ضيقت الدائرة الأهلية للحمتها، وقصرتها على أقرب الحلقات. وتغفل الفرق بين سياسة (سورية) ترسي سلطتها على تضييق دائرة المنتفعين، وحصرهم في المقربين والخواص ونفي من عداهم من الدائرة هذه، وبين سياسة (صينية) لا تخشى ضم منتفعين جدد إلى دائرة تنزع إلى التوسع من طريق الأحلاف، وتقبل اقتسام العوائد.
فنجم عن القانون العتيد تراكم رأسمالي وخاص خطا خطواته الأولى، واقتصر على خواص أهل “الدولة” وعصبيتها، وعلى بعض من لا غنى عن وساطتهم وخدماتهم وعلاقاتهم بالمراكز الأجنبية. فلم يلبث الاستثمار ان ضمر، وتبدد شطر منه في فضائح مالية ذاع بعضها، وكتم بعضها الآخر. وتجددت دورة التردي في 1996. وآلت، في 1999، إلى نمو سالب. وبلغت البطالة مستوى بعث الخوف في الكتلة الحاكمة. واختصرت الموازنة العامة إلى 50 في المئة من حاصلها، ومعها رواتب الموظفين ونفقات الصحة والتعليم والخدمات العامة الأخرى. وكان على الإصلاحات التشريعية والبنيوية أن تنتظر عام 2004، وتسلك طريقها إلى الإنفاذ البطيء والمتردد. فعقدت اتفاقات تحرير المبادلات مع البلدان العربية، ومع تركيا، قبل إعداد الصناعات السورية للمنافسة. ورفع احتكار الدولة العمل المصرفي في 2001 ثم في 2004. وعهد إلى مصارف لبنانية برعاية خطوات الوليد الجديد والضعيف. وحرر التأمين في السنة التالية. ويعود حبو الحركة الاقتصادية، في المرتبة الأولى، إلى الفرق العظيم بين ثقل الأجهزة المركزية الساحق والمهيمن وبين ضآلة اداء هذه الأجهزة الحقيقي. فالمصرف الزراعي، على رغم شبكة وكالاته وفروعه المحلية الكثيرة (وهي وكالات توظيف وتنفيع)، وتكلفته الباهظة، لم يزد حجم قروضه وتسليفاته، في 2003، عن 135 مليون دولار. وتساوي القيمة هذه 1.7 في المئة من قيمة الناتج الزراعي الإجمالية. وكانت قيمة الصادرات الزراعية بلغت، في 2002، مليار دولار، وحصة الزراعة من الناتج الإجمالي 25 في المئة. وكان 65 في المئة من قيمة التسليف الرسمي الضئيل عينياً، قوامه الأسمدة والبذور.
شق “الشعب” على نفسه
وتوسلت الكتلة العصبية المتسلطة بالأرض، وبالإصلاح الزراعي، إلى استمالة الموالين والزبائن، وإلحاقهم بها واستتباعهم (جعلهم اتباعاً وموالي وخواصاً)، وحرفت الإصلاح عن غرضه، وهو إنشاء طبقة من صغار المزارعين المنتجين ومتوسطيهم. فملكت اقل من ثلث الأرض المصادرة (466 ألف هكتار من 1.5 مليون) 52 ألف عائلة، قيدت ملكيتها بـ8 هكتارات (80 دونماً). وأجرت 712 ألف هكتار إيجاراً استنسابياً من 24 ألف مستفيد، متوسط المساحة المؤجرة إلى المستفيد 30 دونماً (3.7 اضعاف متوسط حصة المالكين). والباقي ضم إلى ديوان “الدولة” الخاص، وباعته “الدولة” من خواصها. فالتوزيع والإيجار والبيع ادوات سياسية، أي عصبية وأهلية، خالصة. وخريطة الانتشار المذهبي الجديدة مرد شطر منها إلى السياسة الزراعية العصبية والأهلية هذه. وتنتخب السياسة هذه كتلة قليلة، ترصها رصاً، وتربطها بها ربط المدين بالدائن، والقن بالسيد، وتسلطها، من وجه آخر، على الكثرة الغالبة عدداً، والخاوية الوفاض، على الصورة الهرمية والمرتبية التي تنم بها اعداد المستفيدين من “الإصلاح” الزراعي وقاعدة الهرم المغيبة هي نحو 150 ـ 200 ألف عائلة (مليون نفس) لم تنتفع من التمليك، ولا من الإيجار، ولا الشراء، هي معين يد “عاملة” تصدّر إلى حيث تدعو الحاجة إلى شق الطرق والبناء وأعمال البنى التحتية، لقاء أجور زهيدة.
ويكاد هذا ان يكون غيضاً من فيض التحجير والتسلط العصبيين وشق “الشعب” على نفسه. ففي حقول أخرى مثل “السياسة الدينية”، أو التشريع المدني والتجاري، أو الثقافة والإعلام، إلى الإدارة والقوات المسلحة وأجهزة الأمن والجريمة والسجون والتربية والتعليم والمرأة والحياة المحلية والأسرة (على وجه الاختبار الشخصي) التي لم تتناولها مباحث “سوريا حاضراً”، تلبس “الأمة ـ الدولة” المفترضة، القومية والاشتراكية على الزعم الرسمي منذ 40 عاماً، مرقَّعة، أي لباساً ممزقاً ورثاً، مجموعاً قسراً وغصباً من رقع مختلفة النسيج واللون والمصدر، ويخاط بعضها إلى بعض عنوة، ويتستر خياطها على تمييزها وتلصيقها. ويدعو “الخياط” إلى الغفلة عن تولي “حزبه” أو فريقه السلطان المركزي كله، وانفراده به دون الجماعات السورية الأخرى، وتسويغه الانفراد هذا بذريعة بناء “أمة ـ دولة”، أو “شعب” متماسك وواحد من جماعات قومية ومذهبية ومحلية متفرقة وغالباً متنازعة. وطلب السلطان هذا تصريف الموارد على هواه تلافياً، على زعمه، لتمزق “الأمة” وتنازعها، وميلها مع أهواء جماعاتها ومصالحهم الضيقة والصغيرة. فإذا بهن في أعقاب 40 سنة من ولايته المطلقة، يباعد الشقة بين الجماعات، ويزرع بذور خلافات عميقة و”حيوية” أو عضوية بينها، ويرتبها “طبقات” على معيار الولاء الأعمى له، ويستبيح مشتركها. فتتطاول الخلافات والفروق إلى اركان الحياة البيولوجية، وإلى ثناياها وحظوظها، وإنتاج الموارد وتداولها وتوزيعها، وإلى الأماكن والإقامة بها وما بينها من مواصلات وجسور وقرب وبعد. وتتطاول أول ما تتطاول ربما إلى اللغة. وهذا عود على بدء.
المستقبل