لن تكون الانتخابات هي الترياق من أجل بروز آفاق أفضل، لأن المستقبل غير محكوم فقط بنتائج صناديق الاقتراع، بل يرتبط بمجمل المشهد الإقليمي.
سنة 2018 سنة انتخابية عربية بامتياز من حيث دعوة الناخبين في مصر وتونس وليبيا ولبنان والعراق للمشاركة في انتخابات رئاسية أو تشريعية أو بلدية. وهذه الحيوية أو هذا الزخم الذي يطفو على السطح لا يمكن أن يخفي أن بعض هذه التمارين معروفة نتائجها سلفا أو أن الكثير منها تشوبه نواقص عديدة.
بالرغم من مقولة “من جرب المجرب فعقله مخرب” تمثل الانتخابات التشريعية في لبنان والعراق واللتان ستتواليان في 6 و12 مايو القادم فرصة لمراقبة تطور المشهد السياسي في البلدين ومدى تمثيلهما لواقع المشرق في السنوات القادمة على وقع التحولات المحتدمة في مجمل الإقليم. وإذا كان البعض يتوقع والبعض الآخر يخشى من تأكيد هذه الانتخابات على ربط هذين البلدين بالمحور الإيراني، فإنه لا يمكن التركيز على العامل الخارجي لوحده بالرغم من أهميته لأنه يبقى خاضعا لقواعد الصراع المفتوح والمتغيرات المُحتملة.
بيد أن حالتي لبنان ما بعد حروبه النقالة (1975 – 1990) وأزماته الدورية، والعراق ما بعد حرب 2003 أو ما بعد نشأة داعش في 2014 تتشابهان لجهة غلبة التفكك والطائفية والفساد، وعدم قيام “دولة القانون” (بمعنى دولة الحق التي يسمو فيها القانون على ما عداه وليس لذلك صلة بأحد التكتلات العراقية) ومخاطر انفراط العقد الاجتماعي أو السلم الأهلي الهش والمحكوم بالتوازنات الخارجية.
على صعيد أكثر شمولية، تعتبر العملية الانتخابية تتويجا لمسار التحول الديمقراطي الذي يستلزم تعلم الثقافة الديمقراطية وتعليمها وترسيخ الاعتراف بالاختلاف. وفي المجتمعات المركبة والتعددية (طائفيا وثقافيا وقوميا وإثنيا في حالتي لبنان والعراق) لا يعتبر الاقتراع الوسيلة المثلى لحل المشكلات ويمكن أن يكون الغطاء للهيمنة أو الإلغاء ولذا تصبح “الديمقراطية التوافقية” هي المخرج. والأدهى ما تخفيه من محاصصة وتقاسم للمغانم والصلاحيات على حساب المواطنة والكفاءة. بالطبع يستوجب إدارة التعددية ابتكارا للأساليب وتجديدا للتسويات مما يفترض إعلاء ثقافة التسوية على منهج الإقصاء.
في لبنان يتم تغليف الخروج من الأزمات والحروب بنظرية “لا غالب ولا مغلوب”، مما سمح للنظام الطائفي في الصمود والبقاء منذ أربعينات القرن الماضي. وهذه الصيغة لا تسري على باقي البلدان العربية المماثلة ومنها العراق. لكن التغييرات المستجدة بعد إسقاط بغداد في 2003، أدت لبروز مفهوم “العرقنة” ضمن المفردات السياسية والإعلامية في الإقليم، وهو يرادف تفتيت المجتمع وصعود الانقسامات الداخلية والعنف السياسي والإرهاب.
وفي عودة إلى تراث الحروب اللبنانية وخاصة حرب السنتين (1975 – 1976) برز مصطلح “اللبننة” الذي عكس انخراط المكونات الطائفية في الصراعات الداخلية وفي لعبها أدوار تسهيل أو تمرير الأجندات الإقليمية والدولية المتنافسة.
والملفت اليوم عشية استحقاق مايو الانتخابي في لبنان والعراق، الاختلاط أو التشابك بين المفهومين وخطورة اقتباس ما هو سلبي من التجربتين، مثلما جرى في نقل آفة المحاصصة الطائفية اللبنانية إلى العراق وليس الاقتداء بنموذج التعددية الثقافية والسياسية في لبنان، أو في التشابه بين وظيفتي حزب الله والحشد الشعبي على حساب احتكار الدولة لقرار الحرب والسلم. وفي مراقبة للتشابك بين العرقنة واللبننة في حقبة 2003 – 2018 يتبين وجود عوامل مشتركة:
– الانقسام السياسي والطائفي والجهوي وإضعاف الهوية الوطنية الجامعة.
– غياب النظام الاستيعابي للأزمات وافتقاد الشخصيات أو الأحزاب والقوى العابرة للطوائف وضمور دور المجتمع المدني والنخب الوطنية.
– تأثير وزن المحيط الجيوسياسي والصراع الإقليمي الحاد مع وجود ربط أو تفاعل بين العناصر الداخلية والخارجية.
في استشراف للانتخابات القادمة (إذا لم يطرأ ما يمنعها أو يؤجلها) لا يمكن الجزم لناحية حصول تغيير جذري في المشهدين لأن الطبيعة الطائفية والتعددية لا تساعد على ذلك، ولأن كل مسعى إلحاقي بمحور إقليمي ولطمس الهوية العربية سينطوي عليه الكثير من المخاطر. بيد أن احتمال حصول حزب الله وحلفه في لبنان على الأكثرية أو على “الثلث المعطل”، وتكريس تهميش المكونين السني والكردي في العراق، سيقود حتما إلى انهيار التوازنات الداخلية وانقلاب في المشهد الإقليمي ستكون له تبعاته على المدى القصير والمتوسط.
في لبنان، من الصعب التكهن المسبق بالنتائج المحتمَلة في برلمان 2018 نتيجة “الخلطة الغامضة” التي ميّزت قانون الانتخاب الجديد القائم على النسبية ويقسّم لبنان إلى 15 دائرة (متوسطة)، ويحصر الصوت التفضيلي في القضاء (الوحدات الإدارية الصغرى)، ويعتمد معايير محددة لتأهيل اللوائح المقفلة واحتساب الفائزين فيها.
في 2017، لم يكن التمديد حوالي سنة للبرلمان استجابة لحاجات تقنية، أو لرغبة الطبقة السياسية في التمديد لنفسها فحسب، بقدر ما انطوى على الرغبةِ بعدم السقوط في فخ الصراع الإقليمي وخبايا مرحلة ما بعد داعش. لكن العام 2018 لا يبدأ ضمن أجواء إقليمية أكثر نقاء، ولذا يرتبط استحقاق الانتخابات بأثر ارتداد التحولات الإقليمية ومسار التسوية الداخلية السلطوية المبرمة آخر أكتوبر 2016 (انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية وعودة سعد الحريري رئيساً للحكومة) الذي اهتز بفعل أزمة استقالة الحريري في نوفمبر 2017، ويترنح بسبب أزمة ممارسة السلطة بين رئيس الجمهورية الماروني ميشال عون ورئيس مجلس النواب الشيعي نبيه بري.
وهكذا فإن اتفاق الطائف القائم على المناصفة المسيحية المسلمة مهدد بفعل تركيب ثنائيات على حساب أخرى وصعوبة تعديل الدستور وبلورة صيغة جديدة للتوزيع الطائفي. وتتركز الأسئلة الأخرى قبل الانتخابات على العوامل الخارجية وخصوصاً على المدى الذي يمكن أن تبلغه خيارات الدول المناهضة لإيران ونفوذها حيال لبنان، حيث لا يخفي بعض المحيطين بإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إنه سيتم التعامل معه على أنه “مخطوف” من حزب الله في حال فوزه الحاسم، وهذا يقود لطرح أسئلة مماثلة بالنسبة لموقف المملكة العربية السعودية وردة فعل إسرائيل.
وهكذا بينما يَنصرف اللاعبون في الداخل إلى رسْم سيناريوهات لتحالفاتهم، تسود الخشية من إدخال لبنان أتون الحريق الإقليمي وانعكاس كل ذلك على متانة الوضع الاقتصادي مع وصول الدين العام إلى ما يقارب 80 مليار دولار.
في العراق، تتسم مرحلة ما بعد داعش وما بعد فشل الاستفتاء الكردي، بولادة مشهد سياسي أقرب إلى تكريس أحادية فئوية. وكان ملفتا سقوط خيار تأجيل الانتخابات وإهمال أوضاع سكان المناطق المنكوبة من تمركز وقتال داعش في الموصل والأنبار، وعدم إيلاء الانتباه لشكاوى الأكراد في كركوك والمناطق المتنازع عليها.
بالرغم من الوجود العسكري والأمني والسياسي للولايات المتحدة في المنطقة الخضراء وشمال وغرب العراق، يبدو التأثير السياسي الأميركي محدودا في رسم ملامح المشهد العراقي، على العكس تماما من دور إيران الناظم بشكل غير مباشر للعملية السياسية. ومن الواضح أن الجنرال قاسم سليماني يتابع التحالفات عن كثب ولن يؤثر إحدى التحالفات الغريبة بين التيار الصدري والحزب الشيوعي العراقي على تغيير مجرى الأمور، خاصة أن حسم الريادة لحيدر العبادي واستمرار إبعاد نوري المالكي لم يتم دون ترتيب يضمن للحشد الشعبي دورا وازنا وتقريريا في التحالف الشيعي.
أما المكوّن السنّي في الطبقة السياسية فيتركز جهده على الاستمرار في تواجده ضمن اللعبة السياسية بدور ثانوي من دون طموح إضافي، وفي انتخابات مايو سيخسر المكوّن الكردي دوراً لعبه منذ 2003 وسيكون مجرّد ملحق للتحالف الفائز. بيد أن تكريس الغلبة في المشهد الداخلي وتكريس التبعية في السياسة الخارجية لطهران، ستكون لهما آثارهما السلبية على التماسك الوطني وعلى مستقبل اللعبة السياسية ومخاطر صعود التطرف النابع نسبيا من الإحباط والإقصاء.
من بلاد دجلة والفرات إلى بلاد الأرز لن تكون الانتخابات هي الترياق من أجل بروز آفاق أفضل، لأن المستقبل القريب غير محكوم فقط بنتائج صناديق الاقتراع، بل يرتبط بمجمل المشهد الإقليمي وغالبا ما يكون التاريخ نتاج ما هو غير متوقع وغير مبرمج.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب