قبل البدء بإعداد هذه المادة، قمت بإجراء “دردشة” مع بعض الأشخاص حول مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين المتواجدين في سوريا منذ عقود. ما هو موقفهم من بقاء هؤلاء في وطنهم ومعاملتهم معاملة المواطن السوري من نواح كثيرة؟
على الرغم من ملاحظات سلبية قليلة أدلى بها البعض، خاصة من الجيل الشاب، حول الوجود الفلسطيني في سوريا ـ من قبيل أن اللاجئ الفلسطيني شاركهم الوظيفة ولقمة العيش… إلخ ـ إلا أنني لم ألحظ إحساسا بـ”النفور” أو الضيق لديهم تجاه هذا الوجود كما حصل عندما سألتهم رأيهم بتدفق المواطنين العراقيين إلى سوريا.
أحدهم أجابني بأن “لفلسطين خصوصية في قلوبنا وعقولنا جعلتنا نشعر بأن مصاب الفلسطينيين هو مصابنا، فضلا عن أن هؤلاء قريبين جدا إلينا في عاداتنا وتقاليدنا ولهجاتنا، من الشام يعني”! من دون أن ننسى أن العدو في تلك المعركة هو اسرائيل، وهذا يكفي”.
لكن ماذا بالنسبة للاجئين العراقيين الذين تحتل بلادهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحظى بمشاعر شبيهة لتلك التي تحظى بها اسرائيل في قلوب معظم العرب.
تقدر أرقام المفوضية العليا للاجئين وجود ما يزيد عن مليون لاجئ عراقي في سوريا، بينما تشير الأرقام غير الرسمية إلى وجود نحو مليوني عراقي. وقد صرحت المفوضية مؤخرا بأن “تدفق اللاجئين العراقيين أنهك البنى التحتية في سورية والأردن”. أحد الذين التقيناهم علق على الخبر قائلاً: “كان الأجدى أن يقولوا، أنهك البنى البشرية”، فيما انفعل آخر رافضا تلك المقولة: “وجود العراقيين أنعش اقتصادنا الميت، من يرفض النعمة؟!”.
ورود الفلوجة:
تكاد لا تخلو منطقة في محافظة دمشق خاصة من وجود اللاجئين العراقيين، وإن كانت بعض المناطق تشكل تجمعات كبيرة لهم، مثل الست زينب، جرمانا، قدسيا وغيرها.
جرمانا التي تضم غالبية سكانية من الأقليتين المسيحية والدرزية، تبدو كأنها تحولت إلى عراق مصغر. أثناء التجول في شوارعها وحواريها، يطغى سماع اللهجة العراقية على ما عداها، هذا فضلاً عن المحال التجارية والمطاعم الخاصة بالعراقيين. بلغ الأمر أن تحول حي “الورود” مثلاً إلى حي “الفلوجة”، وهو أحد الأحياء ذات المسميات العراقية العديدة في جرمانا، مثل حي الآشوريين، حي الموصليين، حي البغداديين!
صاحب محل بقالة سوري يعيد علينا طرفة سمعناها مراراً وتكراراً قبل ذلك: “عراقيان كانا يمشيان في جرمانا سمعا اثنين سوريين يتحدثان فقال أحدهما للآخر: كثرانين السوريين بالمنطقة”!
يضيف هذا الشاب “لقد ازدادت مبيعاتي كثيراً بفضلهم، أنا مستفيد جداً من وجودهم!”.
بينما يضيف صاحب محل تجاري (45 سنة)”أرجو أن يبقى العراقيون في البلد أطول فترة ممكنة، لقد أنعشوا الاقتصاد وعملنا تحسن كثيراً”.
وفيما صاحب المحل التجاري يرغب ببقاء العراقي، يرغب المستهلك برحيله. المؤجر السوري يرغب ببقاء العراقي، أما المستأجر السوري فيرغب برحيله!
يقول عادل الطالب الجامعي: لقد ارتفعت أسعار البيوت ثلاثة أضعاف على الأقل، واضطررت إلى تغيير البيت الذي أستأجره عدة مرات بسبب ارتفاع الأسعار، كما أن فرصتي بالعمل انعدمت تقريباً لأن هناك آلاف العراقيين الذين ينافسوننا على فرص العمل”.
تكاد أزمة السكن التي ازدادت حدة مع قدوم اللاجئين العراقيين تكون أكثر القضايا إثارة لنقمة السوريين من أصحاب الدخل المحدود. في منطقة مثل قدسيا أو ضاحية قدسيا على سبيل المثال، قفز متوسط أجرة البيت من ستة آلاف ليرة سورية إلى 15 ألفاً، وهو مبلغ يفوق الراتب الشهري لمعظم الموظفين في القطاع الحكومي.
كما ارتفعت الأسعار في الأرياف التي كانت معروفة باعتدال إيجاراتها مثل دوما وحرستا وغيرها. ترجمة هذا الأمر على أرض الواقع كما وصفه لنا كثيرون ممن يعيشون هذه المعاناة، هو الرحيل من بيت إلى آخر مع انتهاء عقد الإيجار قصير المدة ـ بناء على رغبة المؤجر ـ والاضطرار إلى استئجار منازل في مناطق بعيدة وبحالة مزرية وبأسعار باهظة. وفي الحقيقة، لم أكن بحاجة لكثير وصف عن هذه الأمور لأنني عايشتها بنفسي واضطررت لقضاء ما أسميه “رحلة تشرد” من دون منزل لشهور عديدة العام الماضي.
وأكون صادقة حين أقول بأن مشاعر سلبية حادة انتابتني تجاه إخوتنا العراقيين آنذاك، لكن ليس بالقدر الذي أحسسته تجاه حكومتي التي لم تتخذ أية إجراءات لتنظيم وفود اللاجئين وأمور إقامتهم بحيث يتم الحد من الآثار السلبية لذلك. لكن يبدو أنني كنت الوحيدة في هذا الإحساس. وباستثناء سيدة واحدة من بين جميع من التقيتهم أثناء إعداد هذا التحقيق، لم أسمع كلمة واحدة عن دور الحكومة أو مسؤوليتها في ذلك، بل كان الغضب كله ينصب على اللاجئين ذاتهم.
تقول دنيا، وهي موظفة في أواسط العقد الثالث من عمرها، “في جميع بلدان العالم تكون الأولوية للمواطن الأصلي إلا هنا، يترك “الآخر” ليزاحمنا على سكننا ولقمة عيشنا، والدولة لا تفعل شيئا لتدارك ذلك”!
أما حين سألنا الآخرين عن رؤيتهم لدور الحكومة المفترض لتفادي آثار هذه الأزمة، فإن الشيء الوحيد الذي يجب تنفيذه برأيهم هو إخراج اللاجئين من البلد نهائياً!
أحدهم وصف لنا مشاعره لدى تردد إشاعة منذ أسابيع مفادها أن ترحيلاً وشيكاً للاجئين بصدد أن يحصل: “كان لدينا احتفال حقيقي، كنا فرحين جدا ونرغب بشدة أن نصدق هذه الإشاعة”. أسأله عن إحساسه بإعادة هؤلاء إلى الموت في ديارهم فيصمت قليلا، ثم يتحدث عن رؤوس الأموال والسلطة.. والفقراء.
ثروة وسلطة
الصورة الشائعة عن العراقي اللاجئ في سوريا وفقا للآراء التي استجليناها، أنه من أغنياء العراق، من الطبقة التي طالما استفادت من النظام الراحل وكنزت أموالاً كثيرة بطريقة غير مشروعة!
يقول عادل “يبدو أن أغلب العراقيين القادمين إلى سوريا هم من الطبقات العليا أو من الذين يملكون أموالا كثيرة حتى لو كانت “مسروقة”.
بينما يتحدث سامر، وهو طالب جامعي أيضاً، عن “أولئك الذين سرقوا العراق ثم تركوه، بدليل حجم إنفاقهم هنا، أما العراقيون الفقراء البسطاء فما زالوا هناك يواجهون الموت كل يوم”.
ونسمع من الناس قصصا كثيرة لا نعرف مدى واقعيتها، حول “النقود التي أدخلها العراقي إلى منزله في أكياس كبيرة” وحول “شراء المنتجات الاستهلاكية والثياب بالجملة” وأمور أخرى قد تدخل في باب المبالغات أكثر منها في باب نقل الوقائع.
ولا يقتصر الأمر على الجانب المادي فقط، بل يجري الحديث عن أشياء أخرى أكثر غرابة وإن كانت أقل شيوعا. فيخبرنا أحد الشبان وهو عامل في محل بقالة، عن شاب عراقي صاحب محل للسيديات (الأقراص المدمجة) متعامل مع الأمن وقد تسبب بإشكالات أمنية لصديقه الذي كان يتردد على المحل دائماً “يعني لدينا من المخبرين ما يكفي، لم يكن ينقصنا إلا استيرادهم من الخارج” يتابع الشاب. بينما روت لنا إحدى السيدات قصة صديقتها الموظفة في إحدى الدوائر الحكومية، التي رفضت المضي بمعاملة للاجئ عراقي لعدم استكمالها الإجراءات المطلوبة، فما كان منه بعد تهديدها ووعيدها إلا أن عاد بكتاب من رئيس الدائرة لتنفيذ كل ما يطلبه!. ويروي آخرون القصص عن الخوف من الدخول في أية إشكالات مع اللاجئين العراقيين، لأن “الشرطة ستقف في صفهم كما حدث في مناسبات عدة”. بينما يرى أحد المحامين بأن “على السلطة أن تشيع مثل هذه الأمور! كي تخلق جوا معينا يتم فيه تفادي الدخول في إشكالات بين السوريين والعراقيين المقيمين معهم…”. من غير أن ينفي وجود حوادث فردية في هذا الإطار على اعتبار أن “العراقيين عاشوا أجواء سياسية وأمنية شبيهة جدا بأجوائنا وطبيعي أن يخرج منهم المخبر والمتسلط من دون أن يعني ذلك التعميم على الجميع”.
تأخذ العلاقات بين الجانبين منحى آخر أكثر حساسية، عندما يتعلق الأمر بالسلوك الاجتماعي والأخلاقي، الذي أصبح موضع شكوى متزايدة من قبل سكان المناطق ذات التجمعات العراقية الكبيرة.
razanw77@gmail.com
المستقبل
مواضيع ذات صلة: