لعّل مسألة العدالة الانتقالية هي المسألة الأهم ومن أولى القضايا التي يتم العمل عليها بعد التغييرات الجذرية في المجتمعات التي يصاحبها اقتتال وضحايا وتدمير .
فإغلاق المرحلة السابقة وإعادة السلم الأهلي ووحدة المجتمع والمصالحة الداخلية يتطلب أولا تهدئة النفوس برد المظالم وإعادة الحقوق لأصحابها والتعويض على المتضررين والكشف عن مصير المفقودين وإظهار حقائق ما جرى وتحديد المسؤوليات ومحاسبة المرتكبين للانتهاكات والجرائم عبر المؤسسات القانونية والقضائية, وهذا شرط لازم وواجب وضروري, فلا يمكن أن تبرد روح الثأر والانتقام ومحاصرة الفوضى المحتملة، ما لم يشعر المتضررون بان حقوقهم لن تضيع وأن المرتكب لن يفلت من العقاب, ولا يمكن للإنسان أن يغذي انتمائه إلى المجتمع ويساهم ببنائه إذا لم يطمئن أنه سيحصل على العدالة .
ومفهوم العدالة الانتقالية هو مفهوم استثنائي للعدالة يختلف عن مفهوم العدالة العادي بالأهداف والقواعد والمعايير والهيئات والآليات, لأن الظروف الاستثنائية تفرض معالجة استثنائية ولا تصح أو تستقيم معها قواعد وآليات العدالة العادية .
فهدف العدالة الانتقالية ليس إدانة المجرمين وتطبيق القانون فقط بل أساسا إعادة السلم الأهلي وتحقيق المصالحة الوطنية ومحو آثار مرحلة سابقة تشجع على استمرار الخراب إذا لم يتم تجاوزها، فعلى سبيل المثال إن إسقاط الحق الشخصي أو عدم الادعاء من قبل المتضررين بالنسبة لعدد كبير من الجرائم الواقعة بحقهم قد يؤدي إلى إسقاط الدعوى كلها خلافا للقانون العادي مع حفظ حقوق هؤلاء المتضررين بالتعويض الذي سيقع على عاتق الدولة عبر مؤسسة العدالة الانتقالية نفسها, وهنا لا دور لمؤسسة النيابة العامة كجهة مدافعة عن المجتمع إلا في القضايا التي تمس المجتمع كله. ونضيف أن هدف العدالة الانتقالية لا ينحصر في محاسبة مرتكبي الجرائم وبعث الطمأنينة في النفوس بأن حقوقهم لن تهدر بل ينسحب هدفها إلى إعطاء الطمأنينة لغير المرتكبين أنه لن يتم محاسبتهم أو الاقتصاص منهم عن جرائم لم يرتكبونها، مثلما تعطي ضمانة مهمة للمرتكبين أنفسهم بانهم لن يكون تحت وطأة رد الفعل الثأري وأن مؤسسات العدالة والقضاء هي التي ستحاسبهم بالدلائل والقرائن المثبتة على ما ارتكبوه.
ولعل أهم تميز في القواعد والمعايير الحاكمة للعدالة الانتقالية أنها تستند إلى القواعد والقوانين العالمية، مع الأخذ في الاعتبار أن كثير من الجرائم المركبة في ظروف الصراع الأهلي الاستثنائي، قد لا تغطيها القوانين المحلية أو تطالها أو تنص عليها لأنها جرائم تسمها هذه الاستثنائية وتتطلب مرجعية دولية أنتجنها ظروف وأحداث مماثلة.
والتميز أو الاختلاف الآخر هو أن مؤسسة العدالة العادية تستند على الهيئات القضائية الطبيعية وتقتصر على القضاة فقط الذين يديرونها بينما تتفرع عن مؤسسة العدالة الانتقالية عدة هيئات لها طراز مختلف عن التركيبة القضائية وتضم بعض ممثلي المجتمع وهيئاته المتنوعة لتشارك القضاة والمحاكم في تحقيق العدالة. وقد بدأت فكرة العدالة الانتقالية بفكرتها الأولى بعد الحرب العالمية الثانية بمحاكمة مجرمي الحرب بنورمبرغ وتطورت في سيراليون ورواندا وحتى لبنان كان هناك تطبيق جزئي لها بوزارة المهجرين وصندوق الجنوب فيما صدر عفو عام هن جميع الجرائم المرتكبة خلال الحرب وأغلق باب محاكمة مرتكبي الجرائم والانتهاكات.
ويمكن تقسيم عمل مؤسسة العدالة الانتقالية إلى خمسة محاور..
أولاً، صندوق لتعويض الأذى الجسدي والمادي للمواطنين المتضررين إما بفقد أحد أفراد أسرتهم وأحبتهم وأيضاً التعويض للجرحى والمعاقين ولمن تدمرت منازلهم أوأماكن عملهم أو ممتلكاتهم كليا أو جزئيا, ويتم ذلك عبر لجان فنية مختصة تقوم بالمسح الميداني لكل المناطق بوضع قائمة بأسماء الضحايا والمفقودين وتقدير قيمة الأضرار المادية وتحديد عدد المصابين والجرحى وتأمين استمرار علاجهم والبدء بإجراءات سريعة لإيواء المهجرين الفاقدين لمنازلهم وتسديد معونات سريعة لمن تضرر ت أوضاعه جزئيا لترميم منازلهم والسكن فيها .
ثانياً، إنشاء محاكم خاصة ومستقلة عن القضاء العادي محكمة مركزية في دمشق للقضايا الكبرى ومحاكم فرعية في كل المحافظات للنظر بالجرائم المرتكبة خلال الأحداث وملاحقة والقبض على المجرمين ومصادرة الأموال والأشياء المنهوبة والمسروقة. ويجب أن يكون قضاة هذه المحاكم من القضاة المشهود لهم بالنزاهة والحيادية والاستقلال .
ثالثاً، تشكيل لجان للسلم الأهلي والمصالحة الوطنية تضم شخصيات ثقافية وعلمية وقانونية وفنية ودينية واجتماعية ذات احترام للتوجه إلى المناطق التي شهدت نزاعات أو إشكالات دينية أو طائفية أو قومية لتهدئة النفوس وإرساء الصلح وتبديد الشكوك وإعادة الثقة بين مكونات المجتمع , وتكون من مهماتها هذه اللجان أيضاً المساهمة في الكشف عن المفقودين والمختطفين والمعتقلين وإعادتهم لأهلهم .كما العمل على إقامة اجان وجمعيات للدعم والعلاج النفسي لضحايا الانتهاكات.
رابعا، تشكيل مكتب إعلامي مهمته القيام بحملة شاملة لشرح مفهوم العدالة الانتقالية ووسائلها وهيئاتها ودورها واستخدام كل وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء من أجل ذلك يديرها متخصصون قانونيون واجتماعيون . وتساعدهم في ذلك لجان من الشباب المتطوعين تشكل بالتعاون مع جمعيات أهلية ويجري تدريبهم لإيصال فكرة العدالة الانتقالية لكل المواطنين ومساعدتهم للتفاعل مع هيئاتها والثقة بها وتقديم طلباتهم اليها ومتابعتها .
خامساً، مكتب تخليد الذكرى ومهمته توثيق الأحداث التي مرت وتوضيحها وتأريخها بما في ذلك تخليد أسماء الضحايا الذين قضوا عبر النصب التذكارية أو إطلاق أسمائهم على المدارس والأماكن والساحات في المواقع الجغرافية التي سقطوا فيها, وإدخال هذه المعلومات في كتب التاريخ للمدارس حتى يكون ما مرّ على البلاد درسا يستفاد الجميع منه ويشكل عبرة ومأثرة للأجيال القادمة، ولا تضيع التضحيات الكبرى التي قدمت بل تكون صورتها ماثلة دائماً في ذاكرة المجتمع وخالدة في ذاكرة الوطن .
ويمكن الحديث هنا عن مسألة العفو ودوره في إرساء المصالحة وليس لتغييب العدالة فاستخدام هذا الطريق ضروري ولكن لا يمكن أن يكون عاما بحيث تغلق الجروح وهي ما زالت تنزف أو دون أن تكون مطهرة وتشكل نار تحت الرماد يمكن تأجيجها بأي وقت بل يجب أن يكون محدودا وخاصا ويستعمل بشكل دقيق لإغلاق ملفات تم إنهائها أهليا وتمت المصالحات بشأنها وليس كأسلوب تبويس اللحى وعفى الله عما مضى .
إن العدالة الانتقالية وتهيئة مؤسساتها وهيئاتها هي أولى المهمات في المرحلة القادمة وعلينا أن نكون على أهبة الاستعداد والجاهزية بل الشروع منذ الآن بتقديم المبادرات والاجتهادات لتهيئة الأسس والمقومات لها وخاصة البدء الفوري بحملة شعبية لنشر مفهومها وتعريف المواطنين بها لنضع اللبنة الأولى لإعادة بناء سوريا الجديدة .
المحامي أنور البني
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية