يدخل المريض المستشفى كمن ينْدس في عالم آخر من السلطة، أو في سلطة أليفة من عالم آخر. عالم يسود فيه الاطباء أصحاب القرار الصائب بحياة المريض، أو بموته اذا أخفقوا؛ ولكنه لا يخفق هو، القدر وحده هو المسؤول عن الاخفاق. لذلك، على المريض أن يوقّّع قبل أية عملية، أو يوقع أحد من أقربائه المرافقين، بأن ليس على الطبيب مسؤولية اذا فشلت عمليته. قبل ان يدخل المريض المستشفى، عليه الاقرار بعدم حقه بمراجعة خطأ قد يرتكبه الطبيب. وإلا فلن يُعالج.
هذا عن أخطر الحالات. أما الدخول “العادي”، من دون عملية، ولأجل علاج بسيط، فالمسؤولية عنه تضيع في دهليز التراتب القائم بين الطبيب والمريض.
يدخل المريض المستشفى، ويسكن في غرف مغلقة على نفسها، بنوافذ تطلّ على غرف أخرى مغلقة. الألم أو الخطر يمنعه من النظر الى وقته؛ انه في شبه إجازة من أوقات الروتين العادية. متى يأتي الطبيب المتخصّص؟ هو السؤال الذي يشغله منذ لحظته الاولى. الطبيب لا يأتي بسهولة. أعماله منتشرة في المدينة وخارجها في مدن أخرى. وهو لن يأتي إلا في الساعة الفلانية. يعود شيء من الأمل، والساعة الفلانية تصبح ساعات. “الصبر مفتاح الفرج” يردد عليك أولئك المعتادون على الانتظار. المريض يقاوم الضجر…. مقاومة الضجر تشحذ الصبر والصبر يعِد باشياء ايجابية. ثمن الضجر مرتفع: الطبيب سوف ينهي الألم… سوف يعلمه ما يحدث… سوف يرشده الى الوقاية…
الطبيب يتأخر. “في طريقه…”، تجيب الممرضة، بعد السؤال العاشر عنه.
وأخيراً يطلّ الطبيب، طلّة عزيزة، منتظَرة. على وجهه ضجر من نوع آخر؛ ليس ضجر المنتظِر، المهدور وقته ووجعه. بل ضجر وجيهٍ اعتاد ان تقصده الناس. الآن هو “يضحّي”… وينتقل الى جمهوره من الانصار وهو ضجران، باله في مكان آخر… ضجر من حضر لزيارة مجانية، وبملامح الرضا المتعالي التي تراها على وجوه المحسنين. وقته من ذهب، وقته مقطَّر، مدروس، وان بدا هذا الوقت بعين المريض غامضاً مهيباً. “الله يساعدو الحكيم شو بيكون عندو مُرَضا!”. يكلّف الطبيب نفسه الحضور الى جانب المريض صامتا منطويا. وهذا الأخير يحار كيف ينتزع منه الكلمات: “ماذا بني يا دكتور؟ ما سبب هذا الوجع؟”. كأنه يقرف، الطبيب، من السؤال. يتمْتم بضع كلمات، يجدها المريض غير منطقية بالنسبة لحالته. فيعاود السؤال. يتأفف الطبيب من السؤال. ربما لم يأت الى هنا إلا لتسجيل حضوره والانصراف الى العالم الأوسع. وقته لا يسمح بأكثر من زيارة بهذا الاقتضاب. هو يحتاج الى مرضى المستشفى ليسجّل، مثل استاذ الدراسات العليا، العدد الأوفر من الزبائن المرضى. لكن العالم الأرحب الذي يحتاج اليه من اجل نجاحه تضيق به أروقة المستشفى.
في الزيارات اللاحقة، لا ينظر الطبيب بعين الاستحسان الى استفسار المريض عن جرثومته؛ فقد اكتفى بتسجيلها في ملف المريض. أما ان يعرف المريض عنها شيئا، ان يطلب البحث عبر الانترنت عن اسبابها، مدة علاجها، طرق الوقاية منها…. فهذا من باب الاعتداء على “المصلحة”.
الطبيب يسرق وقت المريض وعقله، ويود لو كانت هذه السرقة كاملة. مثل الجريمة الكاملة: لم يسمع احد، لم ير أحد، لم يسمع أحد. فهو يتعامل مع السؤال كأنه “دليل جريمة”. يقول للمريض قبل ان يتفوه هذا بكلمة “اذا اردت ان تطرح اي سؤال، فاسال الدكتور فلان”؛ والدكتور فلان هو الطبيب المناوب، اي مساعد الطبيب الاختصاصي في المستشفى. لكن المشكلة ان “الدكتور فلان” لم ير المريض وجهه طوال الايام العشرة التي أمضاها في المستشفى. السبب؟ تسأل الممرضة؟ أي كلام ممكن ان يصلح كسبب.
هؤلاء الأطباء المختصون، المتواطئون مع الاطباء المساعدين أو المناوبين على عدم الظهور، وعلى انتهاج نفس الطريقة، هم أصحاب السلطة العليا الظاهرة في أروقة المستشفى وغرفه. هل هناك ما هو أعلى من هذه السلطة، خصوصا في الادارات وخلف المكاتب المغلقة؟ ليس بمقدور المريض ان يلمس شيئا من هذه السلطة المنافسة أو القائدة؛ فالذي يظهر له، الذي يلمسه، هو سلطة لا تنافسها أخرى.
في مشهد من حياة المستشفى اليومية، يحضر أطباء الى احدى “الحالات” المستعصية. يعبرون الممرّات بقوة أقدامهم وعزم خطواتهم وانتفاخ اجسادهم. يدخلون غرفة المريض، يطرحون عليه الاسئلة وكأنه طفل يحبو، وبألفة مفتعلة… “برافو! برافو! نزلت الحرارة!”. أو: “شو يا حجة؟ عملية تجميل في البطن؟! شو كنت ناوية تترشحي لانتخابات ملكة جمال؟”. والحجة تتلوّى بوجعها، لا تنتبه الى سماجة الطبيب.
وعندما يخرج هذا الرهط من الرجال الكبار، يجتمعون وقوفاً في دائرة ليتشاوروا. وبأية لغة تتصوّر انهم يتكلمون؟ بالانكليزية. نعم، عندما يحكون بالشؤون التي تجمعهم، هم وحدهم، الأطباء المختارون، يتكلمون لغة الأمبريالي الذي يبغضون. هيئتهم وهم يتشاورون، هكذا وسط الزوار والممرضين وبعض المرضى، تحيلك الى مسرحية الكلاسيكي الفرنسي موليير “المريض بالوهم”، حيث ينطق الأطباء باللغة اللاتينية عندما يكونون بصدد التشاور حول مريضهم، فيما هم عاجزون عن معالجته… قد نكون ورثنا، نحن المستعمَرين سابقاً من الفرنسيين، هذا التقديس المتفذلك الذي يمارسه الاطباء مع انفسهم ويفرضونه على مرضاهم. وقد يكون هذا الارث تطعّم بدوره بحبّنا للسلطة، أية سلطة، وعلى رأسها السلطة السياسية. ولا يختلف سلوك أطبائنا عن سلوكهم.
بطبيعة الحال، لم أتمكّن من معرفة الخطأ الذي حوّل اقامتي في المستشفى من “يومين”، الى “خمسة”، ثم الى عشرة ايام. حتى الآن لم أفهم، إن كان أُهدر وقتي، أو انني فعلا كنت احتاج الى هذه الأيام العشرة. لماذا هذا التغيير في مدد الاقامة؟ الجرثومة لم تكن معروفة؟ أعطوني في البدء الدواء “العام”، ثم عرفوا بعد ذلك؟ والا فلماذا انا مضطرة للقيام بفحوصات ثانية؟ “الاجابة لدى الدكتور فلان”. طبعا، “حالتي” بسيطة، ولذلك فهي بسيطة خسائرها؛ بضعة أيام من العمر في القهر والنكد. بسيطة! فيما وقته هو لا تناله النيران.
الممرّضون والممرّضات، أو بالاحرى الممرّضات اكثر من الممرّضين، وخصوصا في غياب الاطباء، ينتحلون صفات زعمائهم نفسها. يعرفن كل شيء، لا يفصحن لك بشيء. يلبعون لعبة التواضع والألفة في الحدود الذي يسمح بها وقتهم. وقتهم هذا، ليس مغلقا مثل وقت الاطباء. ولكنه أيضا له “حدوده”. الممرّضون يعتمدون كثيرا على الصلات العائلية التي تأتي بمرافق قريب للمريض، أو بمرافقة أثيوبية… لذلك، فمن المتعارف عليه في قانون المستشفى غير المكتوب، ان الممرضين ليسوا دائما في حالة من ينتظر نداء المريض؛ خصوصا في الليل. عندما جرسك عليهم في هذه الاوقات، لا يردّون. يعرفون حالتك وهم يشربون القهوة، ويحسبون ان نداءك خارج حدود وقتهم… فيعاملونه كأنه لم يحصل أصلا.
المرضى هم في أدنى السلم قبل العاملات في التنظيف ومعظمهن من الاثيوبيات. المريض “مركون” في غرفته. لا يعرف شيئا مما يحصل حوله. يلازم الفراش متألماً أو تعباً. واذا تعافى قليلا، ليس أمامه الا الردهة. الممرّض يأتيه دائما معتمدا لهجة مازحة، مثل ناظر المدرسة اللطيف: “عدْ الى فراشك! ماذا تفعل وسط هذه العجقة؟”. عجقة الزوار والممرضين الأصحاء. المستشفى مثل سجن غير محروس. سجناؤنه المرضى لا يستطيعون التجوّل، وهم محمّلون بالأمصال وبالعمود الحديدي الذي تعلَّق عليه. وكما في سجوننا، في هذا السجن أيضاً طبقات. الأغنياء والفقراء، والفرز المعروف: تأمين، ضمان، وزارة… كلها رموز تشير الى المساحة التي يحق لهذا المريض أو ذاك التمتّع بها، الى الوقت الذي يمنحه له الطبيب المتخصّص، أو من ينوب عنه، الى العناية المختلفة من الممرّضين… والى ما هنالك من أشياء أليفة في عوالم الحياة والمستشفيات على حد سواء.
لكن الذي يجمع بين المرضى هو عدم اكتراثهم بمعرفة شؤون صحتهم. يسلّمون بأمر المعرفة الى الطبيب من دون أي سؤال. هم يعيدون عبارات التسليم والعجز: “شو بدنا نعمل؟ فينا نعمل شي؟”. مناخ التسليم مسيطر. لا يأتي في بال أحدهم ان عليه الاطلاع على سرّ ما يعاني منه، على أسبابه، على طرق الوقاية منه. عجوز قالت لي، أثناء حديثي معها في الردهة حول أوضاع المستشفى: “الله لا يعلّق حدى بإيد حاكم أو حكيم”. الحاكم والحكيم، الاثنان لا يُسألان، ومن باب الحكمة عدم إزعاجهما. فللاثنين حق على حياة الناس وعلى وقتهم، الحق بارتكاب الخطأ وبالحماية والحصانة، الحق بعدم المحاسبة، بعدم المراجعة، بعدم التوضيح. وجماهير السياسيين وجماهير المرضى: “شو بدنا نعمل؟ فينا نعمل شي؟”.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل