الطالبانية مزيج من الأصولية في الأفكار والإرهاب في الوسائل، التعبير الأشمل عن معارضي تغيير المفاهيم وأساليب الحياة رافضي الحداثة، المتمسكين بوسائل وشرائع قديمة مثبتة في نصوص تاريخية أو دينية تجاوزها العصر، وهي تتمدد حيث ينتشر التخلف والاستبداد والتطرف الديني والقومي.
ترعرعت الطالبانية في دول الشرق، جزيرة الاستبداد والتخلف في العالم المعاصر، فبعد انهيار إمارة الطالبان الأفغانية بتدخل دولي، مدت الطالبانية رأسها في مناطق حيث الأوضاع مناسبة لزرع الكراهية للآخر والقتل والخراب وتدمير أية مقومات للحاق بالمسيرة الإنسانية المتقدمة. هكذا شهدنا بزوغ إمارة “غزستان”، والدولة الإلهية في جنوب لبنان، ومحاولة “فتح الإسلام” لإقامة إمارة العبسي في شماله، والإمارة الإسلامية المنهارة في الصومال، … وآخرها إمارة وادي سوات الباكستانية.
سوات التي كانت قبلة للسياحة العالمية تحولت بعد سنتين من القتال إلى خربة تنعق فيها الطالبان. فبالإضافة لآلاف القتلى ومئات آلاف المشردين والخراب الاقتصادي، دمر مسلحوها مئات مدارس البنات، وحظروا الموسيقى والغناء والرقص وحفلات الزفاف وفجروا الاماكن المتعاملة بها، وقطعوا أعناق متعاطيها أمام الملأ لتطويع المجتمع، وقتلوا المئات من أفراد الشرطة والجيش والشخصيات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وأحرقوا محلات الحلاقة وشطبوا المهنة كلياً، وأغلقوا دور السينما والمكتبات والصحف، ومنعوا الأطباء من معالجة النساء وسجنوهم في بيوتهن وبراقعهن السوداء السميكة.
وساقوا الناس بالعصا في الطرقات لإجبارهم على الصلاة، ومنعوا ارتداء الملابس الغربية واستعمال فرشاة الأسنان المستبدلة بالمسواك، وأحرقوا منتجعات للتزلج العالمي وفجروا أضرحة شعراء ومنعوا الرياضة المعتبرة مثيرة للجنس، وسرقوا محلات ومحطات وقود لتمويل عصاباتهم بالإضافة لفرض ضرائب جائرة على المواطنين وتسهيل تجارة المخدرات، وطوعوا الشباب رغم أنفهم ودربوهم للقيام بعمليات انتحارية، واستخدموا السكان كدروع بشرية في وجه تقدم الجيش الباكستاني ليتهموه بقتل المدنيين، وفجروا جسوراً استراتيجية وأحرقوا مقرات حكومية، ومنعوا مظاهر الحياة الحديثة وأعلوا ثقافة الانتحار والقتل فالحياة الحقيقية برأيهم تأتي بعد الموت، وأقاموا محاكم للجلد والرجم وقطع الأيدي والأرجل والرؤوس….. فالجائحة الطالبانية لم تختلف عن تسونامي إلا في أنها من صنع البشر فيما العاصفة من صنع الطبيعة.
لماذا باكستان الآن وليس دولة أخرى؟ فالأحزاب الإسلامية في أندونيسيا، أكبر دولة إسلامية -240 مليون-، خسرت في الانتخابات الأخيرة 12% من أصوات الناخبين، الذين صوتوا رغم تدينهم لأحزاب علمانية، أما في باكستان، ثاني أكبر دولة إسلامية -170 مليون-، فقد استفاد الطالبان من عوامل عديدة لتوسيع نفوذهم وأهمها، دور الدعوة الدينية في نشوء الدولة والاستخدام اللاحق لأسلمة المجتمع في الصراع مع الهند، مما مكن للمنظمات الأصولية التي تسامحت معها الحكومة الباكستانية وخاصة أثناء الوجود السوفييتي في أفغانستان وبعد خروجه، فدعمت الطالبان في الصراع مع أمراء الحرب حول من يستفرد بالسلطة.
كما أن ضعف المجتمع المدني بعد تعاقب الانقلابات والحكومات العسكرية حرم المجتمع من الحصانة ضد انتشار الأصولية التي يمكن مواجهتها بشكل أفضل في أجواء الديمقراطية. وإذا كانت الحكومات قد استخدمت هذه المنظمات كحليف ضد الهند والسوفييت، فقد عجزت عن منع تحولها للداخل الباكستاني بعد أن قويت شوكتها. وهو ما يحدث عادة، فقد دعمت أميركا “القاعدة” أثناء الحرب الباردة فانقلبت ضدها عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وقامت بعمليتها الارهابية في 11-9. واستخدم السادات الجماعات الإسلامية ضد معارضيه فقامت باغتياله. ودعم الشعب اللبناني حزب الله كحركة مقاومة ضد الاحتلال وعندما انسحبت إسرائيل كلياً من جنوب لبنان وجه أسلحته للداخل فاجتاح بيروت في 7 أيار لإرهاب اللبنانيين وإخضاعهم.
وتستفيد الطالبان من ضعف الدولة الباكستانية وفساد حكوماتها المتوالية التي فشلت في توفير خدمات كافية لمواطنيها، إذ أنها سعت للتسلح الكثيف وامتلاك السلاح النووي بدل الارتفاع بمستويات معيشتهم، ووصل الفساد للاقتطاع من المساعدات الدولية لملئ جيوب كبار المسؤولين. ويتجلى التقصير الحكومي خاصة في التعليم فالأمية ارتفعت من 20% عند الإستقلال إلى 50% الآن، وعملت الحركة الاصولية كبديل لإقامة عشرات آلاف المدارس الدينية التي صدرت إرهابيين للعالم وغذت الإرهاب المسلح الباكستاني.
كما أن فساد القضاء وبطء محاكماته والنقص في استقلاليته وعدالته، وفر للطالبان قبولاً من قطاعات مجتمعية للمطالبة باستبداله بقضاء “شرعي”. كما أن هزالة التواجد الحكومي في الأرياف مكن الطالبان من التمدد فيها وترويع سكانها المتروكين بلا حماية من أجهزة شرطة وجيش محتشدة في المدن أو على الحدود الشرقية مع الهند. يضاف إلى ذلك أزمات اقتصادية وصراعات أثنية وتمردات انفصالية وتجذر القبلية، فالتطرف الديني والقبلية في الغرب متلازمان مع رفض الخضوع للدولة الحديثة وقوانينها. يضاف إلى كل ذلك تحول الغرب لقاعدة آمنة للطالبان الأفغاني وما استتبعه من غارات أميركية على قواعدهم ومقتل مدنيين مما زاد المتعاطفين مع الطالبان الذين توهموا أنها الحل فيما هي المشكلة.
ورغم الاتفاقية التي عقدتها الحكومة مع الطالبان المتعرضة لانتقادات لاتهامها بالرضوخ للإرهاب وقبولها تطبيق الشريعة في وادي سوات مقابل وقف العنف وترك السلاح، فقد سارع الطالبان قبل أن يجف حبر الاتفاقية التي اقرها البرلمان، للتصريح بأن “الشريعة لا تسمح لهم بالتخلي عن سلاحهم وأن طموحهم تعميم حكم الشريعة في جميع البلاد”، وقرنوا القول بالفعل فأرسلوا مسلحيهم للتمدد خارج سوات باتجاه العاصمة، وهي ليست المرة الأولى التي ينقضون فيها الاتفاقيات قبل نفاذها.
ويرى المراقبون أنه جرى تحول في الرأي العام الباكستاني بعد التوسع الأخير فقد أدرك الناس أن الطالبان ذهبوا بعيداً هذه المرة. فإذا كانوا تعاطفوا مع مواجهتهم لأميركا، فغالبيتهم لا تقبل حكمهم الهمجي، وبدأت تدرك أن الخطر يتهددها من الطالبان وليس أميركا. وقد يكون هذا التغيير الدافع الذي جعل الحكومة تشن عليهم هجوماً واسعاً. والسؤال هو هل يتابع الهجوم حتى القضاء على عصابات الطالبان، فقد سبقه أكثر من هجوم توقف قبل إتمام المهمة. والبعض يعتقد أن تحرك الجيش لإظهار أن الحكومة رضخت لطلبات أميركا ولإقناعها بدفع مساعدات أكبر للجيش والتي وصلت خلال العقد المنصرم إلى أكثر من 10 بليون دولار.
وربما يكون فرار مئات آلاف المدنيين من مناطق القتال وسقوط قتلى بنيران الجيش والطالبان مبرراً لوقف الحملة العسكرية والعودة للمفاوضات، فالحكومة فضلت سابقاً إظهار القوة على الحدود الهندية والتفاوض على الجبهة الغربية، علماً بأنه يمكن حل الخلافات مع الهند وإحلال سلام نهائي معها وتعاون الطرفان مع الدعم الدولي لمواجهة الخطر الإرهابي الأصولي الذي يتهدد الجميع، وخاصة أن انهيار الحكومة الباكستانية قد يؤدي لحصول الإرهابيين على أسلحة نووية.
هل تتحول الباكستان من دولة ضعيفة إلى دولة فاشلة؟ إن مثل هذا الاحتمال أخطر بكثير مما حدث في الصومال التي تخلى عنها المجتمع الدولي ليتناهشها أمراء الحرب وقادة العصابات والمحاكم الإسلامية، فكانت النتيجة انتشار القرصنة في أحد أهم الممرات البحرية الدولية. بينما تحول باكستان إلى دولة فاشلة سيحدث زلزالاً مدمراً في المنطقة والعالم. إلا أنه ليس متوقعاً أن المجتمع الدولي سيترك باكستان لمصيرها كما في الصومال، ويبدو ذلك في الاهتمام الدولي الحالي والمساعدات المقرة لإيقاف الدولة الباكستانية على قدميها.
الطالبانية تخوض معركتها الأخيرة قبل انقراضها، فالعقلانية في تبني المفاهيم الحياتية سيسود في النهاية على أساس قوانين تتوافق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والحاجة الإنسانية، وليس مع نصوص الشريعة التي سنت لعصر مختلف. والجهاد الذي سيسود ليس إعمال القتل في الآخر المختلف، بل جهاد التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتمتع بالحياة وتوسيع الحريات وتبني الحداثة كنتاج لتلاقح الحضارات.
وكما عادت الطالبانية العالم وكفرته، فإن البشرية بأجمعها من جميع القوميات والأديان والطبقات والأجيال… مدعوة لمواجهتها ووضع حد لها كوباء عالمي.
ahmarw6@gmail.com
*كاتب من سوريا
الطالبانية والعالم المتحضر في الميزاناستاذ جورج , شكرا على هذا المقال الذي يصف ما عانت وتعاني منه البلاد التي تصل اليها الطالبانية – سمِّها باي اسم آخر ، فالاسم لا يهم – ولكني اعتقد انك توصلت الى نتيجة لا يؤيدها الواقع حيث قلت ” الطالبانية تقود معركتها الاخيرة قبل انقراضها ” . لا اعتقد ان احدا يوافقك على هذا. لننتظر نتائج الانتخابات في لبنان. الدلائل تشير الى ان حزب الله سيفوز بمقاعد اكثر مما حلم بها زعيمه نصرالله وساعتئذ سيُري “السيد نصر الله” العالم اجمع مَن هو وما هي اهدافه. كلنا نذكر كيف عاد الخميني الى ايران بعد فرار الشاه… قراءة المزيد ..