كانت مفاجأة سعيدة للسوريين، قبل غيرهم، أن ظهروا طوال أربعة أشهر من الانتفاضة أقل انقساماً وتخاصماً مما كان يقدر ملاحظون منهم ومن غيرهم، تابعوا تطورات السنوات الأخيرة في سورية نفسها وفي المشرق. وفي تقريرين لها، نشرا أخيراً، سجلت المجموعة الدولية لمراقبة الأزمات هذا الواقع السار: «لقد ثبت أن الشعب السوري مقاوم بدرجة مرموقة للميول الطائفية والانقسامية، متحدياً تنبؤات النظام الخاصة بصراع طائفي وبالأسلمة». و «لقد أدهشت قابلية السوريين لتجاوز الانقسامات الطائفية مراقبين كثيرين. وما هو أهم من ذلك أنها كذبت النظام الذي جعل التعيّش على مخاوف السوريين من الفوضى أو من بديل إسلامي عن حكمه صنعة له».
ليست «المجموعة الدولية…» جهة تكنّ عطفاً خاصاً على السوريين، ومركزيتها الغربية تدفعها، بالأحرى، إلى التفكير في المجتمع السوري كتراصف لأديان ومذاهب وإثنيات، متأهبة دوما للتصارع في ما بينها. فإذا سجلت هذه الملاحظة، وعادت إليها غير مرة في تقريريها، كانت هذه شهادة طيبة لوعي السوريين وحرصهم على وحدتهم.
ولكن نحن أهل البيت، وربما كنا نعرف أحسن.
فالضغوط الكبيرة المستمرة التي تتعرض لها البنية الوطنية للمجتمع السوري تثير أسوأ مخاوفنا. ومن هذه عنف منفلت، ولكن تمييزي بصورة واضحة، تمارسه السلطات ضد جمهور الانتفاضة؛ ومنها تعامل عدواني حقود يتعرض له ناشطو الانتفاضة المعتقلون (وهناك الآن سجل معقول من الشهادات المكتوبة في هذا الشأن). ومنها إعلام إجرامي وغير مسؤول، سارع في وقت مبكر إلى بث رسائل طائفية لا تخفى على أحد؛ ومنها انعدام حس تام سجلته كرنفالات النظام الاحتفالية، بينما البلاد في أزمة وطنية كبرى، وبينما هو يزعم أن ألفاً من عناصر الجيش والأمن قد قتلوا، دع عنك ألفين من القتلى المدنيين، وألوف الجرحى، وفوق الـ10 آلاف معتقل، وهذا كله من دون قول شيء عن استفزازات موضعية لا تحصى، في ميادين الاحتجاج (شاهد ملايين السوريين بعضاً منها) وفي المقرات الأمنية، ويجري فيها توجيه إهانات طائفية متطرفة في فظاظتها.
لذلك لا تفاجئنا كثيراً حوادث طائفية جرت في حمص مطلع الأسبوع الماضي. تتضارب الروايات في شأن ما حصل، ولكن ما لا شك فيه أن عنفاً طائفياً وقع في المدينة، ويحتمل أن عشرات الضحايا سقطوا بمحصلته. لا يجدي إنكار الواقع إلا في مزيد من الوقوع فيه. ولن يكون إلا محاكاة لسياسة النظام الذي جمع بين الإنكار وبين جعل القتل رياضة وطنية. العنف الطائفي شيء يوجب أن يتوقف المرء عن التحليل والبحث في الأسباب والمسؤوليات، ويأخذ قراراً بعدم الفهم، كي يدينه إدانة قطعية لا لبس فيها. فليس لأي جهد تفسيري، مرغوب دوماً بالطبع، أن يسبغ شرعية الفهم على ممارسات غير شرعية، وطنياً وأخلاقياً.
هل يبدو أننا نفتعل عفة طائفية؟ نفترض مجتمعاً ببكارة وطنية سليمة، لا تخدش حياءه تمايزات دينية ومذهبية، يجري استخدامها أدوات للامتياز والسلطة؟ ألسنا نغمض أعيننا عن أشكال متنوعة من التلاعب والتمييز الطائفي يعرفها السوريون جميعاً، وإن تواطأ أكثرهم على الإغضاء عنها؟ ليس كذلك. ندين الممارسات والخطابات الطائفية كي نرفض حصر خياراتنا بين عفة طائفية كاذبة، هي استراتيجية سيطرة نخبوية، وبين إباحية طائفية صفيقة، ترافقها دوماً، وهي استراتيجية سيطرة نخبوية مثلها. وقد لا يتأخر الوقت قبل أن نرى أهل العفة ينقلبون أهل إباحة، وينتجون فتاوى مناسبة لتغطية هذا التحول.
ونتكلم هنا كمواطنين ووطنيين سوريين، يشغل بالهم أولاً وأساساً التفاهم الوطني، لا كدارسين يهتمون أولاً بالفهم. ندرك أن التعارض بين مقتضيات الفهم والتفاهم الوطني (ما يتطلبه الفهم من تسمية الأشياء بأسمائها قد ينال من التفاهم الوطني، ولا نصون هذا إلا بصورة قد تنال من حقوق الفهم)، يؤشر الى قيام نظامنا السياسي الاجتماعي على الكذب والمخاتلة، وهو مسوغ إضافي لتغييره. إذ لا تلتئم أمة على باطل.
ولا نسدي معروفاً لأنفسنا بالقول إن النظام يتحمل المسؤولية عن أية تفجرات طائفية محتملة. هذا صحيح من وجهة نظر التحليل أو الفهم، لكنه محدود الفائدة من وجهة نظر العمل، واليوم عمل، ومن وجهة نظر المسؤولية التاريخية عن مستقبل البلد. نحن في غمار انتفاضة شعبية، يواجهها النظام بالحرب، وسيكون سعيداً جداً إذا انزلقت باتجاه نزاع طائفي. فمن شأن ذلك أن يحوِّل ما هو صراع بين قطاعات متسعة من المجتمع السوري وبين نخبة تسلطية امتيازية غير أمينة على البلاد، إلى صراع داخل المجتمع، فينال من البعد التحرري والوطني للانتفاضة، ويجعل أقوياء السلطة والثروة المتبلِّدين حَكماً بين الضعفاء المتقاتلين. أي حلاً. في الأصل قامت استراتيجية النظام على صنع أزمة ثقة وطنية مستمرة، تجعل السوريين خائفين من بعضهم أكثر من خوفهم من النظام الذي ينهبهم ويضطهدهم ويكذب عليهم جميعاً. لقد كان تفجر الانتفاضة حدثاً رائعاً بالضبط لأنها أبطلت هذه الاستراتيجية التي أشار إليها غير مرة تقريرا «المجموعة الدولية…» المشار إليهما فوق.
ثم أن من خصائص الصراع الطائفي أنه ما إن يتفجر حتى يبدأ بإنتاج أسباب دوامه، فلا يعود مهماً كثيراً تحديد من المتسبب الأول فيه، ويمسي الشيء المهم هو وقف الصراع بأي ثمن، ولو على حساب العدالة والحقيقة والحرية.
لذلك تشكل الإدانة الفورية لأية ممارسات طائفية، والحرص على تسجيلها بأمانة، ووضع الحقيقة في شأنها أمام الناس جميعاً، من دون اختزال أو تشويه، تشكل مساهمة رفيعة في الدفاع عن الانتفاضة واستمرارها إلى حين تحقيق أهدافها الوطنية التحررية. وهذا واجب يقع أولا على عاتق التنسيقيات المحلية، الأقرب إلى أرض الواقع الفعلي، والتي تشغل عملياً موقع قيادة الحراك الاحتجاجي.
إن تقديم رواية أمينة عما جرى في حمص، وفي قطنا، الأسبوع الماضي، وعما قد يجري هنا أو هناك، لا يقل شأناً عن أنشطة الانتفاضة الميدانية والتنظيمية. للمثقفين أيضاً دور كبير في هذا الشأن، وكثير منهم قاموا بأدوار مشرفة فعلاً. أما تنظيمات المعارضة التقليدية فلا يكاد المرء يتوقع منها شيئاً.
قد يظهر في النهاية أن ما وقع في حمص، وقطنا، حوادث معزولة ليس لها ما بعدها. هذا هو المطلوب. لكن ليس من المناسب الآن الركون إلى هذا التقدير. ولعل الذهنية المناسبة في أوساط الانتفاضة تقوم على وجوب مواجهة كل حادث قتل طائفي كأنما هو قتل للسوريين جميعاً، وأن يرفض الثأر الطائفي قطعاً. فالنظام ليس قدوة لنا في هذا الشأن، أي في أي شأن.
* كاتب سوري