غالباً ما يكون تعريب مقالات أنطوان قربان صعباً! ولا يفيد اللجوء إلى “القاموس” لتعريب كلمات-مفاهيم، مثل كلمة térritoire التي أورد لها الصديق جبّور الدويهي مقابلاً لغويا ضيّقاً هو”الإقليم”. وكان يمكن أن يستخدم تعبيراً متداولاً في “المشرق” هو تعبير “البرّ” (مثلما يُقال “برّ الشام”)، أو “الداخل”، أو حتى “الضواحي” (“ضواحي المدن”، أو ربما “إقطاعات المدن”)، أو ربما تعبير “القضاء” الذي اعتمده العثمانيون (“قضاء بيروت”، و”قضاء صيدا، إلخ).
ويمكن أيضاً أن يُستخدم تعبير “الأرياف” مقابل المدن، وهذا ما لاحظه كتاب عراقيون تحدثوا عن “ترييف” العراق في عهد صدام (إحياء الظاهرة العشائرية)، وكذلك ميشال كيلو وغيره في حديثهم عن “ترييف” سوريا.
وإذا توسّعنا في شرح فكرة أنطوان قربان، يمكن الحديث عن هجمات “البداوة” على “مدن المشرق” في مراحل تاريخية عدة، وخصوصاً في القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر. والمقصود هجمات “البداوة” على الشريط الساحلي الممتد من فلسطين إلى الشمال السوري.
هل تندرج ضمن تعبير “البرّ”، و”البداوة”، و”الريف”، الحركات الدينية “الأصولية”، سنّية أم شيعية (“القاعدة”، أو “حزب الله”،أو “داعش”..)، التي تكاد تلتهم “دول” المشرق، أي “مدنها” وتراثها المديني؟
بيار عقل
*
نظّمت جمعية سانت إيجيديو العالمية والإتحاد الأوروبي ومحافظة ليفورنو في المركز الأوروبي- المتوسّطي في ليفورنو، مؤتمراً بحثياً من 27 إلى 29 أيار، عنوانه “المدينة تريد أن تعيش”، الهدف منه إعطاء الكلام لمدن المتوسط للبحث معاً عن رؤية مشتركة تشكل ميزة المدينة في المتوسّط. الباحث اللبناني أنطوان قربان قدّم مداخلة بالفرنسية في المؤتمر، باسم بيروت، قام بتعريبها الروائي جبور الدويهي.
*
أتوجّه بالشكر الى جماعة سانت إيجيديو التي تكرّمت بدعوتي الى هذا اللقاء العائلي العريق لأولاد المتوسط لأتحدّث باسم بيروت، مفتاح المشرق. سأستخدم اللغة الفرنسية لأتكلم باسم مدينة بيروت. فمن كل لغات الحضارات، لعلّ الفرنسية هي بين تلك التي تمكنت من تجسيد الروح العالمية لمنطقة المتوسّط.
ستتمحور مداخلتي حول ثلاث أفكار رئيسية: المدينة والبحر، ما أسمّيه بأمثولة صور. المدينة والعيش المشترك، التي سأطوّرها من خلال مفهوم “حرب الأقاليم ضدّ المدينة”. التحديات الحالية للعيش المشترك في لبنان والشرق الأوسط، التي سأحاول تجسيدها من خلال التمييز الذي يفرض نفسه بين الهوية والمواطنية. لن أعمد الى تطوير تلك الأفكار الثلاث بشكل منفصل بعضها عن البعض الآخر، ولا بشكل تعاقبي، لكنها ستشكّل اللحمة التي سأبني عليها طرحي. وسترتسم ضمناً، وراء كلّ كلمة سأقولها، مدينة بيروت، مدينتي.
أمثولة صور
القول بأن للمتوسط ضفتين يعني تصويره كهوّة تفصل بين عالمين: أوروبا شمالاً والعالم العربي جنوباً. لكن القول بأن للمتوسط ضفّة واحدة تحيط بها من جميع الجهات، يعيد إلى “بحرنا” mare nostrum الصورة التي لطالما كانت
له: صالون لقاءاتنا، منزلنا المشترك، الحيز الواحد لعيشنا معاً ومهد الكوزموبوليتية التي ابتكرتها أمبراطوريات المتوسّط.
في روايته الغامضة “المدن الخفية” Les Villes Invisibles، يتحدث إيتالو كالفينو عن لقاء رائع بين السلطان المغولي كوبلاي خان وماركو بولو الذي قال له:
– سيدي، لقد حدّثتك عن كل المدن التي أعرفها.
– هنالك مدينة لا تحدثني عنها البتة.
أحنى ماركو بولو رأسه.
– البندقية، قال الخان.
قال ماركو بولو، في كلّ مرة أصف فيها مدينة، أقول شيئاً عن البندقية…، لأميّز خصائص المدن الأخرى، عليَّ الانطلاق من مدينة أولى لا آتي على ذكرها. إنها البندقية.
بالنسبة لي، إنها بيروت المدينة الأم. في هذا المكان هنا. وفي هذه اللحظة، العالم بالنسبة لي يُدعى بيروت. بيروت، التي سمّاها أمبراطور بُروسيا وليم الثاني “لؤلؤة التاج العثماني“. بيروت التي سمّاها الكاتب اللبناني والمثقف الكبير، كميل أبو صوان، “مصباح بيزنطيا الأخير” ليقول إنها الملاذ الأخير للكوزموبوليتية المتوسطية. بيروت، وارثة صور التي تحدّث عنها النبي حزقيال: “أيا صور، كنت تقولين: إنني سفينة في غاية الجمال. مملكتك وسط البحار… وكان حكماؤك ربابنتك… كانت سفن البحار كافة… ترسو على شواطئك بهدف الاتّجار”. نعم، الاتّجار . نعم، التجارة.
هذا هو نموذج المدينة في حوض المتوسط: صور الأمثولة. لا شكّ أن البندقية هي أفضل من فهم هذه الأمثولة الكبيرة. من القرن الرابع الى القرن الثالث عشر، كانت القسطنطينية، أو روما الجديدة، القوة الوحيدة التي لا تُقهر، لأنها بحكم انفتاحها على البحر، كانت المدينة الملكة التي تصل إليها كل طرق المبادلات التجارية. لم يكن أحد قادراً على منافستها، إلى أن تسلمت ابنتها، البندقية، الراية مكانها. على رغم من موقعها الفريد من نوعه عند ملتقى البحار، بقيت القسطنطينية وفية لعقيدة روما الإقليمية. وحافظت على الرغم من كلّ شيء على دينامية جاذبة نحو المركز: الطرق كافة تصل الى روما. في حين أصرّت البندقية الفطنة على اعتماد استراتيجيا معاكسة، طاردة، على غرار صور.
بذلك صدّرت البندقية ذاتها الى الخارج. فهمت صاحبة السمو (أي البندقية) أن حيّز المدينة يتخطّى بشكل كبير الفضاء الجغرافي لها، وأن كل شخص يحمل معه “مدينته” الخاصة المعلّقة بنعل حذائه.
ستقولون إنها نزعة تجارية أو مركنتيلية؟ ربما. لكن التجارة لطالما كانت أهمّ وسيلة لنقل الحضارة والثقافات والديانات. ولطالما شكّلت التجارة أحد أنماط العيش المشترك. وإن مدينة ليفورنو حيث نحن موجودون الآن برهان لافت على ذلك.
أمثولة صور؟ النزعة الفينيقية؟ الانتماء الفينيقي؟ لِمَ لا، لكن شرط ألا نعطي هذه التعابير منحى قومياً أو نوظّفها لصالح عصبيّة فئويّة كما فعل المنظّرون للانتماء اللبناني منذ بداية القرن العشرين.
أفضل إجلال لهذا النموذج صدر عن المنظّر العقائدي للنازية، ألفرد روزنبرغ، الذي كان ينتفض على كلّ ما هو “فينيقي”، معتبراً إياه معدياً ومدمّراً، ومناهضاً لقيم العِرق الشمال أوروبي. لا بد ان نفخر بشهادة كهذه تمتدح بشكل غير مباشر هذا الانتماء المديني المتوسطي القائم على ثلاث ركائز:
نمط الفينيقيّة أو روح التبادل على أنواعه وإنشاء شبكات التواصل؛
نمط الهيلينيّة أو تلاقح الثقافات والكوزموبوليتية أي الرؤيا الكونيّة؛
نمط الروميّة أو روح الانتماء المديني (الروماني)، التي تشكل إطاراً مثالياً للعيش المشترك، في ظلّ الحقّ والقانون.
تشكّل أيضاً تلك الركائز الثلاث للعيش المشترك القاعدة التي بُني عليها بلدي لبنان، الذي وصفه البابا مار يوحنا بولس الثاني بأنه “أكثر من بلد”، بأنه رسالة سلام. إن رسالة السلام هذه مهشّمة اليوم بشكل كبير. فما يشكّل ركيزة أساسية لبلدي ناتج من استمرار عنصري العيش المشترك هذين اللذين يتخطّيان إطار الزمن، أي المسامحة والمصالحة، وصمودهما.
إن لبنان الرسالة، والشرق الأوسط في مجمله، هو سلسلة متجددة باستمرار من المصالحات بين ثقافات المتوسط وروحانياته: بين أوروبا والعالم العربي، أو بين الشرق والغرب؛ بين متخيّل الديانات التوحيدية المسلمة والمسيحية، إنما ايضاً اليهودية؛ إنما أيضاً مصالحتان دينيتان مسكونيتان: بين المسيحية الأرثوذكسية والمسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية أيضاً؛ بين الإسلام السنّي والإسلام الشيعي.
هذا ما أصرّ عليه البابا بينيديكتوس السادس عشر في خطاب الشهادة الذي ألقاه في بيروت في أيلول 2012 في القصر الرئاسي: “لأن وحده الصفح الذي يؤخذ ويعطى يضع الأسس الدائمة للمصالحة والسلام للجميع”.
إن أفضل وسيلة لي للتعبير عن فكرتي هي باستذكار الشخصية العريقة صاحب التجربة الكبيرة، غسان تويني. فهو من أعطانا أفضل أمثولة حول ضرورة العيش المشترك التي تفرض المحافظة على عنصري المسامحة والمصالحة.
في كانون الأول 2005، وقع ولده جبران ضحية اغتيال جبان، في سياق الاعتداءات التي زعزعت حياتنا العامة منذ مقتل رفيق الحريري. وقف غسان تويني الذي كان يضنيه الألم أمام أيقونسطاس كاتدرائية القديس جاورجيوس. وتوسّلنا، وهو واقف أمام نعش ولده، لرمي كل مشاعر الكره والحقد في نعش جبران. قال: “موتنا قيامة، فلندفن مع إبني أحقادنا ولندفن الثأر الذي فينا”. تخطّى ألمه الى أقصى الحدود وسامح، باسم إيمانه المسيحي طبعاً إنما أيضاً باسم مدينة بيروت. فالحرص على العيش المشترك كان أهمّ من حزن هذا المواطن الكبير. تصرّف غسان تويني كحارس مدينة بيروت، كما فعل قبله الخطيب ليبانيوس في أنطاكيا.
المسامحة والمصالحة، هذان هما محرّك العيش المشترك.
كان غسان تويني، على غرار نيكولو ماكيافيلّي في الحقيقة، مدركا لهشاشة الجسد المديني، وان المدينة قابلة للمرض فالموت. كان مدركا لرهان هيمنة الشمولية الكبير هذا الذي قد يقضي على العيش المشترك، والذي سمّاه جاك بوشار بـ”معركة الإقليم ضدّ المدينة”، أو الحظيرة الانتمائية ضدّ الحيّز العام المديني المواطني.
منذ العام 1975، تحاول مدينتي بيروت الصمود من خلال صدّ التأثيرات المدمّرة لهذه المعركة.
تطرح في الواقع معركة الأقاليم مسألة مقلقة هي مسألة الوحدة السياسية. فما هو قائم اليوم، بهذا الكمّ من العنف، هو في الحقيقة محاولة للردّ على السؤال الآتي: ما الذي يؤسّس للوحدة السياسية: هل هي منطقة الانتماء أو الانتماء المناطقي، أي التناغم الإتني والطائفي والديني والعرقي، الخ؟ أم أنها المدينة التي تشكّل فضاء للحيّز العام وتعددية العيش المشترك في ظلّ الحق والقانون؟
لطالما كان جواب المتوسط: المدينة.
صدّقوني، إن الدين لا يؤسّس للوحدة السياسية ولا للسلام بين الشعوب. الخطاب اللاهوتي حول هذا الموضوع يفرّق الأفراد داخل الحيّز العام ولا يجمعهم.
“إن حمل رجال السياسة على الإقرار بأولوية المدينة (Polis) محاولة بائسة لأن السياسيين لا يهتمّون بسوى الأقاليم. إن الأرض الموحلة للحقول والسياج هي التي تشكّل قاعدة نفوذهم” (ج. بوشار). من الواضح أن مبدأ المدينية غريب بالنسبة إليهم.
عندما يجد رجل السياسة نفسه في مواجهة مع الحيّز المديني، سرعان ما يتصوّره بشكل أقاليم حيث من الممكن ممارسة النفوذ. هو عاجز عن إدراك ذكاء المدينيَّة وعبقرية المدينة التي لا تفنى، إلا إذا كان رؤيوياً كبيراً على غرار لورينزو العظيم أو كوزمو دي ميديتشي.
هذا الرهان الكبير الذي أتيت على ذكره للتوّ ينطوي على أزمة عميقة يواجهها العالم العربي اليوم. إن الصراع بين المدينة والإقليم هو طريقة أخرى لتصوير التناقض بين الفرد والمجموعة، بين المواطنية والهوية. لكن إذا ما تخطّينا تلك التناقضات، يتراءى لنا التمييز الواجب القيام به بين: التعايش coexistence وهو من مصطلحات الجماعة، تالياً الأقاليم الانتمائية وسلطة الحشود المجسّدة بالقائد. والتشارك أو العيش معاً، vivre-ensemble/convivance أي أن نكون معاً، أي أن أكون أنا الآخرين جميعهم. ينتمي هذا التعبير الى مصطلحات الفرد في تناهيه، تالياً المواطن، تالياً المدينة Polis/Urbs/Civitas.
في العام 2004، أدخلت الأكاديمية الفرنسية عبارة “التشارك معاً في الحياة” convivance الجميلة التي تأتينا من كلمة convivencia من أندلس العرب.
إن الإسلام الذي نتحدث عنه كثيراً اليوم، ديانة مدينية في جوهرها، أو ديانة مدنية على صورة روما القديمة. عندما غادر محمّد، نبيّ الإسلام، مكّة الى يثرب هو وصحابته، كان يحمل فقط رسالة روحية. بعد وصوله الى يثرب حوّل إسمها الى المدينة، وأسس نظاماً مدينياً أو سياسياً فوضع قواعد الدولة. وقد توصّل بصفته قائد مشروع سياسي ذي طابع ديني، الى توحيد قبائل الجزيرة العربية وفتح مكّة.
بيروت وهشاشة النظام المديني
لماذا تشكّل المدينة الإطار الأفضل للعيش معاً؟
بغية الردّ على هذا السؤال، سآتي على ذكر نصّين معاصرين من القرن الخامس، أحدهما من منطقة المتوسط الغربية والثاني من منطقة المتوسط الشرقية. عندما دمّر الاريك الغاليAlaric le Gaulois مدينة روما في العام 410، قام الشاعر الغالي RutiliusNamatianus
روتيليوس ناماتيانوس، بمديح المدينة المدمّرة:
عندما منحت شراكة قانونك العادل للمغلوبين
صنعت مدينة مما كان سابقاً العالم.
إنه العالم الذي يتفرّق في مدن عدّة هي أماكن للعيش المشترك في ظلّ القانون، وليست مدن العالم هي التي تتجمّع مع بعضها البعض في قرية واحدة محورية ومعَولمة.
بعد سنوات، كتب نونوس يانّوبوليس، الاسكندراني الأصل، مديحاً في بيروت التي كان يحبّها بسبب مدرسة الحقوق القائمة فيها، أشبه بصدى كلمات روتيليوس: “إن الخلافات (الفتنة) الذي تفكّك الدول ستظلّ تهدّد السلام الى أن تصبح بيريت، ضامن القانون، قاضي البرّ والبحار، عندما ستصون المدن بحصن قوانينها“. إن الحق هو الذي يؤسس المدينة ووحدة مجتمعها السياسي، لكن القانون هو الذي يحمي شراكة العيش معا.
يمكن لهذين المقتطفين لروتيليوس ونونّوس أن يلخّصا الكوزموبوليتية المتوسطية.
هذه المفاهيم مرتبطة بحقيقة واحدة، حقيقة الإنسان الذي يمكنه، بفضل الانتماء المديني والحيّز العام، أن يتمتّع بسلام وبحرية كاملة بالتناهي الذي لا يمكن تجاوزه لفرديته وكرامته المصونَين. لكن النظام المديني، والنظام السياسي الناتج منه، هشّان للغاية. هذا ما كان غسان تويني مدركاً له بشدّة، هو الذي قرأ أرسطو وإبن خلدون ونيكولا ماكيافيلّي. لا شكّ أن هذا الأخير هو أفضل من فهم هشاشة السلام في المدن وانعدام استقراره الدائم.
قد يُصاب كيان المدينة بالمرض ويوافيه الموت. فتناغمه المتناسق، تالياً راحة جميع المواطنين، مهدّد بالهيمنة، إيّاً كان مصدرها: سلطة تعسّفية أو سلطوية؛ العقلية المهنية، ثمرة الهواجس الانتمائية، التي سماها إبن خلدون العصبية؛ أو حتى مخاطر محدّدة أكثر هي: الخلاف. الفتنة. إن أي شكل من أشكال الهيمنة يفترض تحويل المدينة الى أقاليم، تالياً تفكيكها.
إن العصبية، محرّك الحروب الانتمائية، لا تتوافق تالياً مع الانتماء المديني. إن العصبية تؤدي الى انحلال مزدوج: أولاً، إنها تعيد الفرد الى موقع عنصر في خدمة مجموعة يُنظر إليها كحشد أو كيان مكتمل. “المنحى الانتمائي يجعل الفرد والمواطن مجرّد خدّامينمتفانين للمجموعة” (فرنسوا ثوال). ثانياً، تلخيص المجموعة نفسها في فرد واحد: القائد.
كتب فرنسوا ثوال، “إن الصراعات الانتمائية “حروب غير مجدية”. فمصالحها الاستراتيجية تتخطّى الحدود الوطنية، إنها “حروب الآخرين” كما قال غسان تويني. المتحاربون في تلك المعارك يتقاتلون بصفتهم “أنا” و”أنت” وليس للمحافظة على مصالح محدّدة. لذا فإن الانقباضات الانتمائية هي الأوبئة الأسوأ بالنسبة للعيش المشترك، للعيش معاً.
ضمن إطار مماثل، أصبح قتل المدينة هدفاً أولوياً. هذا ما سمّاه رئيس بلدية بلغراد بوغدان بوغدانوفيتش جريمة قتل المدينة. فالحيّز المديني هو بحدّ ذاته العدو.
لقد شهدنا منذ العام 1975 على استشهاد بيروت قتلاً. وقد شهدنا على قتل المدينة في ساراييفو ودول البلقان. وها نحن نشهد اليوم على قتل المدينة الذي يتم تنفيذه في سوريا على صعيد مروّع. يترافق قتل المدينة دائماً مع التطهير الإتني والإبادة الإتنية والقتل الجماعي. لطالما كان قتل المدينة تعبيراً عن “أنا” جماعية متضخّمة هي من حيث الأساس معادية للآخر، تالياً للعيش معاً.
بيروت الصمود والسلام
وراء أعمال العنف المروّعة التي تشهدها سوريا ومنطقة الشرق الأوسط، يرتسم مشروع ولادة طويل الأمد لانسان عربي جديد لا يخاف التحاور مع الحداثة. كلّ شيء مرتبط في النهاية برهان أنتروبولوجي: ما هو الكائن البشري؟
سيداتي سادتي، إن الرجل العربي يبحث عن ذاته. إستمعوا إليه. ليس من خلال ذكرى الحملة الصليبية بل من خلال القلب النابض للمتوسّط. بالنسبة للفكر المعاصر، الكائن البشري يكتفي بنفسه. إنها النقطة الأساسية للخطاب الرائع الذي ألقاه البابا بينيديكتوس السادس عشر في أيلول 2012 في قصر بيروت الرئاسي. فقد دافع عن ثقافة إنسانية شاملة كركيزة للنظام السياسي والعيش معاً في عالمنا المعولم. لا ترتكز هذه الثقافة الإنسانية الشاملة على الألوهية ولا على الأنتروبولوجيا. فالإنسان ليس عبداً لله ولا خصماً له. إنه في الوقت نفسه تناهٍ وتسامٍ.
إن كانت الحداثة تعتبر كرامة الإنسان معطى طبيعياً، فأن آباء الكنيسة كانوا يعتبرونها مرادفاً لمجد الله في هذا العالم. لذا ليس هنالك من سبب شرعي للاعتقاد بأن العالم العربي المسلم قد يكون معادياً لحقوق الإنسان، طالما أن هذه الحقوق لا تعبّر عن تصادم مع الألوهية.
بيروت اليوم هي ملتقى الرهانات التي تعبر هذا العالم العربي الذي يبحث عن طريقه. يتلاقى فيها باستمرار: من جهة، المحافظة على العيش المشترك بفضل الدينامية الاستثنائية للمجتمع المدني. على سبيل المثال، سيتم خلال الأسابيع المقبلة افتتاح كنيس بيروت الكبير، ماغين أبراهام، الذي تم الانتهاء من ترميمه. إنه من أفضل صروح إرثنا. من الجهة الأخرى، عجز السلطة السياسية بشكل كبير عن صدّ التأثيرات المنحرفة للعصبيات المختلفة التي تغذّي الخلاف والفتنة، والتي تهدّد وحدة الحيّز العام.
تتنازع لبنان، على غرار العالم العربي في مجمله، رؤيتان لا يمكن التوفيق بينهما: المنحى الانتمائي بشكل مشروع تحالف للأقليات، والمنحى المواطني الذي يرتكز على هذه الثقافة الإنسانية الشاملة التي تحدث عنها بينيديكتوس السادس عشر.
للوهلة الأولى، يبدو أن المنحى الانتمائي هو الأقوى. فهو يتسبّب بتشويه تقليد العالمية في مجمله الذي تتّسم به منطقة المتوسّط. وهو ليس مجرّد “كابوس جيوسياسي، إنه كابوس قضائي لأنه في الفكر الانتمائي، لا وجود للمنحى الإنساني وللإنسان. سيؤدي المنحى الانتمائي، إذا أفسحنا له المجال، الى دفن المنحى الإنساني، لا بل الإنسانية بحدّ ذاتها” (ف. ثوال). إذا أفسحنا له المجال، هنالك إمكان كبير في “ألاّ يعود الأمر بمثابة إستعادة للطابع القبلي، بل استعادة للطابع الوحشي” للإنسان.
من خلال التأكيد، بقساوة، لأسبقية المجموعة على الفرد، باسم المحافظة على الهوية الجماعية، يؤدّي المنحى الانتمائي الى توليد أنظمة توتاليتارية أسوأ من تلك التي شهدها القرن العشرون. لا شك ان الاقليمية والانتمائية هما أكبر الأخطار المعاصرة التي تواجهها العولمة. يتساءل ثوال: “هل ينجح المنحى الانتمائي في إعادة الحالة البربرية والهمجية كأفق مشترك للقرن الحادي والعشرين؟”
عند قراءتنا لوسائل الإعلام، يظن البعض أن الوضع في الشرق الأوسط يقتصر على المحافظة على وجود الأقليات الديموغرافية الدينية. إن الجميع قلق إزاء مصير المذاهب المسيحية الشرقية، ويكادون يتناسون المجموعات الأخرى الدينية أو الإتنية أو اللغوية. حماية الأقليات؟ ضدّ من تحديداً؟
أرجوكم، كفّوا عن اعتبارنا مجرد تحف أو ذخائر تاريخية ثمينة. نحن كائنات بشرية. طبعاً هنالك مكوّنات جماعية عديدة ومتعدّدة في العالم العربي: إتنية، لغوية، دينية. لكن هنالك أيضاً إنسان عالمي في العالم العربي. هنالك أقلية واحدة في كلّ من دول العالم العربي، هي التي يجب مساعدتها في جهد المقاومة الذي تبذله.
ليس لهذه الأقلية لون طائفي أو زائف، لأنه لون جميع هؤلاء الرجال والنساء المدركين لتناهيهم الفردي والحرصاء على كرامة كلّ شخص على حدة.
إنها أقلية الرجال الأحرار الذين يتشرفون بمواطنية مرتكزة على القانون وليس على الهوية. هذه هي حقّاً الثقافة الإنسانويّة أو الإنسانيّة الشاملة التي تشكل حجر الزاوية لنظام الغد السياسي في منطقة المتوسط.
هذه هي رسالة الأمل الذي كلّفتني مدينة بيروت نقلها إليكم.