هل الصين محصورة في الكيان الذي عاصمته بكين؟ هذا سؤال مهم طرحه مؤخرا في مقال مطول له الباحث الامريكي تشارلز هورنير زميل معهد هيدسون ومؤلف كتاب “بزوغ الصين”. واتبعه مذكرا وشارحا بأن جماعتين تنازعتا السيطرة على الصين منذ سقوط آخر سلالاتها الإمبراطورية في 1912 ، وهما جمهورية الصين الوطنية التي فرضت سيادتها منذ 1949على جزيرة تايوان ذات الـ 23 مليون نسمة (حاليا) ، وجمهورية الصين الشعبية التي فرضت سيطرتهاعلى كامل اراضي البر الصيني وإنتهجت العقيدة الشيوعية والاشتراكية.
في أعقاب نشؤ هذا الوضع إفترض الكثيرون أن تايوان سرعان ما ستختفي عن الخارطة على يد السلطة القائمة في البر الصيني بحكم فارق القوة والإمكانيات، غير أن خوف التايوانيين من إحتمالات إبتلاع كيانهم المنفصل جعلهم يلجأون إلى دمقرطة مجتمعهم من بعد عقود من ديكتاتورية حزب “الكومينتانغ” الحاكم الذي كان يستند فقط الى شرعية وإرث قائده الماريشال “تشيانغ كاي شيك” مؤسس الصين الوطنية. فإبتداء من 1987 تم الأخذ بالتعددية السياسية في تايوان، وتحولت قوى المعارضة إلى أحزاب علنية، وصار رئيس البلاد ينتخب مباشرة من الشعب، وتحررت وسائل الإعلام من الرقابة. أما في البر الصيني فقد إستمر حكم الحزب الواحد، لكن مع إنفتاح إقتصادي وإبتعاد عن السياسات الخارجية الراديكالية منذ أواخر السبعينات، الأمر الذي حقق لبكين نفوذا ومكانة عالمية جعلتها تطمح إلى لعب دور القوى العظمى على الساحتين الإقليمية والدولية، ناهيك عن طموحها المعروف في تأسيس وقيادة “الصين الكبرى”.
ولئن كان مصطلح “الصين الكبرى” إستخدم في ما مضى للإشارة إلى أراض تشمل البر الصيني والتيبت وهونغ كونغ ومكاو وتايوان، فإنه يستخدم اليوم داخل الدوائر الصينية الضيقة للإشارة إلى ما سبق مع إضافة كيانات أخرى من تلك التي تعود أصول غالبية سكانها أو نسبة معتبرة منهم إلى العرق الصيني، مثل سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا. وهذا ينسجم مع النظرية الدارجة عند البعض العاطفي بأن القرن الحالي هو قرن صيني بإمتياز، بمعنى أن بكين سوف تنجح خلاله في مد نفوذها وبسط هيمنتها على البحار والمحيطات وموارد القارتين الإفريقية واللاتينية والتحكم بالتالي في اقتصاديات العالم.
ولعل ما يغري بكين في إدخال سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا ضمن مصطلح الصين الكبرى هو ثقتها بولاء سكان هذه الدول المنحدرين من أصول صينية لوطنهم الأم. هذه الثقة التي ربما عززها عاملان: الأول هو ما لوحظ على هؤلاء من محافظة شديدة على لغتهم وتقاليدهم الصينية وعدم قطع صلاتهم في أي وقت من الأوقات مع وطنهم الأم منذ هجرتهم إلى مجتمعاتهم الجديدة، وإنْ إعترفوا بأن ما وصلوا إليه من ثراء أو تأهيل علمي أو نفوذ سببه الفرص التي أتيحت لهم في ظل حكم الإستعمار البريطاني لسنغافورة وماليزيا وهونغ كونغ، وحكم المستعمرين الهولنديين لإندونيسيا.
والثاني هو حقيقة أن الصينيين الذين توزعوا في دول جنوب شرق آسيا منذ القرن التاسع عشر لم يبخلوا قط في مساعدة وطنهم الأم في أوقات الشدائد، بدليل ما قدموه من أموال إلى الزعيم الوطني “صن يات سين” من أجل الإطاحة بسلالة “قينغ” الإمبراطورية وإقامة النظام الجمهوري، ثم ما قدموه له بعد ذلك من تبرعات من أجل إقامة المؤسسات الدستورية. هذا ناهيك عما قدموه من دعم مادي وسياسي لاحقا لمقاومة اليابانيين الذين إحتلوا مساحات شاسعة من الأراضي الصينية خلال الحرب الباسفيكية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل هؤلاءالمواطنون الآسيويون من ذوي العرق الصيني الموزعون في دول جنوب شرق آسيا مستعدون فعلا للتخلي عما ينعمون به في مجتمعاتهم من أجل فكرة سرابية كفكرة “الصين الكبرى”؟ وهل تستطيع بكين فعلا أن تغري أحدا لتبني تلك الفكرة والدفاع عنها وهي التي رغم كل ما بلغته إقتصاديا وصناعيا لا تزال تكمم الأفواه، وتتماهى مع سياسات الأنظمة القمعية في العالم، ناهيك عما يعصف بها من مشاكل داخلية كالفساد والتلوث البيئي والإنفجار السكاني والعصيان المسلح وخروقات حقوق الإنسان وتفاوت مستويات المعيشة ما بين الأرياف والحواضر؟
الإجابة، بطبيعة الحال، هي لا! ذلك ان أي إنسان عاقل وناضج، سواء أكان من صينيي سنغافورة أو ماليزيا أو إندونيسيا أو غيرها سوف يفكر ألف مرة قبل القبول بأن يكون من رعايا دولة كالصين، وإن كانت الأخيرة كبرى وذات نفوذ عالمي يتجاوز بكثير نفوذ ومكانة البلد الذي يحمل هويته. ففي ظل الأخيرة، التي تفتقد الإنفتاح السياسي والشفافية، سيفتقد هؤلاء لامحالة كل ما نعموا به طويلا من رخاء وحريات وحقوق في مجتمعاتهم. ولعل تجربة الهونكونغيين الذين تركتهم بريطانيا فجأة في 1997 ، من بعد مائة عام من الإستعمار المعطوف على عملية تحديث وتنمية مدهشة، لمصيرهم تحت إدارة بكين فذاقوا ما ذاقوه من تعسف وقمع وتدخلات على يد الأخيرة خير شاهد على ما قد ينتظرهم. ثم من يضمن لهم ألا يحدث صراع داخل الطبقة الحاكمة في بكين فيقفز إلى السلطة زعيم دموي أحمق مثل المعلم “ماو تسي تونغ” الذي دمر الصين وأوصلها إلى الهاوية بنزعاته الشوفينية وسياساته الراديكالية وتجاربه العبثية، إبتداء من الوثبة الكبرى وإنتهاء بحربه ضد الطيور ومرورا بثورته الثقافية المجنونة التي قضت على خيرة المثقفين والموهوبين وأفراد الطبقة الوسطى المتعلمة، قبل أن تستعيد الصين روحها الأصيلة بموت ماو في 1978.
نعم، لقد شقت الصين طريقها بصورة سريعة تثير الإعجاب بــُعيد وفاة ماو. وصحيح أنّ ذلك ما كان ليحدث لولا الدعم القوي الذي قدمه المتنفذون والرأسماليون من صينيي المهجر إلى إخوتهم في الداخل من أجل مساعدة بلدهم الأم على الوقوف على قدميه مجددا. لكن هذا لا يعني أنهم موافقون أو متماهون مع ما يجري فيه اليوم من كبت للحريات وتمييز ضد الأقليات وتباين تنموي ما بين المقاطعات الريفية والمدن الكبرى. وإذا ما إستحضرنا دور المهاجرين الصينيين، ولا سيما في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وأوروبا، منذ الخمسينات في رفد حركة التنمية والتصنيع والنهضة وصناعة المعرفة في تايوان، يوم كانت الأخيرة المتحدثة الرسمية بإسم كل الصينيين، لأمكننا القول أن هؤلاء قد لا يمانعون من ان يكون لهم شكل من أشكال الارتباط غير الرسمي بالصين الصغيرة التي تتقاطع ملامحها السياسية والإقتصادية والتنموية كثيرا مع ملامح مجتمعاتهم الحالية أكثر من تحبيذهم لإرتباطات مع الصين الكبيرة، خصوصا وأن فرضية إبتلاع بكين لتايبيه صارت مستبعدة في المدى المنظور، بفعل تحسن علاقاتهما البينية وما يجري على هامشها من تعاون تجاري وتكنولوجي وإستثمارات متبادلة.
ففي 2010 كان نصف المليارات المائة من الاستثمارات الأجنبية القادمة من جنوب شرق آسيا هي من تايوان وحدها التي تعتبر رابع أكبر دولة في العالم لجهة إحتياطياتها من النقد الأجنبي (نحو 400 بليون دولار)، مع تركزها في المناطق الساحلية المطلة على مضيق تايوان. وهذه الإستثمارات لم تخدم بكين في توفير تكنولوجيات متقدمة مطلوبة وتحسين بنيتها ومرافقها التحتية، وإنما خدمتها أيضا في إستيعاب عشرات الملايين من الأيدي العاملة المهاجرة من الأرياف إلى المدن الصناعية المزدهرة بحثا عن تحسين مستوياتها المعيشية.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh