هل يستحق لبنان من ناسه وشبابه كل التضحيات التي قدمت من شهداء وجرحى، وأحلام وأفكار، وكذلك مشاريع بنيت، واستمرت أو توقفت بفعل الظروف القاهرة؟ هل يستحق وطن هذه الحماوة كلها إن أمكن تسميتها بذلك، ليكون أولاً لدى أهله وناسه، مع أنهم يخرجون منه بحثاً عن عمل أو حياة واستقرار في ظل الظروف الصعبة التي تتنقل بين الأعوام كأنها قدر؟
هذه الأسئلة ولصعوبتها، من حق الشباب اللبناني أن يسألها، وخصوصاً أن آخر أربعين عاماً من حياة اللبنانيين لم تكن على سوية إلا في مرحلة بدأت في منتصف تسعينيات القرن الماضي وانتهت في العام 2005. في تلك الفترة بدأت مرحلة جديدة من إعادة هيكلة الخراب، فكانت التجربة المرة للحروب والسنوات السوداء ومن بعدها التجربة الحلوة لسنوات التهدئة سببين رئيسيين في عدم انجرار الجزء الأكبر من الشباب اللبناني إلى الصورة التي تظهر أكثر الأمر بالأبيض والأسود، أي الصورة الشبيهة بمرحلة الحروب الأهلية.
لكل مرحلة صورتها إذاً، وفي كل صورة تعبير عن قيم المرحلة وشكلها وآلياتها، فالأسود والأبيض هو للصراعات في بعض اللحظات وكذلك للتجمعات الجماهيرية احتفالاً وصناعة لحدث ما. الحدث اللبناني في العام 2005 لا يشبه إلا نفسه، صورته خاصة به ملونة، تشبه شبابه الذين صنعوه بأحلامهم الملونة وعلمهم الأحمر والأبيض، صورة الملون إذاً تشبه مستقبل هؤلاء الناس وتاريخهم الذي يصنعون منه مرحلة جديدة.
لذلك يمكن القول إن ما قدّم لم يكن فقط من أجل اسم البلد أي لبنان، وكذلك لم يكن فقط من أجل العلم، فالعطاء كان بقوته وقدرته الحقيقية من أجل الحلم، حلم بناء الدولة، وحلم السيادة والاستقلال، وحلم الحرية، والتغيير البنّاء لأجل مستقبل أفضل لكل اللبنانيين. فدماء الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومعه كل الشهداء بأحلامهم والصور الملونة التي رسموها من خلال مشاركتهم في صنع الانتفاضة، استطاعت أن تغيّر، لأنها جزء من الحلم الكبير الذي حلمه الشباب اللبناني والذي سيظل يحلم به مهما تغيرت الظروف أو تبدّلت الأحوال.
عشرة أيام تفصل عن يوم 14 شباط، الصورة الملونة بطغيانها على ما عداها من الصور. في كل عام في ذكرى استشهاد الرئيس الحريري في 14 شباط، تعود الصورة عينها لتؤكد مرة بعد أخرى أن المقصود ببناء الدولة هو الوصول إلى انتظام يتساوى فيه الجميع أمام القانون بكل أشكاله، انتظام الوقوف خلف الخط الأبيض بانتظار اشارة السير، وكذلك انتظام العمل في المؤسسات الرسمية، وإنهاء الفساد والرشوة، وسيطرة العقل التحديثي على كامل الادارات العامة والخاصة في ظل التطور الذي يمر به العالم، والحاجة الى الامن والامان الذي يفتقده اللبنانيون أحياناً مع الظروف الأمنية المحيطة بلبنان والمنطقة.
الصورة التي أخذت ذلك اليوم طغى عليها الملون مع أن أكثر الأحداث الكبرى في التاريخ يطغى عليها الأسود والأبيض، ليس فقط في “الفوتوغراف” انما أيضاً بالحلم. الحلم الملون بالأحمر والأبيض، من دون بروز ألوان أخرى مع أن الألوان كلها تواجدت في ذلك اليوم.
في لحظة خاصة قال أحد حكماء هذا البلد عن العيش الآمن والتساوي في المواطنية وكذلك العيش في حكم القانون، إن في بلاد العالم حين يتقاضى اثنان بأي مشكلة، فلهم في بلادهم حكم القانون، والمؤسسات ومراكز الشرطة وغيرها من أقنية تحكم العلاقات بين الناس، أما في لبنان، فالمشكلة لا يعرف صاحبها إن كان بالإمكان حلها عبر المؤسسات، أو عبر الدعاء إلى الله، فمن عنده مشكلة لا يستطيع حلها، فله الله. ولذلك كان الحلم في العام 2005، لأن ذاك الحلم حقق الكثير من المنجزات، المتوقفة حتى الآن بسبب الصراعات على حصص ما، حصص لو حسبت لوجدت أنها أصغر من ان تقاس نسبة إلى حاجات الناس ومطالبهم.
الصورة بالأسود والأبيض هي لحظة ارتفاع دخان الانفجار إلى السماء لكن الحلم الذي أتى منها كان ملوناً. ولذلك تلونت الساحة يومها، بأحلام شباب من مختلف المناطق اللبنانية التقوا للمرة الأولى، تعرفوا بشكل حقيقي إلى بعضهم، وبنوا أحلامهم الخاصة وكذلك حلمهم المشترك بوطن له دولة عصرية، دولة تعيش فيها الطوائف متساوية أمام القانون الذي يحكم بين الناس كأفراد وليس كانتماءات.
الحلم لم يكن هجيناً، هو ابن بيئته وابن الحاجة والمطلب، نجح في كثير من المفاصل، وتأخر في مفاصل أخرى. هو لم يتأخر يوماً عن التواجد في مكانه بهياً نضراً كشبابه في ساحة الحرية، ينشد معهم “كلنا للوطن”، ويبتكر معهم الأفكار التي يصنعون فيها قيمهم الخاصة والمشتركة. إنه حلم الاستقلال الثابت، وكذلك بناء الدولة القوية القادرة على تأمين مستلزمات بقاء أبنائها، يرسمون بالملوّن كل يوم ما يريدون لأجل غدهم وغد أبنائهم شباب المستقبل.
omar_harkous@hotmail.com
* كاتب لبناني- بيروت
جريدة المستقبل