قبل أسبوعين من الذكرى العاشرة لرحيل ياسر عرفات، وفي محاكاة لحلمه الذي لم يتحقق، أعلنت السويد اعترافها بدولة فلسطين لتكون أول دولة غربية وأوروبية تقدم على هذه الخطوة، مما يؤذن باحتدام معركة الاعتراف على ساحة الشرعية الدولية من جديد. وتزامن القرار السويدي مع احتدام الصراع حول القدس على الأرض، وصدور قرار إسرائيلي قضى بإغلاق الحرم القدسي الشريف أمام جميع المصلين والزائرين سرعان ما تم التراجع عنه، دون أن يعني ذلك وضع حد لمجابهة دبلوماسية-ميدانية هي من أقدم الصراعات الإقليمية في العالم، والتي يختلط فيها التاريخ الديني المقدس والتاريخ الدنيوي السياسي.
نادرا ما تختصر مدينة في العالم مخزونا كمخزون البعد الرمزي للقدس: مكان التقاء الديانات التوحيدية الثلاث، ومسرح صراع الآلهة والمصالح في الآن معاً. من جبل الزيتون نحو المدينة القديمة والأحياء البعيدة، يسكن التاريخ الحجارة والممرات منذ أدوار بعيدة، ورغم الخلاف والتنافس يسود توافق على الخصوصية الفريدة، وينفجر البركان حول المشاريع والخلفيات الدينية والأيديولوجية، خاصة منذ قرار حكومة مناحيم بيغن إعلان المدينة عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، لأنها موئل التاريخ التوراتي المقدس.
أما بالنسبة للعرب والمسلمين فيلاحظ باحث فلسطيني أن “اختصار فلسطين في القدس يعني إهمال ما يجري في بقية فلسطين، واختصار القدس (أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين) في الحرم الشريف يعنى عدم الاكتراث بما يجري في بقية أحياء القدس”، وهذا الاختزال يصب في مصلحة إسرائيل وسيطرتها.
في كتابه “يقظة الأمة العربية” الصادر عام 1905، تنبأ نجيب عازوري بما يلي: “إن ظاهرتين هامتين متشابهتي الطبيعة، بيد أنهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن، تتضحان في هذه الآونة في تركيا الآسيوية، أعني: يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة إسرائيل القديمة. إن مصير هاتين الحركتين هو أن تتصارعا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى”. بعد عدة حروب أتى اتفاق أوسلو الانتقالي عام 1993 ليحسم أمر استحالة قيام إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، كذلك انطوى السعي من أجل فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر.
بيْد أن سقوط المشاريع الجذرية لم يعبّد طريق السلام لأن عناصر التفجير كانت قائمة: عدم الاتفاق على الحدود، ومصير القدس، وملف الاستيطان، وحق عودة اللاجئين. من دون العودة بالتفصيل إلى آثار صعود اليمين القومي في إسرائيل، أو إلى انقسام الساحة الفلسطينية، وإلى عدم نزاهة الوسيط الأميركي، أو إلى التدخلات الإقليمية (قضية فلسطين كانت شمّاعة لأنظمة عربية كانت تحاول تغطية عورة شرعيتها، أو وسيلة نفوذ إقليمي لإيران الجمهورية الإسلامية أو لتركيا الأردوغانية).
وتسارعت الأحداث في الأيام الأخيرة على “جبهة المسجد الأقصى- جبل الهيكل”، أو على محور توسيع المستوطنات في حي سلوان المقدسي، أو على صعيد قرار السويد (وتصويت غالبية أعضاء البرلمان البريطاني -غير المُلزم- على مذكّرة تدعو حكومتهم للاعتراف بفلسطين إلى جانب إسرائيل) الذي كسر حاجز الرفض من قبل الدول الأوروبية الرئيسية المترددة في الاعتراف رسميا بدولة فلسطين. وكل هذا يعني بداية تجاوز تهميش المسألة الفلسطينية، الذي حدث إثر تحولات العالم العربي منذ 2011، وحروب بلاد الشام.
تغيرت البيئة الجيو سياسية للصراع العربي-الإسرائيلي في ظل تغيير إقليمي ودولي سياسي أحدث آثارا عميقة محفوفة بالخطر، إذ بدل أن يكون “الربيع العربي” مفتاح بناء نظام إقليمي عربي قادر، سرعان ما تبين أنه أتاح إزاحة بقايا مشروع نظام عربي تبلور خلال الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين، وبرز، بوضوح، أن القضية الفلسطينية تمر اليوم بمنعطف دقيق وحرج جدا.
بعد حرب غزة هذا الصيف، تحسن الوضع السياسي الفلسطيني ولو بخجل، مقابل المزيد من انحياز بنيامين نتانياهو للمعسكر المتشدد، وهذا يفسر خطوات توسيع الاستيطان والتغيير الجذري في القدس. يستفيد رئيس الوزراء الإسرائيلي من وضع باراك أوباما “البطة العرجاء” في آخر سنتين من ولايته، كي يقضي، بشكل أو بآخر، على “حلم أو مشروع الدولة الفلسطينية القابلة للحياة”.
في موازاة الوقائع الميدانية (القدس، الكتل الاستيطانية، والجدار الفاصل، واستمرار فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة)، يركز رئيس الحكومة الإسرائيلية على ضرورة “الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية” مقـابل الاعتراف بدولة فلسطين.
وفقا للقانون الدولي يتم الاعتراف بالدول ككيانات، ولا يتم الاعتراف بطبيعتها الدينية أو الإثنية أو الأيديولوجية (عندما أصبح اسم إيران الجمهورية الإسلامية الإيرانية بقي الاعتراف بالدولة وليس بطبيعتها) وهذا ما يصطدم به نتانياهو في الغالبية العظمى لدول الاتحاد الأوروبي، ولذا تشكل السابقة السويدية عامل قلق بالنسبة إليه.
مهما كان تطور مسار الصدامات في القدس أو في أروقة الدبلوماسية الدولية، ومهما كان حجم الاهتراء العربي أو التخلي الدولي، تكمن المشكلة أو الحل في الخيار الإسرائيلي الفعلي حيال الدولة الفلسطينية بشكل خاص، ويتوازى ذلك مع ضرورة سيادة منطق الاعتراف بالآخر في مجمل الإقليم وبين كل المكونات.
أمام إعلان “الخلافة الإسلامية” يتصاعد تأثير البعد الديني في نزاعات الشرق الأوسط، والإصرار على يهودية دولة إسرائيل إلى جانب تقليص حظوظ نشأة دولة فلسطينية يعزز هذا الاتجاه العبثي والتدميري، ولكن مهما تصاعدت النزاعات وطالت لا بد لهذه الشعوب والديانات أن تعيش معا في شرق متحرر من الأساطير وعوامل الاستبداد والإبعاد، وربما نرى ذلك يوما خلال القرن الحادي والعشرين ضمن مجموعة إقليمية فيدرالية مشرقية تضمن حقوق الجميع.
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
khattarwahid@yahoo.fr