“كوهينور” ليست أرضا أو حقل نفط أو ممرا بحريا إستراتيجيا أو مؤسسة عملاقة يسيل لها لعاب المستثمرين، وإنما ماسة ثمينة لا تقدر بثمن، لها من العمر أكثر من 5000 عام. وهذه الجوهرة التي يعني إسمها “جبل النور” يمكن إدراجها في قائمة المقتنيات الفنية والأثرية الثمينة التي سرقها المستعمرون من البلاد التي إستعمروها، وصارت اليوم موضوعا للجدل والمطالبة والمساومة ما بين أصحابها الأصليين الطامحين لعودتها إلى ملكيتهم والجهات التي إستحوذت عليها بالقوة في حقب تاريخية سابقة. والفريق الأول المتضرر في مثل هذه القضايا لا يضم الهند فقط وإنما دولا أخرى عديدة مثل الصين وباكستان وأفغانستان وليبيا وسوريا ومصر وأثيوبيا والمكسيك وبيرو وغواتيمالا وقبرص واليونان وغيرها من الأقطار التي تحاول جاهدة القيام بحملات مكثفة ومنسقة لإستعادة ما سرق منها من كنوز في فترات زمنية سابقة، خصوصا وأن هناك قراراً يصب في صالحها من منظمة اليونسكو التي دعت في مؤتمر لها في عام 1970 إلى ضرورة أن تستجيب الدول الإستعمارية لمطالب الدول المستعمَرة – بفتح الميم – بإعادة ما نهب منها.
والمعلوم أن بريطانيا رفضت مرارا وتكرارا مطالب تقدمت بها جماعات برلمانية وحزبية هندية ونشطاء هنود في حقل الأبحاث التاريخية والأركيولوجية بضرورة إعادة جوهرة “كوهينور” إلى موطنها الأصلي. والمعلوم أيضا أنه في عام 1990 إنضم المبعوث السامي الهندي في لندن “غولديب نايار” إلى تلك الجهود عبر تصريح قال فيه: “إني أرى الحرج والخجل مرسومين على وجوه المسئولين البريطانيين كلما أتيت أمامهم على ذكر موضوع “كوهينور”، وذلك قبل أن يكتب مقالا صحفيا قال فيه أنه حينما زار برج لندن برفقة عائلته حاول مضيفوه الإنجليز قيادته بعيدا عن الجوهرة المذكورة لأنهم كانوا يشعرون بالخجل “من إحتمال رؤيتي لجوهرة ثمينة سرقوها من بلادي”.
أما آخر مرة أثار فيها الهنود موضوع “كوهينور” مع البريطانيين فقد كان في مقابلة متلفزة أجرتها إحدى القنوات الهندية مع رئيس الحكومة البريطانية “ديفيد كاميرون” أثناء زيارة الأخير للهند في 28 يوليو المنصرم. ففي تلك المقابلة رفض الزعيم البريطاني رفضا قاطعا إعادة الجوهرة إلى أصحابها الأصليين معللا السبب في أن الإستجابة للمطلب الهندي سيفتح الباب على مصراعيه لمطالب مماثلة من مستعمرات بريطانيا السابقة في آسيا وأفريقيا “وبما سيجعل المتحف البريطاني خاليا من النفائس”.
وبهذا التعليل الذي يبدو أن “كاميرون” استعجل فيه ولم يحسب عواقبه بدقة، أكد الزعيم البريطاني أن مقتنيات المتاحف البريطانية عبارة عن مسروقات تعود ملكيتها إلى شعوب وأمم أخرى.
على أن رفض “كاميرون” القاطع لإعادة الجوهرة الثمينة المسروقة، لم يثن الهنود عن محاولات الإستحواذ عليها مجددا، مسترشدين في مسعاهم بسابقة ناجحة، ونعني بذلك سابقة نجاح القنصل الهندي الأسبق في لندن “باسكار غورباد” في الحصول على حكم قضائي من المحاكم البريطانية بإعادة تمثال “ناتراج” البرونزي، الذي يرمز إلى آلهة الرقص عند الهندوس، إلى الهند. حيث قدم القنصل المذكور مرافعة بليغة أمام القضاء البريطاني أشار فيه بالأدلة القاطعة إلى أن القسم الهندي في متحف فيكتوريا وألبرت البريطاني مليء بالنفائس الهندية المسروقة، بل أن مساحته لا يتسع إلا لعرض 2 بالمئة فقط من تلك المسروقات.
لكن ما هو موقف نيودلهي الرسمي من الموضوع؟ وهل هي متحمسة له بنفس قدر حماس الجماعات الحزبية والبرلمانية والمثقفين والمعنيين بالتاريخ والآثار؟
تبدو القيادة الهندية الحكيمة ممثلة في رئيس الحكومة الحالي “مانموهان سينغ” غير متحمسة للموضوع، لاعتبارات كثيرة. فالموضوع في نهاية الأمر معنوي وأدبي ليس إلا، بمعنى أن إثارته في هذا الوقت التي تبدو فيه بريطانيا أقرب إلى الهند منها إلى باكستان (ولا سيما بعد تصريح “كاميرون” الأخير من أن باكستان هي منبع الإرهاب الدولي) ليست من المصلحة القومية العليا في شيء، وربما يضر أكثر مما ينفع.
ثم أن الهند التي احتفلت في منتصف أغسطس المنصرم بمرور 64 عاما على إستقلالها عن الهند قد تجاوزت فكرة الإنتقام من المستعمر وإحراجه بحكايات السرقة والنهب والإستغلال مثلما تفعل بعض الدول النامية الفاشلة بهدف إلهاء شعوبها. فهي اليوم دولة رائدة ذات إقتصاد منيع، وقدرات نووية وعسكرية وعلمية مهابة، وخزائن تفيض بالعملات الصعبة وإكتفاء ذاتي في الطعام، علاوة على إنتشار أبنائها في كل بقاع الأرض، وسيطرة الكثيرين منهم على مفاصل إقتصادية وصناعية في بلد مستعمرهم السابق.
وأخيرا فإن ماسة “كوهينور” – إذا ما إفترضنا موافقة لندن على إعادتها إلى الهند – ستجلب معها الصداع والمشاكل، على اعتبار أن دولا عدة (باكستان وأفغانستان وإيران) تتنازع ملكيتها رغم إعترافها وإجماعها المبدئي بأن مصدرها هو ناحية “غونتور” في ولاية “أندرا براديش” الهندية الجنوبية التي عـُرفت تاريخيا بأنها أول مكان في العالم عـُثر فيه على حجر الألماس، قبل أن تبدأ البرازيل بإستخراجه وتصديره بدءا من العام 1730 . وسبب تنازع عدة دول عليها يعود في المقام الأول إلى إنتقالها عبر التاريخ من يد إلى يد أثناء الحروب والغزوات والمؤامرات والإغتيالات والأحداث الكبيرة التي عصفت بجنوب ووسط آسيا، الأمر الذي جعل من جوهرة “كوهينور” صاحبة سيرة متقلبة وغير مستقرة لمدة طويلة إلى أن وقعت في أيدي الإنجليز. فهي مثلا إنتقلت من أيادي المهراجات الهنود إلى أيادي الأباطرة المغول فأيادي الغزاة الفرس، ثم مرة أخرى إلى أيادي ملوك الهند فإلى يد ملكة بريطانيا فيكتوريا التي ثبتتها في تاجها يوم أن أعلنت نفسها ملكة على الهند في عام 1876.
وربما السطور التالية تعطي فكرة تاريخية أوضح للمسارات التي مرت بها الجوهرة الأقدم في العالم، والأيادي التي إستحوذت عليها، وأسباب منافسة كل من باكستان وأفغانستان وإيران للهند في إسترجاعها:
على الرغم من أن هناك إجماعا كبيرا في أوساط خبراء النفائس القديمة على أن ماسة “كوهينور” ظهرت للمرة الأولى قبل نحو 5000 عام، وأن أول ذكر لها كان في مذكرات الملك “بابر” مؤسس الإمبراطورية المغولية الهندية الذي قال عنها أن ثمنها يمكن أن يطعم سكان الكون كله لمدة يومين على الأقل، فإن هناك من يعترض على الجزئية الأخيرة ويدعي أنها ذكرت في المخطوطات السنسكريتية القديمة كجوهرة تعرضت مرارا للسرقة أو الإنتقال من يد إلى أخرى على سبيل الفدية أو التعويض أثناء حروب وغزوات الأمراء الهندوس أو مقابل توفير الحماية. غير أن ما لا يحتمل الجدل أو الشك هو أن الملك بابر المنحدر من سلالة “جنكيز خان” إستحوذ على الماسة المذكورة في عام 1526 بعيد إنتصاره في معركة “بانيبات” التي قضى فيها على سلطان دلهي “إبراهيم لودي” وحليف الأخير “فيكراماديتيا” ملك “غواليور” الذي كانت الجوهرة في حوزته وقتذاك. بعد وفاة بابر ورث إبنه وخليفته “همايون” الجوهرة، لكن الأخير أطيح به على يد “شير شاه سوري” وخرج إلى المنفى في أفغانستان ليعيش في كنف الحاكم الفارسي “شاه طهمباس”. وطبقا لإحدى الروايات فإن “همايون” أهدى الجوهرة في عام 1547 لمضيفه كثمن لحمايته وإستضافته. لكن هناك رواية أخرى تقول أن “همايون” لم ينقل الجوهرة معه وإنما تركها في حوزة إبنه “أكبر” إلى أن أخرجها حفيد الأخير الإمبراطور الهندي المغولي “شاه جيهان” باني تحفة “تاج محل” المعمارية، وجعلها ذات موقع متميز في عرش الطاووس الهندي المصنوع من الذهب الخالص، إلى جانب أحجار ومجوهرات أخرى من الألماس والزمرد والعقيق واللؤلؤ. وتقول المصادر التاريخية أنه حينما أطاح “أورانغازيب” بوالده المعتل “شاه جيهان” وسجنه في قلعة “أغرا”، ثبت الإبن العاق ماسة “كوهينور” في طرف نافذة السجن كي ينعكس من خلالها صورة تاج محل فيراها أبوه ويتألم. وطبقا لنفس المصادر نقل الملك “أورانغازيب” الماسة لاحقا إلى مسجده الخاص في لاهور المسمى بـ “بادشاهي مسجد”، وظلت هناك حتى إستولى عليها الملك الفارسي نادر شاه في غزوه للهند وتدميره لمدينة دلهي وعرش الطاووس في عام 1739 ، علما بأن هذا الملك الفارسي هو الذي منح الماسة إسمها المستمد من اللغة الفارسية (كوه= جبل، ونور= ضؤ).
وهكذا إنتقلت “كوهينور” إلى أيادي الفرس، قبل أن يموت “نادر شاه” في عام 1747 وتنتقل ملكيتها إلى ملك الأفغان “أحمد شاه عبدلي” في عام 1830 . أما خليفة الأخير “شاه شوجا” فقد أطيح به، لكنه تمكن من الهرب إلى لاهور ومعه ماسة “كوهينور”. وفي لاهور منح الملك الهارب جوهرته الثمينة إلى مهراجا السيخ “رانجيت سينغ” مقابل أن يساعده على إستعادة عرشه في أفغانستان. وبعدما نفذ الملك السيخي وعده لـ “شاه شوجا” قام بتثبيت “كوهينور” في تاجه كملك للبنجاب، موصيا من يعنيه الأمر بأن تـُنقل من تاجه إلى معبد السيخ المقدس في “أوريسا” من بعد وفاته. غير أن الإنجليز، الذين كانوا قد توسعوا في الهند وسيطروا على مقدراتها عبر شركة الهند الشرقية الإستعمارية، بل وإحتلوا لاهور قبيل وفاة “رانجيت سينغ” لم ينفذوا وصية الأخير، وإنما ضغطوا على أصغر ورثته (إبنه الخامس دوليب) كي يبحر بمعية الوصي عليه (الجراح الأسكتلندي لوجين) واللورد “دالهوزي” إلى بريطانيا من أجل تقديم الجوهرة كهدية إلى ملكة بريطانيا فيكتوريا التي ثبتتها في تاجها منذ عام 1876 .
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh