على الرغم من كل ما يمكن أن يُقال عن الحرب الباردة، إلا أنها قامت على ضوابط جغرافية وسياسية، وعلى تفاهمات ضمنية، لم يكن من السهل تجاوزها. وحتى في حروب الوكالة كانت حدود ما يجوز ولا يجوز واضحة المعالم في أذهان صانعي السياسية وحرّاس الاستراتيجية الكبار.
ما حدث، ويحدث، منذ انهيار عالم الحرب الباردة أن المنتصرين فشلوا في إنشاء عالم جديد سمته الاستقرار، ولعل القسط الأكبر من المسؤولية يقع على عاتق الولايات المتحدة. المهم، أن العالم العربي، والشرق الأوسط عموماً، لم يصبحا أكثر استقراراً بعد الحرب الباردة، بل وقعا ضحية الفوضى، وتضارب الرؤى والسياسات.
على خلفية كهذه يمكن النظر إلى حالة التفسخ التي يعيشها العالم العربي هذه الأيام. أهم سمات هذه الحالة أنها ليست عابرة، بل طويلة الأمد. فالقديم، الذي تشكّل في عالم الحرب الباردة (وهذا يصدق على الكيانات والأفكار والتصوّرات) يتحلل، لكنه لم يغادر المسرح بعد، والجديد (الذي يصعب تحديد ملامحه) لم يولد بعد. وقت الاحتضار طويل، والولادة عسيرة.
على أية حال، ما بين احتضار طويل، وولادة لم تحدث بعد، نتأمل حالة اليمن، مثلاً. خلاصتي الشخصية أن ما يحدث في اليمن ولليمن غير قابل للحل، إذا كان المقصود بالحل استعادة السلم الأهلي، في ظل دولة مركزية، تحظى فيها الأقاليم (أو الولايات، أو المحافظات، سمها ما شئت) بقدر من الاستقلالية، لكنها تدين بالولاء للحكومة المركزية، التي تحتكر أدوات العنف (كما يليق بكل دولة) وتقبل بدور السلطة المركزية كوسيط في فض النزاعات، وإنفاذ القانون، والتوزيع العادل للثروة.
هذا ما لا يلوح، ولن يلوح في الأفق، في وقت قريب. ومنشأ كل ما لا يلوح في الأفق أن البيئة القبلية معادية لفكرة الدولة المركزية، خاصة إذا كان الكلام عن الدولة بالمعنى الحديث للكلمة. وبالقدر نفسه فإن هيمنة قبيلة، أو تحالف قبلي، على مقاليد الحكم لا تعني أكثر من هدنة، قد تطول أو تقصر، بين حربين.
هناك، أيضاً، مشكلة الشمال والجنوب، وقد توحّدا بطريقة طوعية، ثم أُعيدت الوحدة بعد حرب أهلية، رأى الكثير من الجنوبيين أنها جاءت على حسابهم، وأرغمتهم على البقاء في دولة الوحدة بالقوة. ولا يندر أن نعثر بين هؤلاء على من يتكلم عن الاحتلال الشمالي. ومشكلة الشمال والجنوب، هذه، تُضاف إلى مشكلة البيئة القبلية.
هناك، أيضاً وأيضاً، تمفصل الحساسيات والبنى والذهنيات القبلية مع تمركزات جهوية ومذهبية، وتمفصل هذه وتلك، بدورها، مع مصالح، ومطامع، ومطامح، راودت وتراود أكثر من طرف في الإقليم، أي في العالم العربي، والشرق الأوسط (هذا، إذا وضعنا العالم جانباً، ومؤقتاً، على الأقل).
بمعنى آخر، حتى دون قبائل ومذاهب، فإن مجرد تمفصل المحلي مع الإقليمي يخلق استعصاءً من نوع ما. وفي أقل تقدير، تُترجم التمفصلات في صورة حروب بالوكالة، وصراعات تخوضها أطراف مختلفة على أرض الغير. ومن المؤسف أن هذا ليس مصير اليمن، وحده، بل يحدث في بلدان عربية أخرى تشهد حروباً بالوكالة.
يُضاف إلى كل ما تقدّم، ويصدر عنه، ويعشش في بيئته، ما يمكن تسميته بحواضن الإرهاب. ففي اليمن تتمركز القاعدة، وتتغذى على ما يسم التمفصلات اليمنية من خصوصية، ومثلها يتغذى الدواعش، وكذلك الإخوان، ولكل هؤلاء تمركزات جهوية، وتحالفات قبلية، وتُضاف إلى كل هؤلاء جماعة الحوثي، وفيها، أيضاً، تتجلى التمركزات الجهوية، والقبلية، والمذهبية، وتمفصلات المحلي مع الإقليمي. ولكل هؤلاء جيوش، وأمراء حرب، وثارات. وإذا شئت يمكن إضافة الرئيس السابق، وجماعته، وخصومه، وجماعاتهم.
كيف يمكن القضاء على، أو تطويع، أو إقناع، كل هؤلاء بفكرة الدولة المركزية، على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، وكيف يمكن تجريد اليمنيين من السلاح، وإقناعهم بحق الدولة في احتكار العنف؟
اليمن من أفقر البلدان العربية، ولا يوجد فيه الكثير من الماء، ولا مصادر الثروة، وهناك كارثة القات التي تُبقي ما لا يحصى من اليمنيين في حالة خدر أغلب ساعات النصف الثاني من النهار، وقد فشلت حكوماته، أو نخبه الحاكمة، أو نظمه السياسية (سمها ما شئت) منذ الإطاحة بحكم ينتمي إلى القرون الوسطى، في أوائل الستينيات، في إنشاء هوية توحيدية جامعة ترفع الدولة فوق القبيلة، والمواطنة فوق المذهب. وقد قدّم المصريون في الستينيات تضحيات غالية لإخراج اليمن من ظلمات القرون الوسطى، لكنهم فشلوا. ربما حكم القرون الوسطى الأصيل كان اكثر انسجاماً مع الواقع من النظام الجمهوري البديل!!
على أية حال، يدور الآن كلام عن التدخل العسكري في اليمن، وقد وقع هذه التدخل بالفعل من خلال ضربات جوية للحيلولة دون سقوط عدن في يد الحوثيين. ومع ذلك، الحروب الجوية لا تحسم المعارك على الأرض، وإذا تكلمنا عن التدخل البري فإن ظهور المزيد من التعقيدات يبدو أقرب الاحتمالات.
كان من عادة اليمنيين، قبل الوحدة، أن يقولوا للفلسطينيين: أنتم الشطر الثالث، وبعد الوحدة قالوا لنا: أنتم الشطر الثاني. ونحن، الآن، بعد انفصال غزة أصبحنا شطرين في شطر من الوطن، ويمكن لهم الآن أن يتكلموا عن أشطار لا عن شطرين أو ثلاثة. ومن يدري فقد يتكلّم يمنيون، بعد الحرب الأهلية في بلادهم، عن الشطر الرابع، والخامس..الخ الخ.
khaderhas1@hotmail.com