من منظور روسي، يمثل الشرق الأوسط تهديدا متعاظما نتيجة تداعيات تحولات العالم العربي منذ 2011، وارتباطها بأدوار تركيا وإيران وإسرائيل وعودة مناخ من حرب دولية باردة تحت السيطرة.
شهد الأسبوع الحالي حدثا دبلوماسيا بارزا مع تواجد ثلاثة من القادة العرب في موسكو بناء على دعوة روسية لحضور معرض “ماكس” الدولي للطيران والفضاء، وهم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد. وسرعان ما بشر البعض بقيام “ملامح شرق أوسط جديد في قمة السيسي – بوتين – بن زايد”. وكان العنوان اللافت “العرب يواجهون الإرهاب من موسكو”، يظهر من التركيز على أمن الشرق الأوسط حيث بحث القادة “تعاونا أمنيا ومخابراتيا لمواجهة تمدد داعش وتحجيم خطره، مع الأخذ في الاعتبار الخبرة الروسية في مواجهة الجماعات المسلحة”.
في الفترة الأخيرة حققت موسكو اختراقات دبلوماسية نتيجة استدارة سعودية لم تقتصر على التشاور السياسي والاستراتيجي حيال أمن الخليج وإيران وسوريا واليمن، بل وصلت إلى مصاف المصالح المالية. ومن الأمثلة على ذلك بدء العمل مؤخرا باتفاق شراكة بين “الصندوق الروسي للاستثمار المباشر” و”صندوق الاستثمارات العامة” في السعودية، وهو عبارة عن صندوق ثروة سيادية سيستخدمه السعوديون لاستثمار عشرة مليارات دولار في مشاريع في روسيا. وهذا الاختراق يترافق مع الصفقات العسكرية الروسية التي عقدت أخيرا، مع إيران لاستباق الانفتاح الأميركي عليها. والاهتمام الروسي بالشرق الأوسط يشمل بالطبع العلاقات الاقتصادية القوية مع تركيا، والعلاقات “الحميمة” بين إدارة بوتين وإسرائيل بالرغم من بعض العثرات .
يندرج الحراك الروسي في إطار حماية المصالح الروسية في الجوار الملتهب، ويحتدم التنافس مع واشنطن حيال كيفية محاربة الإرهاب وتوظيفه إقليميا ودوليا. ويتضح من تركيز بوتين على هذه الورقة في علاقاته العربية القديمة والمستحدثة لكسر الاحتكار الأميركي في هذا المضمار، والسعي لتكون هذه الورقة وسيلة لتثبيت دور روسيا كقوة حفاظ على الوضع القائم، مما يلائم غالبية الأنظمة والمتضررين من “الربيع العربي”، وذلك على عكس واشنطن التي تحاول الجمع بين الحرب ضد الإرهاب، وعدم القطيعة مع “الإسلام السياسي المعتدل”. وهنا تقوم نظريات المؤامرة في إكمال التفسيرات لإحباط أي فكرة تغيير آتية من عمق المعاناة وتهميش العرب في ميزان العلاقات الدولية.
يجدر التذكير أن انهيار الاتحاد السوفييتي حدا ببعض المنظرين والاستراتيجيين من أمثال برنارد لويس، لملاحظة تمدد الشرق الأوسط الكلاسيكي (العالم العربي وإسرائيل وشمال أفريقيا وإيران وتركيا) ليشمل باكستان وأفغانستان وآسيا الوسطى، فيما أسماه آخرون “قوس الأزمات”، إذ يجعل ذلك من روسيا على تماس مع إقليم مضطرب مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات على مصالحها وأمنها القومي ومداها الحيوي في “يوراسيا”.
ولهذا كان الاختبار الأول لفلاديمير بوتين ضمن البيت الروسي عبر مواجهة حرب الشيشان مع بداية رئاسته الأولى مع بدايات هذا القرن. وهكذا شكل “الإرهاب الداخلي” حسب الفهم الروسي رافعة لتأمين الصعود البوتيني إلى أعلى السلم الروسي بعد مرحلة السبات في عهد بوريس يلتسين. لكن القيصر الجديد وخرّيج الأمن السوفييتي، اعتبر أن القبضة الحديدية في الشيشان والقوقاز هي وحدها الكفيلة بمنع استخدام واشنطن حركات “الإسلام المتطرف” من إلحاق الضرر بموسكو، على غرار ما حصل في أفغانستان في مواجهة غزو الجيش الأحمر، وكان الممهد لسقوط الإمبراطورية التي أسسها البلاشفة.
من منظور روسي، يمثل “الشرق الأوسط” تهديدا متعاظما نتيجة تداعيات تحولات العالم العربي منذ 2011، وارتباطها بأدوار تركيا وإيران وإسرائيل وعودة مناخ من حرب دولية باردة تحت السيطرة، في موازاة تمدد الحركات الجهادية وتوظيفها في صناعة الإرهاب وعدم وجود حد معقول من الوفاق الدولي والإقليمي لمحاربته. لكن تفاقم الأوضاع في الشرق الأوسط، يمنح موسكو فرصة للتأثير وتنشيط سياستها الإقليمية تبعا لرغبة القوى الإقليمية المتنافسة في تنويع علاقاتها الدولية على ضوء مخاوف بعضها من الانقلاب الجيوسياسي في تحالفات واشنطن بعد الاتفاق مع إيران.
في سياق متصل برزت تصريحات الملك عبدالله الثاني عن “دور روسي محوري في إيجاد حل سياسي للأزمة السورية”. ولا يخفى على المراقب وجود تباين عربي – عربي حول الملف السوري ومصير بشار الأسد بالذات، وستكون الأسابيع القادمة حاسمة لأن مبادرة دي ميستورا عن “داعش أولا” لا نصيب لها في النجاح إذا لم يسبقها جهد روسي لبلورة حل واقعي للأزمة السورية وفق جنيف 1، وغير ذلك يعني ترك سوريا رهينة لعبة الأمم التي تنحر البلاد وتقطع أوصالها.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس