لم يتردد الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر في إعلان قرار تنحيه، ولعله كان في تلك اللحظة صادقا لا مناورا، بعدما اكتشف حجم الضربة وقساوتها التي تعرضت لها القوات المسلحة المصرية، جراء الهجوم الإسرائيلي المباغت على الجيش المصري، واحتلال سيناء وتدمير سلاح الطيران ومواقع استراتيجية، وسقوط عدد كبير من الشهداء وسط الجيش والمدنيين. خاطب عبد الناصر المصريين معترفا بالهزيمة، معلنا تحمله المسؤولية الكاملة عنها، مقرا بضرورة محاسبة جميع المقصرين، خاصة من وثق بهم وكانوا شركاءه بالحكم، واستغلوا مواقعهم لخدمة مصالحهم الخاصة، وتقوية نفوذهم وتمكين أتباعهم داخل مؤسسات الدولة، مبديا أسفه لممارسة أجهزة أمنية أسوأ أنواع القمع والتضييق على الحريات، حيث استغلت سطوتها ونفوذها لترسيخ حكم الشخص الواحد الممنوع من النقد أو المساءلة.
صارح عبد الناصر المصريين وقرر العودة إلى صفوفهم، بعدما أدرك عمق الأزمة الداخلية، التي كانت هزيمة 67 من نتائجها وليس من أسبابها، وحجم الثمن الذي دفعه المواطن المصري جراء سياسات خاطئة مارستها أجهزة الدولة المدنية والعسكرية والأمنية خصوصا، واحتدام صراعات مراكز القوى، التي انشغلت بمواجهات داخلية، وفساد استشرى بين قيادات الجيش بدا مع حرب اليمن، والانشغال بالصفقات وتقاسم الحصص والنفوذ، مما انعكس سلبا على حال القوات المسلحة التي تعرضت لأفظع انتكاسة في تاريخها. خرج المصريون إلى الشارع متجاوزين الأخطاء والارتكابات، واضعين حدا للنكسة، رافضين أن تقوض تداعياتها الثورة، فأدرك عبد الناصر فرصة التغيير، التي لولاها لما تحقق نصر «73» الذي أسست له تحولات ما بعد النكسة.
في طهران أجمعت قيادات عقلانية بالدولة الإيرانية مطلع سنة 1988 على عدم الجدوى من استمرار الحرب مع العراق وبدأت تميل بقوة إلى القبول بقرار الأمم المتحدة رقم 598 الذي رفضه الإمام الخميني منذ صدوره في يوليو (تموز) سنة 1987، فقد شهدت بداية هذه السنة ما عرف حينها بحرب المدن؛ حيث تبادل الطرفان ضرب المدن الرئيسة بصواريخ بالستية، وتطورت هذه الحرب بعدما حصل العراق على الجيل الجديد من طائرة «ميغ 29» التي أصبح وجودها في أجواء العاصمة طهران شبه يومي، فالعراق الذي حصل على دعم دولي كبير استطاع في 17 أبريل (نيسان) سنة 1988 وخلال 36 ساعة تحرير شبه جزيرة الفاو، وإنزال هزيمة قاسية بالجيش الإيراني.
أدرك آية الله الخميني أن تبدلا كبيرا في موازين القوى قد حصل على الجبهة، بعد اطلاعه على تقارير ميدانية عن حال القوات المسلحة الإيرانية (الجيش والحرس) وعن عدد القتلى الحقيقي، ووضع الاقتصاد الوطني، فاقتنع بأن القرار الدولي 598 الذي رفض القبول به منذ صدوره، يشكل خشبة الخلاص والفرصة التي يحتاجها ليوقف بها استنزاف مقدرات الشعب الإيراني، ولينقذ بها الثورة ويحافظ على الدولة، فامتلك الشجاعة واتخذ قراره التاريخي بالقبول بالقرار الأممي.. وتشبه موافقته عليه من «تجرع السم»، وقبل وقف إطلاق النار، وأنهى ما كان يعرف في طهران بـ«حرب الدفاع المقدس» من أجل المصلحة الإيرانية العليا.
منذ قرابة السنتين ونصف السنة، يمعن أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، في تحديه للشعب السوري المطالب بالحرية والعيش بكرامة، ويستمر في وقوفه حتى النهاية إلى جانب نظام الأسد، على الرغم من تجاوز عدد القتلى 110 آلاف. ويصر السيد نصر الله على أن ما يحدث في سوريا هي مؤامرة أميركية – إسرائيلية، على محور الممانعة والمقاومة، مقسما السوريين الذين حملوا السلاح في وجه الأسد بين عملاء ومضللين، وأغلبية تكفيرية إرهابية جاءت من الخارج، معطيا لنفسه الدور، من دون تكليف من أحد، لمواجهة الجماعات التكفيرية ومقاتلي «القاعدة»، مستثمرا الارتكابات والجرائم التي تقوم بها هذه الجماعات، من أجل خلق مبرر لتدخله في القتال الدائر هناك.
يرفض السيد نصر الله كل الدعوات المحلية والإقليمية والدولية، من أجل الانسحاب من سوريا أو التزام الحياد، وعدم التدخل العسكري في الأزمة، وكلما ازدادت عليه الضغوط، يزداد في تحديه، غير مكترث بمستقبل حزبه وتراثه ودوره، ومصالح أبناء طائفته ومستقبلهم ثانية، ومصالح اللبنانيين وسلمهم الأهلي ثالثا، الذي أصبح مهددا بفعل الخوف من انتقال نار الأزمة السورية إلى الداخل اللبناني، خصوصا بعد التفجيرات الإرهابية في الضاحية الجنوبية وطرابلس، حيث يعد وقوعها الدليل القاطع على فشل الحرب الاستباقية التي أعلن عنها السيد نصر الله في سوريا من أجل درء خطر تنظم القاعدة عن لبنان. حتى اللحظة ومع الاستعدادات الدولية لعمل عسكري ضد الأسد، وأمام مشهد شبه التخلي الروسي عنه، ومع استمرار سقوط القتلى في صفوف الحزب في سوريا، لم يرغب السيد نصر الله في قراءة الواقع، ويصر إعلام حزب الله وحلفاؤه والمدافعون عن تدخله، على خلق مبررات انتقائية مبنية على افتراضات غير واقعية، واستعادة ماض أليم وإعادة إنتاجه واللعب على العواطف واستحضار مأساة أهل البيت.
يا سيد لقد تجاوزنا نحن أبناء هذه الطائفة معك ومع الزعماء المؤسسين والإمامين الصدر وشمس الدين، الكثير من حالات التمييز والحرمان، وعشنا في أوطاننا مرحلة اندماج وشراكة، وتعامل العالم معك كما تعامل مع مناضلين تاريخيين كبار قاوموا الاستبداد والطغيان، وصارت عمامتك السوداء علامة نسب وانتماء تتجاوز المذهبية إلى الفضاء الإسلامي، ورفعت صورك من جاكرتا إلى نواكشوط.. فما الذي يجبرك على تمزيقها بيدك في سوريا؟
«أن تأتي متأخرا أفضل من أن لا تأتي أبدا».. الزعيمان عبد الناصر والخميني تحملا المسؤولية في لحظة حرجة من تاريخ بلديهما، ونحن الآن أمام أكبر وأخطر منعطف في تاريخنا الحديث، فهل يمكن للسيد نصر الله أن يتخذ القرار اللازم.. قبل خراب البصرة.
mhfahs@gmail.com
الشرق الأوسط