1-
شهدت الرواية العربية في السنوات الأخيرة ظاهرة تستحق التنويه. والمقصود، هنا، اقتحام المشهد الروائي من جانب كتّاب لم يحترفوا الكتابة الروائية من قبل، ونجاح أعمالهم الأولى في تكريسهم كروائيين لا ينتقص الاختلاف حول مكانتهم من أهميتهم، ولا يُمكِّن أحدا من تجاهلهم.
ومن أبرز الأمثلة، في هذا الشأن، علاء الأسواني صاحب رواية “عمارة يعقوبيان” ويوسف زيدان صاحب “عزازيل”. ويبدو بأن الظاهرة المعنية مرشحة لاستيعاب المزيد من الأسماء في قادم الأيام. وهذا ما برهنت عليه مؤخرا رواية “السيدة من تل أبيب” للفلسطيني ربعي المدهون (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2009) الذي لم يحترف الكتابة الروائية من قبل، وأطل على المشهد الروائي الفلسطيني بعمل يصعب التقليل من أهميته، وبالقدر نفسه لا يمكن تجاهله.
القاسم المشترك بين هؤلاء (ثمة أسماء أخرى بطبيعة الحال) أنهم مارسوا الكتابة في حقول مختلفة قبل الرواية، وأن أعمالهم الأولى، التي أنجزوها في مراحل متقدمة نسبيا من العمر، انتزعت الاعتراف بهم كروائيين لا تعوزهم الموهبة ولا الكفاءة.
2-
تُفصح “السيدة من تل أبيب” عن دلالات أزعمُ بأنها جديدة في الرواية الفلسطينية، ولعل أبرزها اعتراف بأن المنفى لم يعد كينونة مؤقتة، بل أصبح حقيقة يمكن قبولها والتعايش معها نتيجة الخيار أو الاضطرار. وهذا، بدوره، يخلق عالمين منفصلين يتأمل كلاهما الآخر: المنفى، أو الخارج، باعتباره حقيقة لم تعد مؤقتة، وبالتالي ينبغي البحث عن وابتكار وسائل تعبيرية جديدة للتعامل معه، والوطن، أو الداخل، باعتباره حقيقة تُصاغ وتُستعاد على ضوء انفصال أصبح في حكم الأمر الواقع.
لم يكن الأمر على هذا النحو، دائما، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالأدب الفلسطيني عموما، والرواية بشكل خاص، حيث المنفى مؤقت، والوطن ثابت ومتحقق. معا يمارس الاثنان قدرا معلوما من التواطؤ لإلغاء ما يكتنف المسافة بينهما من التباس.
والجديد أننا لن نعثر في رواية المدهون على ذلك القدر من التواطؤ، بل على محاولة لتحرير الفاعل الروائي (الذي قد يكون قناعا للكاتب نفسه) مما اكتنف المسافة من استيهامات وتهويمات لم يعد في الواقع ما يبررها، خاصة بعد الإقامة زهاء ثلاثة عقود في منطقة رمادية بين الاثنين.
بهذا المعنى يجازف وليد دهمان بطل “السيدة من تل أبيب” بالخروج عن وعلى تقليد سار عليه أبطال روائيون في أعمال أصبحت كلاسيكية الآن. فالمتشائل لم يعترف بالانفصال بل مارس فن البقاء، ووليد مسعود ضاع في مكان ما واختفت آثاره في المنفى، لكن وطنه لم يضع، والأبطال الذين صنعتهم مخيّلة غسان كنفاني، وأعاد آخرون ابتكارهم بطريقة تكاد تكون مبتذلة، لم تساورهم شكوك جدية بشأن الكينونة المؤقتة للمنفى. ربما يحتاج الأمر إلى مزيد من الإيضاح.
3-
في مراجعة “للسيدة من تل أبيب” أشار الياس خوري إلى لعبة المرايا كما تجلت في تبديل الفاعل الروائي للأقنعة، والتي أسفرت حسب تعبيره عن “شخصية بطل ينقسم إلى نصفين”. وللتدليل على ما ذهب إليه استعان برواية “أرابسك” لأنطون شمّاس للمقارنة بين نص “يتمرن على السرد الروائي” وآخر يطرح أسئلة الهوية من خلال “لعبة من المرايا المعقدة والممتعة”.
والواقع أن منشأ “التمرين” على السرد الروائي مستمد من حقيقة أن انقسام الفاعل الروائي في رواية المدهون نجم عن الانقسام بين مكانين، بينما انقسام قرينه في رواية شمّاس نجم عن مأزق العيش بين هويتين، ومحاولة العثور على أرض (هوية) ثالثة يمكن التعايش فيها بين هويات متنافرة. يقلّب شمّاس طبقات مختلفة لهوية بطله الروائي، فهو ينتمي إلى أقلية قومية (عربية) في إسرائيل، وينتمي أيضا إلى أقلية دينية (مسيحية) وفي الوقت نفسه يُجابه بهوية الأغلبية (اليهودية الإسرائيلية) التي لا ترحب بالغرباء، ويبحث عن هوية محايدة يمكنها استيعاب كل تلك المكوّنات دون تشويه أو اختزال.
إشكالية الفاعل الروائي في رواية المدهون مغايرة. فالمنفى باعتباره أرضا لإقامة دائمة لم يبلور هويته بعد، والوطن في ظل هزيمة الانتفاضة، وصعود الأصولية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لم يعد قابضا بقدر واضح من الطمأنينة على هوية أسبغتها عليه الوطنية الفلسطينية في زمن صعودها.
بمعنى آخر: “المجتمع المتخيّل” بتعبير بندكت أندرسون لا يتم تخيّله مرّة أو دفعة واحدة، بل يظل موضوعا لتخيّل وتخييل دائمين. وفي هذا الصدد ثمة ما يبرر القول إن رواية المدهون محاولة أولى للإفلات من سطوة مُتخيّل سابق دون المجازفة باقتراح صورة بديلة. وإذا كان من شأن معالجة كهذه أن تظل على مسافة ملتبسة من سؤال الهوية، فإن عدم المجازفة بطرح تصوّرات بديلة يحرر الفاعل الروائي من عناء البحث عن هوية محتملة للمنفى.
4-
في النص نظائر وأضداد تكوّن مجتمعة نوعا من التوازن بين شخصيات وأمكنة تسكن الرواية. وليد دهمان وعادل البشيتي قناعان للراوي نفسه، كما تحضر بقية الشخصيات إما عن طريق التضاد كما هو الشأن بالنسبة للصاحب القديم الذي صعد درجات السلم الاجتماعي بعد أوسلو، والصاحب الذي تحوّل إلى متسوّل معدم، أو كنوع من المكافئ الموضوعي لشخصية أخرى، كما هو الحال بالنسبة لعدد من الشخصيات الأنثوية.
بيد أن ما يسترعي الاهتمام يتمثل في طريقة توليد الفرق بين الوطن المنفى كمكانين في حالة تضاد، إذ يتجلى كلاهما في سياق نظام لغوي مختلف. فما أن يصل وليد دهمان إلى غزة حتى تتحوّل العامية إلى أداة للتعبير، وعند المغادرة تستعيد الفصحى المخففة مكانتها السابقة في النص.
يحدث ذلك بطريقة واعية. فالعامية هي لغة الأم والعائلة، وهي حميمة وقريبة إلى القلب، ومشحونة بذكريات وروائح وأخيلة قديمة تعود وتُستعاد، لكنها تظل قاصرة عن جسر الهوّة بين عائد يحتار في ما يراه من خراب عميم وظلم فادح، وبين مقيمين حكم عليهم القدر بالعيش في مكان تحوّل إلى سجن كبير، فابتكروا لأنفسهم لغة لا تتسع لأكثر منه.
لم يفشل كثير ممن كتبوا عن الرواية في اكتشاف ما تنطوي عليه من نقد للانتفاضة والسلطة الفلسطينية، وتدهور العلاقات الاجتماعية..الخ لكنهم لم ينتبهوا إلى قراءة ذلك النقد على خلفية “الكلام”، أي المنظومة اللغوية التي تمثل جسرا للتواصل بين الفاعل الروائي ومخاطبيه.
مقابل العامية يمتاز المنفى بالتعددية اللغوية، وتتجلى في “كلامه” إيحاءات وإشارات مستمدة من لغات وثقافات مختلفة. ومع هذا، وفوقه، تُخلي العاطفة مكانها للمنطق والحِجاج. ولعل الخلاصة المنطقية للفرق بين “الكلام” في الحالتين أن لكل من المكانين المعنيين لغة تصفه وتخصه. وبهذا يتأسس الانقسام بينهما لا باعتباره حقيقة جغرافية، أو سياسية، بل باعتباره حقيقة لغوية أيضا.
5-
تحظى شخصية دانا أهوفا بمكانة خاصة في النص. وأوّل ما يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد التساؤل حول كيفية حضور يهودية إسرائيلية تمثل الآخر في رواية الفلسطيني. واللافت للنظر أنها لم تحضر من خلال صورتين نمطيتين هما التحوّل إلى موضوع للعداء، أو للاستيهامات الذكورية. شخصية ملتبسة، ومشكوك في أمرها، لكنها مثيرة للاهتمام. وحتى العلاقة الغرامية لا تنشأ بينها وبين فلسطيني سواء تمثل في الفاعل الروائي أو غيره، بل بينها وبين ابن أحد الحكّام العرب.
الشخصيات النسوية، عادة، في الحياة كما في الروايات، خاصة في حالات الصراعات القومية والإثنية، يُعاملن كحد من حدود هوية الآخر، ويتحوّلن بهذه الصفة إلى موضوع للرغبة إما لانتهاك الآخر، أو التصالح معه. وقد أفلت المدهون من الوقوع في الشرك. وربما نعثر على ما يبرر إفلاته في حقيقة ما يكتنف شخصية أهوفا من التباس، فقد تكون الظل الثاني للبيت الواحد، العنوان الذي اختاره لقسم كبير من أقسام الرواية. وما يحيط بشخصيتها ومصيرها من غموض يجد مبرره في حقيقة أن المصالحة مجرد احتمال.
ومع ذلك، بصرف النظر عن التأويل، استخدم المدهون تقنيات روائية مختلفة، ولم يغفل عن حقيقة أن الرواية عمل من أعمال الخيال، حتى وإن استعانت بالسيرة الذاتية، فتجلت في نصه أشكال مختلفة من اللعب والمراوغة وحتى الاستسلام لغواية تحرير الشخصيات من سطوة المؤلف. في سمات كهذه ما يحيل إلى تجربة العيش في المنطقة الرمادية، وفيها أيضا ما يُضيف جديدا إلى الرواية الفلسطينية، التي اتسعت مساحتها في السنوات الأخيرة لتصبح حقلا للمغامرة والتجريب.
khaderhas1@hotmail.com
• كاتب فلسطيني- برلين
نشر في “الحياة”