“فرانسوا العرب”، لقب جديد للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند تيمنا بلورانس العرب كمثال يضرب في الغرب على “صديق العرب” أو المراهنين عليهم. لورانس الإنكليزي كان رمز انتقال المشرق وشبه الجزيرة العربية من الإمبراطورية العثمانية نحو السيطرة الأوروبية، ولم يصمد وعد أسياده بشأن المملكة العربية، وبعد ذلك كرت سبحة القرن العشرين قرن الفشل العربي.
فرانسوا هولاند، هو فرنسوا الثالث (فرانسوا الأول ملك فرنسي تعاهد مع السلطان سليمان القانوني، وفرانسوا الثاني هو الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران الذي بدأ نشاطه في الشرق الأوسط بزيارة المملكة العربية السعودية قبل ذهابه إلى الكنيست في إسرائيل) الذي يسعى لترك بصماته في مواكبة انتقال المنطقة العربية من زمن الغلبة الأميركية، نحو زمن المصالح المتبادلة والملموسة في عالم الاضطراب الإستراتيجي. على عكس حصاد لورانس لغير صالح العرب، هل يكون عمل هولاند لصالح بلاده ومثمرا مع العرب فيما يتعدى المصالح المركنتيلية نحو شراكة تخدم الجانبين، وتقدم إلى محور الحزم العربي شريكا يثق به بعد خيبة أمل تتأكد من الرهان الطويل على العم سام؟
جاء إطلاق لقب “فرانسوا العرب” على هولاند في عنوان افتتاحية صحيفة لوموند إثر الإعلان عن قرار قطر شراء طائرات رافال، وذلك بعد بدء مصر (التي تلتها الهند) هذه السلسلة من الصفقات ووضع حد لعثرات في التصدير لجوهرة التكنولوجيا الفرنسية ومنافسة نظيراتها من المقاتلات السريعة الأميركية والبريطانية والسويدية. في لحظة وضع اقتصادي مأزوم، تمثل صفقات رافال بالون أكسيجين لعهد فرانسوا هولاند حيث أن مكاسبه الخارجية لم تساعده كثيرا على تلبية وعوده الداخلية حول خفض البطالة وإعادة عجلة النمو. وحسب أوساط فرنسية مطلعة، تأمل باريس في بيع طائرة رافال لدولتي الإمارات العربية المتحدة والكويت وهي تتمتع بعلاقات ممتازة سياسية واقتصادية ودفاعية مع الطرفين.
الأهم بالنسبة لهولاند لم يكن في المكافآت الاقتصادية فحسب، بل في دعوته إلى الحضور بصفة “ضيف شرف” القمة التشاورية لقادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية المقرر عقدها في الرياض في الرابع والخامس من مايو، وأتت دعوته بمبادرة سعودية تدليلا على التقدير لمواقفه، وغمزا من باراك أوباما قبل انعقاد قمة كامب ديفيد الأميركية الخليجية.
من الواضح أن الدول العربية في الخليج أخذت تثمن الاستمرارية في السياسة الخارجية الفرنسية وحيويتها الدولية ومواقفها غير الملتبسة إزاء القضايا العربية أو المتصلة بالمصالح العربية. وينسحب هذا التقدير على احترام فرنسا لالتزاماتها حيال الشركاء الخليجيين، وعلى مواقف باريس المتماسكة فيما يخص القضية الفلسطينية أو ضد النظام السوري أو إزاء التطورات حول اليمن والملف النووي الإيراني، بالإضافة للوضعين في مصر وليبيا.
لا يحتكم القرار الخليجي في تمييز هولاند على اعتبارات شخصية، لأن السياسة الخارجية الفرنسية تحكمها مؤسسات، وتتسم بديمومة في الثوابت ولأن “المواقف الفرنسية هي الأفضل بين المواقف الأوروبية المختلفة” كما يركز مصدر دبلوماسي خليجي.
في تقييم لتجربته خلال سنتين في سوريا ولبنان (1939 – 1940) يقول المفوض السامي غابريال بيو “كل شيء كان يحمل فرنسا على البقاء في المشرق. على هذا الشاطئ من المتوسط تمر طريق الهند وقريبا منه نجد منابع البترول”، وما كان يسري على شرق المتوسط في القرن الماضي يسري عليه اليوم ويتأكد في الامتداد نحو شبه الجزيرة العربية والخليج لناحية الأهمية الجيوستراتيجية ومصادر الطاقة وممراتها، وحرية التجارة الدولية والاستقرار الدولي بشكل عام .
حيال التموضع الجديد للقوى الكبرى، والدور المتصاعد لقوى إقليمية منخرطة في نزاعات الشرق الأوسط، يبدو الدور الفرنسي للوهلة الأولى مهمشا أو ثانويا أو مسلما بأفول النفوذ الأوروبي. بيد أن تسلسل الأحداث في السنوات الأربع الأخيرة يؤكد أن فرنسا بقيت لاعبا يرفض الخروج من دائرة التأثير في مصير الشرق، ليس بسبب المسؤولية التاريخية والمصالح المباشرة فقط، بل لأن أهدافها الإستراتيجية والدفاعية في العالم تتركز، حسب “الكتاب الأبيض” للدفاع الفرنسي الصادر أواخر أبريل 2013، في المناطق التي تصفها بالحيوية والهامة لها وهي المحيط الأوروبي والشرق الأوسط والخليج والبحر الأبيض المتوسط وأفريقيا (خصوصا المغرب العربي ومنطقة الساحل). رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة تشدد العقيدة الدفاعية الجديدة على ضرورة احتفاظ فرنسا باستقلالية القرار السياسي، وذلك في استعادة لمفهوم شارل ديغول، خلال الخمسينات والستينات، الذي رفض الانخراط التام في المخططات الأميركية رغم الحرب الباردة وطالب بصوت مستقل لفرنسا.
وهذا البعد الاستقلالي النسبي للسياسة الخارجية لباريس الذي برز مع الحساسية العربية والطابع الشخصي لعلاقات شيراك مع العالم العربي، يكرسه هولاند عبر مواقفه الصلبة في الملف السوري (ليس سرا القول أن الإدارة الفرنسية تمنت على الرئيس التونسي الباجي القائد السبسي مراجعة قرار وزير خارجيته بشأن استئناف العلاقة مع النظام السوري) أو الملف النووي الإيراني، ولذلك تجد فيه الرياض شريكا طبيعيا خاصة إذا نجح أوباما في تحطيم حاجز “العشق الممنوع”، كي يبدأ شهر العسل مع طهران.
تسير العلاقات الفرنسية العربية على أجنحة رافال السريعة، نظرا لحاجة فرنسا لهذه الصلات على أكثر من صعيد، ولأن علاقاتها القريبة مع دول المغرب العربي، وشراكاتها مع الرياض والقاهرة وأبوظبي والدوحة والكويت، وترسخها في لبنان، وعلاقاتها المتوازنة مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية وتركيا والعراق، تجعل فرنسا لاعبا معنيا بشؤون العرب وشجونهم.
ليس هناك من وهم في باريس أو على ضفاف الخليج حول قدرة فرنسا على الحلول مكان الولايات المتحدة ودورها المهيمن طوال عقود خلت، لكن توجد قناعة بأن فرنسا لاعب جدي يمكن أن يعول عليه ويتمتع بمزايا سياسية وعسكرية واقتصادية. في ميزان المصالح لعبة تبادل الرابحين تنطبق على الصلات العربية الفرنسية، ومما لا شك فيه أن مكافحة التطرف والإرهاب يمثل بعدا جديدا، وأن وجود ملايين المسلمين في فرنسا يمثل عاملا إضافيا في تحديد خياراتها الخارجية ونقطة لقاء مع البلدان العربية.
على عكس توقع رئيس تحرير “إيكونيميست” نهاية 2013، عن نظام عالمي يبرز فيه ملكان كبيران، الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الصيني شي جيبينغ، وإمبراطورة هي أنجيلا ميركل، تمكن الرئيس “العادي” فرانسوا هولاند، كما كان يسمي نفسه خلال حملته الرئاسية، من مفاجأة الجميع بدءا من حرب مالي، وصولا إلى بقية دول الساحل وسوريا، من التمركز بين الكبار (لا يمكن إغفال بوتين ضمن التصنيف) عبر دبلوماسية نشطة والبرهان على حسن استخدام فرنسا لوسائلها العسكرية، بغية ترجمة سياساتها والدفاع عن مصالحها في عالم يسوده التردد والمساومات.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس