الطلب على الحلول الخلاصية لم يكن يوما بهذا الحجم، ولا بهذا الإلحاح. الاستغاثة عنوان الحياتين العامة والخاصة. الفوضى، الحروب الكامنة او المتفجرة، الفساد، الانفلات الامني… ما من حاجة لسرد المزيد لتصور ان الجميع امام سدّ منيع يصدّ عن الحلول على الجميع، فيحل بذلك الطلب على الحول الشاملة الكاملة.
الطلب الجماهيري والنخبوي على الحلول الخلاصية لم يحتل في تاريخنا المعاصر كل هذه الفسحة من الادبيات والخطب والتكلّم اليومي… هذه حالة، او قلْ ديناميكية سلبية.
لأن تكاثر الطلب على الحلول الخلاصية يبيّن ان الغالبية مشلولة القدرات؛ عاجزة عن الفعل في واقعها. عاجزة عن التدخّل في مسار حياتها. اي ان حريتها محدودة، لأن خيارتها معدومة. لا يجب الابتهاج من تصاعد هذا الطلب، لأنه يحوّل هذه الغالبية الى مجرد طاقة استهلاكية للحلول. سوق ناشط، “يشتري” فيه طالبو الحلول بضاعة؛ لم يدقّقوا بها، لم يتحققوا من مكوناتها، ولا من نفاذ صلاحيتها… الخ.
من بين اصحاب الحلول التامة: السياسيون اولا. المتمتعون بسلطة، او يتوقون الى مزيد منها. وطالما ان قانون التوق الى هذا المزيد لا يخضع لمعايير معينة او دقيقة، فان السياسي يبيع حلولا هي جزء من “هويته السياسية”، من “تاريخه”… اذا جاز التعبير.
السياسيون “متفائلون” بطبعهم وتطبّعهم. ولا يحنقون الا امام الشاشة. ثقتهم بالمستقبل قوية، طالما القدر انزلهم على ارض العباد… إبتغاء للحل النهائي، الحل الابدي. وهذه فئة من اصحاب الحلول تبيع البضاعة الأقل عرضة للتدقيق. آلتهم الاعلامية او الحزبية او التعبوية، تنسخ بسهولة ما يبدو لها فضحاً لفساد بضاعتها؛ فساد “حلولها”.
الفئة الثانية من بائعي الحلول، وقد ازدهرت مؤخراً مع زيادة الطلب، هم البصّارون؛ او المنجمون بلغة اكثر مهنية. والطريف ان “حلولهم” هي احلام. تسأل مواطنة لبنانية المنجم ميشال الحايك بلهفة: “قلْ لي قبل انتهاء هذه سنة 2007… هل سيُحّل الوضع ام لا؟”.
لا يمكن التحقّق من صدقية بضاعة المنجمين. ولا يحق للذي اشترى منهم الحلم محاسبة بائعها على فسادها. بسبب غيببتها نفسها وغموض لغتها وانطابقها على غالبية الاحلام… سوق الحلول الخلاصية بالاحلام تتفرع من سوق الحلول العامة، وهي الأكثر ازدهاراً في سوق الحلول التامة المتمدّدة…
الفئة الثالثة من اصحاب الحلول، والأقل حظا من بين بائعي الحلول، هم حمَلَة القلم من المثقفين. المثقف العربي يمضي عمره صياغة للحل الشامل، الضمني والمعلن. كيفما دارَ، ومهما طرح من “تساولات”، فان اعماقه يسكنها “الحل”. واذا ما قصّر، او بالاحرى شعر بأن من حوله يدينه بالتقصير، فانه يعاني… “فكرياً”، كما يقول. لكنه في الواقع يعاني من عدم امتلاء “دوره” بصفته صاحب الحل.
بعض هؤلاء المثقفين غيروا “إنتمآءتهم” الايديولوجية من اجل الالتحاق بقافلة اصحاب الحل الوارد: اليساريون السابقون الذين صاروا اكبر منظّرين للاسلامية السياسية مثلا.
“الحل” هاجس يدور حوله المثقف. كأنه “اختار” الثقافة والفكر والكتابة من اجل هدف واحد فحسب: ايجاد الحل. الحل الشامل دائما. ولا مرة الا حلا شاملا ناجزاً… حلا خلاصياً.
ما هي المشكلة في هذا السوق؟
طبعا ان فيها تجارة رابحة على حساب احباط عربي عام. احباط من النوع الذي يصيب المواطن المفترَض بالهشاشة والفقر: المشكلة في السوق نفسها. في مجرد وجودها. ثم في نوعية هذا الوجود؛ وقد تراكمت عليه افعال السنين والتكرار. وباتت كأنها من صلب التفكير العام والخاص.
ومن تفرعات هذه المشكلات كلها، مضامين هذه الحلول نفسها. ولا واحد من هذه الحلول الا وقد اصابته امراض الفكر العربي المحبَط. فالحلول التي يستدرجها السوق هي دائما حلول نظرية، او ايديولوجية. حلول تعبوية؛ لا تطوق الى حل، بل الى الحشد والتعبئة والتحزّب… والمزيد من التعصب، والابتعاد عن الحلول الممكنة. والأدهى انها حلول كلها “جذرية”؛ بمعنى انها تلغي غيرها من الحلول الغاء ساحقا… فتحمل في طياتها خراباً للمدينة والمدنية ولأوضاع الناس واستقرارهم. فهي لا تأتي بغير الحروب، المشتعلة منها او القابلة للإشتعال في اية لحظة. فبادعاء بعضها انها “ثورية”: “…هو الحل”. “الاسلام هو الحل”، او “العلمانية هي …”، او الليبرالية، او القومية، او اليسارية… كلها حمّالة الحلول الخلاصية. وهي تنسف امكانية تصور غير الذات، غير الانا الايديولوجية. والتي لا تخلو واحدة منها من مدارس وانشقاقات ونزاعات وعنف، لفظي او مسلّح…
أن يشيع السياسي هكذا مناخ، فهذا ليس فيه من جديد. فالسياسي لا يملك غير هذه البضاعة الفاسدة. اما المنجم، فيبيع حلول-أحلام لمن يريد ان يشتريها. ليس المواطن حكما تحت امرة قراراته او تنبؤاته، الا اذا انجرّ الى النزعة الاستهلاكية.
اما المثقف. ماذا عن المثقف؟ ان يقتصر فعله الفكري او البحثي او التحليلي او الابداعي على انتاج الحلول؛ فهذا من باب فقر مخيلته، من ضعفها امام فخ الجماعة الاجماعية. المثقف العضوي، المثقف الملتزم، المثقف صاحب الرسالة… كلها تصورات مبهمة خدمت “مواقع” لمثقفين، ولم تخدم انتاجهم من الانحسار في انتاج الحلول فحسب. واذا قرنتَ هذه التصورات بالتهميش السياسي للمثقف من حيث مشاركته الفعلية في صياغة حلول وايجاد آليات تنفيذها، وما يفضي اليه هذا التهميش من انعدام التجربة السياسية الفعلية… فانه يسهل على المثقف ان يحول هذه المهمة التي ارتضاها لنفسه، أي مهمة ايجاد الحل… الى سعي شرعي ومفهوم من اجل “موقع” ما: رئاسة ما، وجاهة ما، نجومية ما… وبضاعته فيها هي “حله” الذي كان بمثابة سلّم للصعود.
نحن اليوم امام معضلة. كل الحلول المتداولة مطلقة خلاصية. كل الحلول المتداولة انقلابية ثورية هدامة. بعض الحلول البارزة اختبرت او اختبرها غيرنا. واذا كانت الاسلامية الآن في عزّها، فانها مع التجارب اللبنانية والفلسطينية والعراقية بلغت او سوف تبلغ نهايتها.
والذين يصرّون على متابعة ملء دور اصحاب الحل، عليهم ربما مواجهة الحقيقة المؤلمة: بأن لا حلول في الحل الخلاصي. وبأن الانتاج الثقافي سوف يبقى عقيما لو اصرّ على الهوى السهل الكسول…على بيع الحلول. امام هذه المعضلة، قد يكون الاجدر بأصحاب الانتاج الثقافي ان يشرعوا بفتح ثغرة في الحائط الذي يسكن فيه عقلهم، فيلجوا بذلك الى مناطق اخرى من الخيال.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة