في مطلع عام 2005، كتبت مقالا أحذر من خلاله من مغبة الإتكاء على إنجاز “اتفاق السلام” في جنوب السودان، باعتباره انجازا وطنيا يلغي ضرورات التفكير مليا في أسّ مشكلات السودان، وجذورها، والنظر بشكل استراتيجي في وضع حلول مستدامة.
المقال، كتب بعد خمسة أيام فقط على حفل التوقيع الذي احتضنته العاصمة الكينية، نيروبي.والآن، بالاتهامات التي وجهت إلى الرئيس السوداني، عمر البشير، وأسلوب إدارة الأزمة – إلى غاية الآن – من طرف الحكومة السودانية، يوضح بجلاء أن السودان ماض إلى كارثة أكبر !!
والآن، إلى المقال الذي يحاول أن ينبه إلى المخاطر الناجمة عن حلول مرحلية لا تستهدي بنظرة شاملة واستراتيجية، هل أقول إن تكرار الأزمات، واشتعالها على هذا النحو الذي نراه، هو محصلة طبيعية عن طبيعة إدارة “العقل السوداني” للأزمة؟:
ليس مطلوبا من المفكرين والمثقفين السودانيين في هذه المرحلة غض الطرف عن القضايا الفكرية المعمقة والعناصر التي غذت مشكلات الجهات الطرفية في السودان خصوصا في جنوبه.
ويتعين على هؤلاء خصوصا، العمل على المسائل الفكرية التي ظل السياسيون السودانيون يتجاوزونها في كل مرة حانت خلالها سانحة للقفز على واقع الحلول العنفية.والواقع أن التهاب الأوضاع في دارفور يلقي على النخب السودانية مسؤولية مضاعفة لجهة أن تتساوق الخطابات الثقافية والسياسية على الأقل في اتجاه مواصلة الحوار وتعميقه عوضا عن الاتجاه الحالي في إلباس الاتفاق الحالي المفضي لوضع حد للحرب في الجنوب، لباس الإنجاز الوطني المطلق.
يميل العقل السياسي السوداني إلى فرز خطاب دعائي متقمص بروح الإنجاز عادة في مثل هذه الأحوال. ويجهد في التقليل من دور الأزمات الأخرى المشتعلة طالما أنه حقق تقدما في مسار حيوي كمسار التسوية في الجنوب. لكن قنابل موقوتة أخرى قد تعيد السودان إلى المربع الأول. وبدلا من مخاطبة قضايا التنمية المستدامة والحريات العامة وتضميد الجراح السياسية والاقتصادية والثقافية التي تسببت فيها حماقات التنظيمات السياسية التي توسلت بالمؤسسة العسكرية للوصول إلى السلطة منفردة وعازلة الآخرين عن المشاركة، يعمد هذا العقل إلى مخاطبة العاطفة كما بدا واضحا من الخطاب الرسمي الذي يعوّل كثيرا على مسألة السلام وحدها في تحقيق مكاسب سياسية لافتة في الاختبار الديمقراطي المقبل بتأسيس أرضية لهذا الخطاب المخدّر منذ الآن.
ويحق للسودانيين بطبيعة الحال، وبعد أن دقت الحرب على كل الأبواب وتخطفت الناس في الشمال والجنوب لتطحنهم في محرقتها فضلا عن اهدارها الموارد الاقتصادية وانهاكها القطاعات التنموية كافة، أن يبدوا قدرا غير قليل من التفاؤل لما تم إنجازه من خلال ضغوط دولية مكثفة أثمرت اتفاق “نيفاشا”. لكن مشهد الاستقرار يبدو غير مكتمل نظرا لأن عناصر الاشعال ما زالت حاضرة، وتغذي بضراوة نزاع دارفور إضافة لامكانات الاشتعال القائمة في شرق السودان.
وللوهلة الأولى يبدو المسرح السوداني مهيئا تماما لاستقبال السلام كحدث لافت يمكن أن يؤدي إلى حلحلة الأزمات القائمة ونزع فتيلها الذي يعتبره البعض موصولا بالأزمة الرئيسية. لكن معاينة الوضع السوداني في فضاءاته السياسية والثقافية والاجتماعية لا شك يفضي إلى قراءة أخرى غير تلك التي تظهر للعيان.
فالتراكمات الاجتماعية والسياسية وتواتر الفعل السياسي بين مطرقة الحكومات الأوتوقراطية والأنظمة “منزوعة الديمقراطية” بفعل الارادة الناقصة لدى غالبية الناخبين السودانيين في كل مرة جرت خلالها انتخابات، شكلت طبقات عازلة في الوعي الجمعي وشظته، بل وحجمت إلى حد كبير “الإنتماء” و”المواطنة”. وأحدثت السنوات التي قضاها الإسلاميون خاصة في السلطة ارتدادات جهوية ومناطقية مريعة إلى درجة أن الأحزاب السياسية الكبيرة باتت مهددة حتى في داخلها بمخاطر التفجر والمنازعات المتأسسة على تجاذبات من هذا النوع.
ونتيجة لأن الوعي القومي ما قدر له أن يكتمل في فضاء ديمقراطي خالص منذ أن نال السودان استقلاله في ،1956 ونظرا لأن الحكومات العسكرية التي حكمت مدة 37 عاما (الآن أكملت 41 عاما) لجأت في كثير من الأحيان إلى ضرب خصومها وشحذ التأييد من خلال استقطابات قبائلية وجهوية، كما هو شأن نظام الإنقاذ منذ حلوله في السلطة في يونيو ،1989 فإن حال الوعي القومي يبدو في أكثر حالاته هشاشة في هذا الوقت. وليس أدل على ذلك من معاينة 30 فصيلا مسلحا في الغرب والجنوب والشمال والشرق تعمل ضد السلطة المركزية مستندة إلى خطابات جهوية وإثنية خالصة متدثرة بعباءة ثورية.
والمشكلة أن معظم هذه الفصائل التي تشكل بحد ذاتها رافعة لعدم الاستقرار وواحدة من أبرز مهددات السلام، تخاطب الوعي الإثني والجهوي بخطابات سياسية لا تخلو أبدا من وجاهة المنطق. ولئن بدا بعضها على الأقل عاملا في فضاء المماحكة القائمة بين الحزب الحاكم وحلفائه السابقين في حزب المؤتمر الشعبي بزعامة الدكتور حسن الترابي، فإن الغالبية العظمي من هذه الفصائل أفرزت خطابات سياسية وجدت قبولا واسعا لدى الإثنيات المخاطبة لأن المشكلات التي تحاول هذه الفصائل معالجتها قائمة بالفعل نتيجة جدلية المركز والهامش في السودان.
هذه الجدلية كانت سببا في إندلاع ما اصطلح على تسميته “تمردا” في الجنوب منذ 1955 إلى غاية 1972 حينما وقّع الرئيس الأسبق جعفر نميري معاهدة مع الفصيل المقاتل آنذاك “أنيانيا 2”. لكن نميري ذاته لم يلبث شأنه شأن سابقيه في الحكم منذ الاستقلال أن نقض ذلك العهد في 1982 ليدخل الجنوب السوداني فصلا جديدا منذ 1983.
والغريب أن جدلية المركز والهامش التي تتوسل بها غالبية الحركات المقاومة لحكومة الخرطوم حاليا، نشأت من افتراض خاطىء بغلبة سياسية وثقافية للشمال “المطلق” في مواجهة جنوب “مطلق” وإن كانت أقاليم ومجاميع إثنية بخلاف الجنوب قد استظلت لاحقا بمظلة التهميش للمطالبة بحقوق من الشمال المركز افتراضا.
لكن هذه الفرضية تبدو قابلة للمراجعة إن لم نقل إنها لم تتأسس على مرئيات فكرية وثقافية معمقة. فالسلطة وخصوصا الشمولية باعتبارها المركز المستهدف بالتغيير لجهة سودان جديد قائم على المساواة والعدل والمحاصصة السياسية والثقافية والاقتصادية إلى حد كبير، وإن كانت ممثلة بالشمال الجغرافي غالبا، إلا أنها استقطبت مجاميع غير شمالية. بل إن الشمال الجغرافي ذاته شرع في التلويح باستعمال السلاح لوضع حد لتهميش مناطق النوبة شمال السودان، وإنهاء حال المواجهة بين الحكومة وقبيلة المناصير مثلا في شمال السودان فيما يتعلق بنيات الحكومة إجلاء مجموعات من هذه القبيلة بعيدا عن مناطقها لإقامة خزان مائي (وقد تمّ هذا بالفعل وأفرز افرازات اجتماعية وسياسية سالبة للغاية).
وتبدو جدلية المركز والهامش على صلة أكبر بالثقافتين المهيمنتين في السودان العربية والإسلامية أكثر من ارتباطها بالشمال الجغرافي. ويتحلق حول هاتين الثقافتين المتحاددتين المتقاطعتين عدد كبير من السياسيين والمثقفين حتى من غير المحسوبين عليهما الذين خلقوا منهما عاملا للتفرقة عوضا عن التماسك الوطني. وقدر لهاتين الثقافتين أن تلعبا خصوصا في عهد الإنقاذ دور الأداة التدميرية لما سواهما من العناصر المكوّنة للثقافة السودانية القائمة على التنوع التي تغالب حاليا سبل النهوض وسيتعين على عرابيها استنهاضها بوصفها رافعة رئيسية في التكوين القومي.
ليست هذه فحسب محاذير السلام السوداني، فإذا جاز لنا تخطي العامل الثقافي الذي أسهم بشكل مباشر في تهشيم الوعي الجمعي السوداني، فإن “قنابل موقوتة” أخرى تنشأ في هذا الاطار ملوحة باطالة أمد الأزمة السودانية بشكل عام ما لم يستكمل اتفاق السلام بخطوات في غاية الأهمية لجهة تعزيز البناء القومي المفترض تقويته في المرحلة القادمة لئلا يكون الخيار “المنطقي” بعد المرحلة الانتقالية هو الانفصال.
ولا شك أن اتفاق السلام بشكله الراهن يعزل قوى رئيسية في البلاد بما في ذلك فصائل مسلحة وغير مسلحة في الجنوب ذاته ليست منضوية تحت لواء الحركة الشعبية، ولا يحل على الرغم من الانجاز الكبير إلا جزءا من الأزمة العميقة التي رافقت السودان منذ استقلاله. فقسمة السلطة والثروة، علاوة على الإجراءات الأخرى التي خلص إليها المفاوضون السودانيون بضغط خارجي غير خاف، لا تشمل اعادة النظر بشكل معمق في إجراءات موازية تتعلق بالأقاليم والمجاميع الإثنية الأخرى المحتجة ضد الدولة لابد أن ينظر إليها لتأمين السلام والعدالة والمساواة، كما أنها لا تؤسس لعقد اجتماعي يكفل تمتع السودانيين كلهم بالحقوق والواجبات عينها التي يطالبون بها.
وغني عن القول أن عيبا رئيسيا بالاتفاق يتمثل بتكريس السلطة القائمة إلى حد كبير، ولم ينظر الاتفاق ولا الذين سعوا لممارسة ضغوط هائلة لارغام الحكومة والحركة الشعبية على توقيعه. وبقاء النظام الحالي الذي أوقع بمجموعات كبيرة من السودانيين مظالم واسعة، وتطاله اتهامات بالفساد المالي والاداري ناهيك عن الجرائم الجنائية (وهي الجرائم التي تطال اتهاماتها رئيس الجمهورية الآن) ، يمثل عقبة بحد ذاتها تقف عائقا أمام تسوية واسعة الاطار يمكن أن تفضي إليها مساومة تاريخية تنجز في اطار السلام انجازها في اطار الديمقراطية وحقوق الانسان.
ولم يتطرق الاتفاق بشكل واضح لقضية الديمقراطية وحقوق الانسان (وهذا سبب من أسباب تردي الأوضاع بشكل كارثي في دارفور)، ولعل الغموض الذي اكتنف هذا الجانب كان جزءا من التسوية المحدودة التي يخشى من آثارها السالبة لاحقا خصوصا إذا صحت تهديدات أطراف سودانية بمواصلة العمل المسلح فضلا عن العمل المدني الذي يمكن أن يخلّف مواجهة بين الحكومة الحالية والحركة الشعبية من جانب والقوى السياسية الأخرى من جانب آخر.
ومطلوب في هذا الظرف الدقيق أن يعمد السودانيون وبجدية كاملة إلى الانتقال سريعا لمعالجة الحريق السياسي والاجتماعي الذي أوجد معاناة انسانية في دارفور، وأن يلتفتوا إلى الدعوات العقلانية بالتعجيل في عقد لقاء جامع يتخذ صفة دستورية بحيث تتواضع الفاعليات السياسية السودانية على جملة مواثيق سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية كفيلة بانهاء حال الاحتقان التي لن يفلح اتفاق السلام منفردا في حلحلتها (الآن، أخيرا جدا بدأت الخرطوم تقتنع بوجاهة هذه الفكرة بوصفها سبيلا وحيدا لمخرج وحل داخليين).
ومالم يقفز العقل السياسي السوداني على واقعه الناشيء منذ ،1956 ويحفر عميقا لناحية الاستراتيجي بدلا من المرحلي، ويعمل على تأسيس بيئة حفز جديدة لنهوض سوداني شامل، فإن التعويل على هذه النقلة وحيدة سيكون ضربا من التعلق بالأوهام. ولن يتحقق مثل هذا الاتجاه الاستراتيجي في وضع مواثيق وطنية ودستور جديد يضع البلاد في مسار ديمقراطي وسلمي صحيح، إلا بمؤتمر دستوري يناقش التفاصيل كافة التي أهملتها بروتوكولات السلام.
khalidowais@hotmail.com
* كاتب من السودان