والمشكلة الكبرى هي أن من قد لا يعجبهم أن “يتولاهم” السيد خامنئي، وهم ”السُنّة”، يمثّلون ٩٠ بالمئة من المسلمين، وقسماً على الأقل (قد يكون غالباً في إيران نفسها كما أثبتت “الثورة الخضراء” الإيرانية في ٢٠٠٩) من الشيعة، والإسماعيلية والزيدية!
والأرقام هنا مفيدة، خصوصاً للمحلّلين الغربيين الذين اعتادوا تداول مصطلحات ”الحرب السنّية-الشيعية” بدون تمحيص، أو الذين اكتشفوا ”قرابةً” ما بين توجّهات البيت الأبيض الحالي (او حتى “الفاتيكان” الكاثوليكي الذي تسعى طهران لعقد تحالف معه بأي ثمن) والكتلة الشيعية “الصغيرة” من المسلمين.
٨٥-٩٠ بالمئة من المسلمين هم من ”السُنّة”
يمثّل المسلمون “السنّة” في العالم ٨٥ – ٩٠ بالمئة من عموم المسلمين، حسب أحدث تقديرات ”مركز بيو” الأميركي، الذي يعتَبَر ”مرجعا” في هذا المجال. بالأرقام، يقارب عدد المسلمين السنّة في العالم ١ مليار نسمة، في حين تذهب أعلى التقديرات إلى أن المسلمين الشيعة يصلون إلى ١٥٠-١٧٠ مليون نسمة، بينهم أقل من ١٠٠ مليون شيعي في إيران والعراق. وتصحّ النسبة نفسها على المستوى العربي، حيث يشكّل العراق (منذ أواخر القرن التاسع عشر) البلد العربي الوحيد الذي يتفوق فيه “الشيعة” على “السنّة” عددياً.
للمقارنة: عدد المسحيين الكاثوليك ١،٢ مليار نسمة، مقابل ٨٠٠ مليون نسمة للبروتستانت، بفارق ٤٠٠ مليون نسمة.. فقط! أما الفارق بين السنّة والشيعة فيقارب المليار!
من ناحية الأرقام وحدها تبدو مهمة السيّد خامنئي شاقة! فما زال عليه أن يقنع ١ مليار مسلم سنّي بأن ”يتولاهم” هو، بانتظار أن ”يسلّم الراية للإمام الغائب” الذي لا يعترف به السنّة، بل و”يتندّرون” بأخباره وأخبار ”سِردابه”! أو أن يغزوهم “في عقر دارهم”، كما تتراءئ للسنّة الآن، أو لبعضهم، ”الغزوة الإيرانية الملاتية الشيعية” التي يتعرض لها العراق ولبنان وسوريا واليمن والسودان وإريتريا والصومال، وهذا حتى لا نشير إلى باكستان وأفغانستان. وفي هذه الأخيرة، يغيب عن أكثر المراقبين أن نظام طهران نجح في شق ”حركة طالبان أفغانستان” إلى قسمين شبه متساوين، وأن نصف ”الطالبان الأفغان” حالياً يحصل على تمويل إيراني، ويتلقى تدريبات متقدمة على أيدي “مستشارين عسكريين” إيرانيين.
في أي حال، إذا عدنا إلى ”الأرقام” ، فسيكون صعباً اعتبار الأغلبية السنّية “فِرقة” دينية تتصارع مع “فرقة” دينية أخرى، كما يتراءى لقارئ التحليلات الغربية! بالأحرى، وفي ضوء الأرقام، يبدو الشيعة “فرقة” متميّزة عما يمكن تسميته “عمومَ المسلمين”! (مَثَل معبّر: ”سنة” إندونيسيا وحدهم أكبر من كل ”العالَم الشيعي”!) وقد يشير الإصرار على إبراز مقولة”الحرب السنّية-الشيعية”، أو مقولة ”الدول السنّية”، عن ”عمىً أيديولوجي” ربما يكون متـأثّراً بسياسات الولايات المتحدة التي لم تتبدّل في بعض جوانبها منذ غزو العراق في العام ٢٠٠٣. والأرجح، في أي حال، أن التركيز على “الصراع السنّي-الشيعي” يخدم مشروع الوفاق مع إيران الذي تسعى له إدارة أوباما بأي ثمن.
مع ذلك، ثمة جوانب أخرى للموضوع.
بدايةً، هنالك اختزال للمواقف ”العربية” إلى مواقف ”سنّية”!
فالإمتعاض الخليجي من الغزوة الإيرانية للمنطقة العربية هو امتعاض من جانب.. ”دول سنّية”! والمواجهة مع النظام الإيراني- بصفته نظاماً ”إيرانياً” وبصفته نظاماً ”ثيوقراطياً شيعياً”، أي نظاماً يحكمه ”ملات شيعة”- تتحوّل إلى ”حرب سنّية-شيعية”! وإذا كان هنالك، فعلاً، بُعدٌ ”سنّي” للمواجهة مع نظام طهران، فإن اختزالها إلى بُعدِِها السنّي-الشيعي لا يفسّر التأييد الذي تحظى به، حالياً، سياسة السعودية المناوئة لإيران من فئات “ليبرالية” و”تقدّمية” لا تتّفق مع الكثير من جوانب النظام السعودي. أو من تيّارات ”عروبيّة” لا تهضم مخططات إيران (الإيرانية والثيوقراطية) لبناء ”مستوطنات” تابعة لها في لبنان والعراق وسوريا واليمن والسودان، وصولاً إلى الصومال وإريتريا). وللتذكير، حظر النفط السعودي والخليجي إبان حرب أكتوبر ١٩٧٣ يُسمّى “حظر النفط العربي”، في حين يصبح قرار السعودية الأخير بعدم خفض الإنتاج (إذا صحّ أنه كان سياسياً في أحد جوانبه) سياسة دولة نفطية ”سنّية” مناوئة لإيران!
أي أن إحدى المشكلات في التحليلات الأميركية الرائجة منذ غزو العراق هي أنها تلغي فكرة ”المصالح العربية”!
لكن تبقى مشكلة أخرى في النظرة الأساسية إلى المسلمين “السنّة”.
نشوء “الشيعة” و”السنّة”
ما الذي يفسّر الإختلال العددي الهائل بين ”السنّة” و”الشيعة”؟ للإجابة، ينبغي العودة إلى التطوّر التاريخي للإسلام منذ عهد معاوية وحتى فترة متأخرة من العهد العبّاسي، أي حتى القرنين التاسع والعاشر الميلادي.
فحتى أواخر القرن التاسع الميلادي لم يكن هنالك ”طائفة” تُطلّق عليها تسمية ”السنّة”. في حين كانت هنالك ”فِرَق” يسميها المؤرّخ البريطاني ”مونتغمري وات” فرقاَ ”شبه شيعية” تكافح تحت راية ”إمام”، إلى جانب ”الخوارج” وغيرهم. وهذه ”الفِرَق” لم تكن تضم “شيعة إثني عشرية” لسبب منطقي هو تعذر “الإثني عشرية” قبل الإمام الثاني عشر، ولسبب معتقدي مفاده أن معتقدات الشيعة الإثني عشرية لم تتبلور إلى ما نعرفها عليه اليوم حتى نهاية القرن التاسع الميلادي.
وبعد فترة طويلة من الصراعات التي لعب فيها الخلفاء أدواراً متباينة، ولكن قد لا تكون حاسمة، وكثر فيها ”تكفير” الخصوم، توصّل المجتمع الإسلامي، عبر فقهائه، وخصوصاً الإمام الشافعي، إلى ما يمكن اعتباره ”القاسم الأدنى المشترك” أو الحل ”الوسط” (الإسلام دين ”وسطي”، يقول السنّة)، أو حتى ”الحس السليم، بين عموم المسلمين الذين أصبحوا، في فترة لاحقة (ربما بعد قرن من الزمان، أي ابتداء من أواخر القرن العاشر) ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ”أهل السنّة” أو ”أهل السنّة والجماعة” أو ”أهل السنّة والجماعة والحديث” أو ”أهل السنّة والإستقامة”. وقد وجد فقهاء القرنين التاسع والعاشر الميلادي حلاً لمشكلة ”أفضلية” علي بن أبي طالب على من سبقه من الخلفاء وخصوصاً عثمان بن عفّان، بالإعتراف بـ”الخلفاء الراشدين الأربعة ” جميعاً بدون تمييز! و”كفى المؤمنين شرّ القتال”!
ولم تلعب السلطة، أو القمع أو الإضطهاد، دوراً حاسماً في هذا التطوّر ”الطبيعي” (يعتبر مونتغمري وات أن الخليفة المامون كان “زيدياً”، مثلا). ومن المهم هنا أن يدرك القارئ أن الحكم العبّاسي لم يكن يعتبر نفسه ”سنّياً” بمواجهة عُصاة من ”الشيعة”! ومثل هذا التصوّر ”وَهم” و”أسطورة” لا صلة لها بالوقائع التاريخية. وحدث أن غلبت على الخلافة العباسية بعد ”المتوكل” جماعات تركية أو فارسية متشيّعة! ليس هنالك ”خليفة سنّي” وشيعة ”محرومون” في العصر العبّاسي!
وخلال الفترة نفسها (وليس منذ عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، كما تزعم أساطير الشيعة) استقرّت معظم التيّارات الشيعية المعتدلة، وليس كلها، على ما أصبح معروفاً اليوم بـ”الشيعة الإثني عشرية”، و”الزيدية” و”الإسماعيلية”. وقد يكون توقّف معظم فَرق الشيعة عند الإمام الثاني عشر مؤشّراً إلى غلبة تيار “الإعتدال” في فَرَق الشيعة (لا حركات تمرّد ضد السلطة المركزية في “غياب الإمام”!)، وهذا إلى جانب اكتفاء “الزيدية” بمملكتها المنعزلة في اليمن التي يبدو أنها توقّفت عن “الدعوة” لمذهبها. ولم يتغيّر هذا الموقف الشيعي حتى ثورة الخميني. وحدها الإسماعيلية ظلت “ثورية” حتى فترة لاحقة.
المهم هو أن فِرَق الشيعة كانت فِرقاً مكافحة ومنافحة تنطلق من أسطورة ”المظلومية” (ويمتزج فيها الإسلام بتراثات غير إسلامية)، في حين تبلورت عقائد “السنّة” كردّ فعل لجمهور المسلمين على فترات الصراع العنيف التي عرفها العصر الأموي والعصر العبّاسي خصوصاً. ومن الضروري هنا التركيز على ”عقائد” أهل السنّة، لأنه لم تكن هنالك، تاريخياً، ”فّرقة” أو ”فِرَق” أو ”أحزاب” أو ”جماعات” سنّية.
بحكم تطوّرهم التاريخي، ”السنّة” محافظون يتمسّكون بالقرآن والحديث والسنّة النبوية، ومن هنا صعوبة تقبّلهم لتيارات ”القرآنيين” منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلى جمال البنّا. وحتى القرون الحديثة، فقد تكون ”الوهابية” أولى (وهذه نقطة تحتمل البحث) الحركات ”الجهادية” في الإسلام السنّي الحديث، أي أولى الحركات التي يمكن أن تُطلّق عليها تسمية ”فَرقة”. وقد تحوّلت ”الوهابية” إلى ظاهرة خطرة وإلى بيئة صالحة للإرهاب مع تدفق مداخيل النفط الهائلة، ومع البروز المفاجئ للخطر الشيعي ولـ”المزايدة” الإيرانية – الخمينية.
الشيعة أقرب إلى ”التطرّف”، من حيث المبدأ فقط، لأنهم ”أصحاب قضية”، ولأن أساطيرهم الدينية تجعل منهم “أصحاب مظلومية”! هل لعبت هذه الخلفية الثقافية-التاريخية دوراً في أن الجمهور الشيعي، عموماً، كان أكثر تقبّلاً لأفكار البعث واليسار والشيوعية، في لبنان والعراق مثلاً، من الجمهور السنّي؟ ربما..!
وإلى أي حدّ يلعب تراث الرفض الشيعي للدولة (التي تفتقد لـ”المشروعية” بنظر فقهائهم) دوراً اليوم في الدور الهادم للدولة الذي يلعبه حزب حسن نصرالله وأبناء عمه الحوثيون؟ وهل لعب التراث الفقهي الشيعي دوراً في تحويل دولة العراق من دولة مركزية متشددة في مركزيتها إلى ”دولة ميليشيات طائفية”؟ (إقرأ تقرير “رويترز” عن عمليات “التطهير الطائفي” التي تقوم بها الميليشيات الشيعة حالياً في العراق، وهي لا تختلف في شيء عن عمليات التطهير التي تقوم بها “داعش”).
قائمة الإرهاب “السنّي”
ليس صعباً الإعتراض على ما سبق بـ”قائمة” واسعة لجماعات الإرهاب السنّي: من ”الافغان العرب” إلى جماعة ”الجهاد المصري”، و”الجماعة الإسلامية” في مصر وغيرها، ثم ”القاعدة” وأخواتها، وعملية ١١ سبتمبر ٢٠٠١ الإرهابية، وصولاً إلى ”الزرقاوي”، و”داعش” و”الدولة الإسلامية في العراق والشام” وحتى ”بوكو حرام”! وإلى جانب ذلك كله، الدور ”الوهابي”، أي دور ”علماء السعودية”، وأحياناً السلطة فيها، في تشجيع ”الجهادية السنّية”. وهذه الجماعات أو ”الفِرَق” هي ما يستند إليه حزب الله، وحتى محلّلون غربيون، في المساواة الضمنية بين “التكفيريين” وعموم “السنّة”.
”الإرهاب الإيراني” سابق
لكن قائمة الإرهاب السنّي “المتداولة” تغفل أمرين، أولهما التسلسل الزمني، وثانيهما “تلوّث” فِرَق الإرهاب السنّي بـ”الإسلام الخميني”.
زمنياً، يمكن إرجاع بدايات العمليات الإرهابية “الإسلامية” إلى احتلال السفارة الأميركية في طهران و”احتجاز” اكثر من ٥٠ ديبلوماسياً تحولوا إلى “رهائن”، ثم العمليات الأرهابية ضد ثكنات “المارينز” والجنود الفرنسيين في بيروت (١٩٨٣) وعمليات خطف المراسلين الأجانب. وهذه كلها حدثت قبل الإحتلال السوفياتي لأفغانستان، أي قبل١٠ سنوات أو أكثر من ظهور “القاعدة”! ولا حاجة هنا إلى التذكير بكل عمليات الإغتيال التي شهدها لبنان، وما زال، والتي ارتكبتها “فِرقة” خمينية تابعة للنظام “الإيراني الثيوقراطي”.
ولا بأس، من ملاحظة الدور الإيراني في حركات مثل ”جماعة التوحيد” في طرابلس بلبنان، التي كانت سفارة إيران تمولّها “مباشرة”. ومثلها الآن، القسم الموالي لطهران من حركة طالبان الأفغانية.
عدا “الأسبقية” التي كانت للنظام “الملاتي” في طهران في ميدان الإرهاب، فقد تـأثّر الإسلام السنّي، في ما يشبه “التلوّث البيئي”، بنجاحات “الشيخ” الخميني في إقامة دولة يحكمها هو وخلفاؤه حكماً شبه مطلق، بل ويعطّلون أحكام القرآن إذا اقتضت ذلك مصلحتها كما أفتى الخميني نفسه! وهذا النجاح ”الخميني” أيقظ “الجهادية” الكامنة في الحركة الوهابية التي باتت (بعكس بداياتاتها التاريخية) تتمتّع بموارد مالية هائلة.
هكذا تحوّل “المقاول” أسامة بن لادن إلى “شيخ”، وتحوّل الطبيب أيمن الظواهري إلى “شيخ”، وصار البغدادي خليفة للمسلمين! وتحوّل كل قادة الجماعات الجهادية إلى ”أمراء” يُطاعون بلا نقاش.
وعلى غرار الشيعة “الإمامية”، ظهرت في المؤسسة الدينية السعودية المحافظة، وبتأثير النجاح الخميني، دعوات تخلط بين السلطة و”العلماء”. وقد رد عليها الأمير تركي الفيصل بكلام واضح موجّه إلى الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي جاء فيه: ”وقد لفت انتباهي في حديث معالي الدكتور عبد الله اشارته إلى أن ولاة الأمر هم الحكام والعلماء وهو قول أجدني غير متفق معه فيه، فما أعتقدهُ وأعرفهُ أن ولاة الأمر هم الحكام وأما العلماء فهم مستشارون لولاة الأمر ينصحونهم ويرشدونهم. وللوصول إلى الحقيقة الناصعة..”!
كخلاصة، الإرهاب إرهاب، سواءً منه الإرهاب السنّي أو الإرهاب الشيعي، مع فارق أن ”الإرهاب الشيعي” هو ”إرهاب دولة” وأن ”إرهاب الدولة” المذكور له ضِلع حتى في الإرهاب السنّي.
”المواطنة” هي وحدها المخرج من ”مأزق القرون الوسطى” الذي يعيدنا إليه خامنئي والبغدادي. وهو ما يجدر بالعرب، وبالبيت الأبيض، التركيز عليه بدل التلهّي بأوهام التحالفات مع “فِرقة” صغيرة، أو ”طائفة” صغيرة من المسلمين!
”أهل السنّة والجماعة” ليسوا طائفة، إنهم عموم المسلمين. وهم الموضوع الرئيسي للصراع بين التقدّم والتأخر. أما ”نظام الملات في طهران” فقد يكون وصل الآن إلى المرحلة التي بلغها النظام السوفياتي ”العظيم” في العام ١٩٨٩!