الصراع السياسي في الكويت لتحديد مستقبل إدارة البلد في ظل علاقة ذلك بالديمقراطية، يحتوي على نقاط إيجابية كثيرة، على الرغم من التصعيد بين مختلف أطرافه، وانتماء الكثيرين إلى ثقافة معادية للديمقراطية، ومناهضتهم لقيم الحداثة. وهذا الوضع أنتج صورا سلبية كثيرة، اعتبرها البعض مثالا للخطر الذي قد يتهدّد سلم المجتمع وأمنه، ويعرض الديمقراطية “المنقوصة” إلى مزيد من النقص.
ويبدو هذا الصراع ممتدا إلى أبعاد متفرقة، لكنه سيفضي بالتأكيد في مراحل لاحقة إلى نتائج متدرجة في إيجابياتها، من شأنها وبكل ثقة وفي ضوء التجارب التاريخية أن تخدم مستقبل الديمقراطية في الكويت. وسيتخلل هذا التدرج، المرحلي، بروز عناصر مزعجة، معبرة بعضها عن صور شمولية، سلطوية أو دينية أو اجتماعية، غير أن التطور السياسي سيجعل الظروف تتجاوز ذلك إلى مراحل أكثر استقرارا في علاقتها ببعض متطلبات الحداثة.
وفي خضم الأزمة في الكويت، تطل علينا تفسيرات كثيرة تسعى جاهدة لتحليل الوضع، ووضع أصبعها على الجرح، محاولة إيجاد حلول لها. والمراقب لهذه التفسيرات يجدها تعكس التباين في تفسير الدستور أو في السعي لتطوير مواده، وهي في المحصلة تنقسم إلى قسمين: الأول يعتقد بأن أي قراءة للدستور لابد أن تصب في صالح المزيد من هيمنة السلطة على الشأن العام في ظل علاقة “ملتبسة” مع الديموقراطية. فيما الثاني يميل وبقوة إلى القراءة التي تقلل من هيمنة السلطة على الشأن العام وصولا إلى نزعها. ولا شك ان الرؤية الساعية إلى تعزيز الديمقراطية تميل إلى القراءة الثانية، لكنها تختلف في الكثير من التفاصيل.
إن القراءة المتجددة للدستور وصولا إلى تطوير الديمقراطية وتعزيزها في المجتمع أصبحت ضرورة مرحلية تفرضها التطورات، لا السياسية فحسب بل جميع صورها. فإذا وقفت القراءة القديمة، أو كانت مواد الدستور، مانعا في طريق الإصلاحات الديموقراطية ومعرقلا لحركة تعزيز الحريات واحترام حقوق الإنسان الفرد، لابد من طرح قراءة متجددة أو إصلاحات دستورية بسقف جديد يواكب تطورات المرحلة وتغيراتها. تلك سنّة التطور. فلا يمكن الاستناد إلى فهم قديم للدستور لمعالجة قضايا حديثة. فالحاجة إلى حلول لمشاكلنا تفرض علينا مراجعة كل القديم، بما فيه قراءتنا للدستور.
وبما أن الصراع السياسي في الكويت جعل الكثير من المتصارعين يوجهون بوصلة فهمهم للدستور باتجاه مصالحهم السياسية وتوجهاتهم الفكرية، وما يصاحب ذلك من تجاهل للعلاقة المشروطة بين تطوير الفهم وتعزيز الديموقراطية، فقد ينشأ عن ذلك تخوف من أن تكون محصلة الصراع ضرب المقومات الرئيسية التي تقوم عليها الديموقراطية. فظهرت دعوات واضحة على السطح تنتقد السلطة لتمسكها برؤيتها الناقصة حول الديموقراطية، وتهاجم تناقضات المعارضة التي تدعو إلى إمارة دستورية وحكومة شعبية فيما مواقفها تعكس معاداة واضحة للحريات ولقواعد حقوق الإنسان الفرد وكأنها تسعى إلى استبدال هيمنة بهيمنة جديدة. فتعزيز الديموقراطية هو عنوان يجب أن يرتكز عليه الصراع، فيما بقية المسائل والأمور هي عَرَضيات هذا الصراع.
لقد سعى البعض من المناهضين للأغلبية البرلمانية المعارضة والتجمعات المنضمّة إليها، إلى تبديل خطاب الصراع، من كونه يتمركز حول تعزيز المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، إلى خطاب يركّز على “التعدّي على الدستور”. وبالنسبة لهذا البعض، ظهرت التجليات الواضحة لـ”التعدّي” في الندوات الأخيرة للأغلبية حينما أصرت خطاباتهم على ضرورة نقد مواقف أمير البلاد، وشددت على أهمية التفريق بين احترام الذات الأميرية وبين نقده. ويبدو أن هدف هؤلاء من تبديل الخطاب هو الإيحاء بأن النقد لا يمكن أن ينتمي إلى المطالب الإصلاحية، في مؤشر يهدف إلى عرقلة تلك المطالب، وصولا إلى الدفاع عن نوع الديموقراطية التي تدافع عنه السلطة. غير أن ذلك ليس إلا دفاعا عن تاريخ سياسي سيئ معاد لأطر الديموقراطية وشروطها.
وإذا كان هناك من نقد يجب أن يوجه إلى خطاب الأغلبية البرلمانية المعارضة، فإن ذلك يتركز – كما قلنا – على معاداته للحريات ولاحترام حقوق الإنسان الفرد. غير أن ذلك يجب أن لا يكون دافعا لنقد ما يطرحه من سقف عال يخدم المحاسبة التي تحث عليها مختلف صور الديموقراطيات. فلا يمكن لأي إصلاح إلا أن يكون سقفه عاليا، ناقدا، لا يستثني مسؤولا، أما غير ذلك فلا يعتبر إصلاحا ولا يتماشى مع الديموقراطية. وهذا الأمر يدفع، من جانب آخر، الكثيرين لإعداد سقف عال من المطالب على الأغلبية في مسعاها للتفريط في قضايا الحريات واحترام حقوق الإنسان. فعلى الرغم من الثقة بأن سقف الإصلاحات العالي سيصب في مراحل متقدمة في صالح الديموقراطية بالكويت، لكن من الضرورة التنبيه بوجود توجهات ضد الديموقراطية لدى السلطة، ولدى الأغلبية.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com