منع الأصوليون في البرلمان الكويتي نصر حامد أبو زيد من دخول بلادهم. بمعنى آخر: قاموا بترسيم الحدود بين فسطاطي الكفر والإيمان ـ حسب عبارة بن لادن الشهيرة ـ ونصّبوا أنفسهم حرّاسا على الأبواب. يبدو هذا الفعل، للوهلة الأولى، موجها إلى الخارج، أي يستهدف التدقيق في الهوية الإيمانية للغريب القادم من مكان بعيد، لكنه في حقيقة الأمر اختبار لعلاقات القوّة بين قوى اجتماعية، وتيارات أيديولوجية، تتصارع على موقع النفوذ والسلطة في الداخل.
لذلك، فهو موجّه إلى الداخل في المقام الأوّل. ولذلك، أيضا، فإنه ينطوي على دلالات لا يصعب العثور بينها على الهوية المُتوقّعة للمجتمع والدولة المثاليين في نظرهم، وهما مجتمع ودولة مدينة الحق الإلهي الفاضلة، التي يملكون وحدهم شرعية ومرجعية وأدوات تأويلها وتحقيقها على الأرض.
وبما أن أحدا لا يصغي لأحد في زمن انفجار الهويات هذا، فإن الكلام عن الكوارث التي ألحقتها مدن الحق الإلهي، والعرقي ـ القومي، والطبقي الفاضلة، بشعوب كثيرة على مدار القرون القليلة الماضية، في مناطق مختلفة من العالم، لن يجد الكثير من الآذان الصاغية، خاصة بعدما أصبح الكلام عن “الديمقراطية” والاحتكام إلى صناديق الاقتراع جزءا من البضاعة الأيديولوجية للتيار الرئيس في الإسلام السياسي.
في نهاية المطاف، سيقول الأصوليون: أليست هذه هي الديمقراطية، لماذا تصبح حلالا لكم وحراما علينا، فنحن لا نمثل أنفسنا بل نمثل جمهور الناخبين الذين منحونا ثقتهم وأصواتهم، وقد منعنا أبو زيد من دخول الكويت في إطار ما توفره اللعبة الديمقراطية نفسها من مناورات برلمانية، وأدوات للضغط، شرعية ومشروعة!!
وبقطع النظر عمّا ينطوي عليه كلام كهذا من أنصاف حقائق، إلا أن مجرد دخول الكلام عن الديمقراطية إلى قائمة المرافعات الأيديولوجية للأصولية يدل، ضمن أمور أخرى، على رغبة في التأقلم، وعلى البحث عن منافذ جديدة، لتحقيق الحلم بمدينة الحق الإلهي الفاضلة، بعدما وصلت محاولة الاستيلاء على السلطة، عن طريق الإرهاب، على امتداد عقدي السبعينيات والثمانينيات، إلى طريق مسدودة في مناطق مختلفة من العالم العربي.
الإشارة إلى التناقض البنيوي والجوهري بين الديمقراطية والأصولية تحصيل للحاصل، بطبيعة الحال، ولا أجد ضرورة للكلام عنها في هذا السياق. ثمة ما هو أهم، وما هو أهم يتمثل في حقيقة أن عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر فرض على صنّاع السياسة في العالم وفي الإقليم ضرورة تحييد ما يمكن تحييده، وتجنيد ما يمكن تجنيده، وإقناع ما يمكن إقناعه من الأصوليين، لعزل النواة الصلبة المتطرفة، ودمج الآخرين في التيار الرئيس لمجتمعات مأزومة.
وفي الأوساط الأكاديمية، في الغرب بشكل خاص، نشأ ما يشبه العلم الجديد للانثروبولوجيا العربية والإسلامية، مفاده أن المجتمعات العربية والإسلامية ذات خصوصية دينية، يجب احترامها، والتعامل معها، والقبول بها، للحيلولة دون تفسّخ مجتمعات مأزومة، وانضمام دول جديدة إلى نادي الدول الفاشلة، ومع هذا وقبله للحد من موجة الانتحاريين، التي ضربت أكثر من عاصمة أوروبية وتتوّعد بالمزيد.
وغالبا ما يعيد قوميون اكتشفوا خصوصية “الأمة” بعد طول عناء، وأصوليون لسان حالهم “وشهد شاهد من أهلها”، صياغة ما يصدر عن دعاة العلم الجديد، لتغليف الخطاب الفقير والمتقشف للأصولية، الخارج من غياهب القرن العاشر للميلاد، بلغة ومفاهيم القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة.
وفي سياق هذه العلاقة النفعية المُتبادلة يتم تمويه وإقصاء، أو تجاهل، الانفصام المعرفي والأخلاقي والسياسي بين الأصولية، الساعية للهيمنة على الفضاء الاجتماعي لفك وتركيب دول ومجتمعات من ناحية، وعالم قرن وألفية جديدين، وما ينطويان عليه من قيم ومفاهيم، وما يتجلى فيهما من ذاكرة تاريخية، من ناحية أخرى.
لكن الدرع الواقي لهذا الانفصام لا ينجم عن مغالطات أكاديمية وحسب، بل ويستمد أيضا مكانة تكاد تكون عصية على التساؤل والنقد، لأن الأصولية اكتشفت في القضايا “الجهادية والقومية” أكثر الأسلحة فعالية في مشروع الاستيلاء على الفضاء الاجتماعي. كانت المسألة الفلسطينية، وما تزال، رأس حربة أكيدة ومضمونة، ثم أضيفت إليها أفغانستان، والعراق، ناهيك بطبيعة الحال عمّا ينشأ هنا وهناك من معارك جانبية مثل الحجاب، والرسوم الكاريكاتورية، ومحاضرة البابا..الخ.
وفي هذا الصدد فإن ما قيل عن الموقف من دخول أبي زيد إلى الكويت، باعتباره اختبارا لعلاقات القوّة في الداخل، يصدق أيضا على مواقف “جهادية وقومية” يصعب حصرها، ولا يمكن تفسيرها إلا كجزء من الصراع في المقام الأوّل على مواقع السلطة والنفوذ في مختلف البلدان العربية. القضايا “الجهادية والقومية” مثلها مثل الكلام عن الديمقراطية محاولة للتأقلم والبحث عن منافذ جديد للاستيلاء على الفضاء الاجتماعي، وفك وتركيب دول ومجتمعات باسم مدينة الحق الإلهي الفاضلة.
وهنا ينبغي أن ننتهي بما بدأنا به، أي بالكلام عن ترسيم الحدود بين فسطاطي الكفر والإيمان، والعمل كحرّاس على الأبواب. ففي فعل كهذا ما ينبئ لا بمدينة الحق الإلهي الفاضلة، بل بما ينبغي أن تكون عليه، أي بما يحمله الداعون إليها من تصوّرات واستيهامات، هذا أولا، وفيه ما يذكّر بحقيقة أن من يعمل حارسا على الأبواب يحتاج من وقت إلى آخر للتدقيق في هوية القاطنين في الداخل أيضا، وطرد أو تصفية من لا تنطبق عليه شروط الإقامة، هذا ثانيا، وفيه ما يدل على أولوية الأمن الثقافي على كل شيء آخر، بمعنى أن أصحاب المشروع يحتاجون لممارسة دور الحارس الرقيب، هذا ثالثا.
هذه الدلالات مجتمعة لا تبنى مدينة فاضلة، بل تمثل محاولة انتحارية بالمعنى السياسي والأخلاقي والمعرفي لإنشاء أنظمة شمولية بوسائل “ديمقراطية”. وبما أن أحدا لا يولد إلا من رماده، كما كتب أدونيس قبل أربعة عقود، فعلينا انتظار الكثير من الحرائق والرماد، قبل تحقيق ما يشبه نبوءة عبّر عنها أركون في وقت مضى، ومفادها أن عالم الإسلام يشهد في الوقت الحاضر أكبر عملية للعلمنة في تاريخه. وربما كان السبب أبسط مما نتوّقع: فمن يحاول هندسة العالم يتحوّل في وقت ما إلى موضوع للهندسة. وفي هذا وذاك ما يضيفه التاريخ إلى رصيده من المكر.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام