ما حدث في إيران حركة احتجاج غير مسبوقة منذ إطاحة الشاه، وهي ليست الأولى فقد سبقتها تحركات واسعة رافضة شبابية وطلابية أو قومية إلا أنها لم تصل إلى مستوى المشاركة الراهنة من كل فئات الشعب وفي معظم المدن وبأعداد ضخمة وخاصة “الموجة الخضراء”، التجمع المليوني يوم الإثنين التالي لإعلان النتائج الانتخابية المزورة.
ليس أدل على التزوير ما جاء في تقرير رسمي أن عدد أوراق الإقتراع في خمسين إقليم تجاوز عدد المقترعين مما أثر على 3 مليون صوت!! مع ذلك فمجلس الصيانة لم يجد في هذا العدد الفلكي ما يغير قرار المرشد الأعلى بأنها أفضل انتخابات نزاهة خلال 30 عاماً. بذلك يتم استغباء الناس بتصوير إستحالة تزوير 11 مليون صوت فيما صناديق الاقتراع بحوزة وزارة الداخلية بلا مراقبين محايدين وبعد منع مراقبي المرشحين من دخول معظم مراكز الاقتراع. لم تكن هناك حاجة لعد الأصوات، فقد أعلنت النتائج بعد ساعتين من إغلاق الصناديق بادعاء أن وزارة الداخلية أحصت 40 مليون ورقة يدوياً !! الساعتين كانت كافية لفبركة أرقام تبدو معقولة أمام أنصار ما زالوا يؤمنون بالعجائب، وكما لو أنها أحصيت بطريقة إلهية!
لكن التزوير ليس وحده الذي أدى للانفجار الشعبي الذي كاد يقترب من انتفاضة، لكنه القشة التي قصمت ظهر البعير والشرارة التي ألقيت في حقل الأعشاب الجافة، فقد مل الإيرانيون من حكم رجال الدين الذي ضيق حرياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية ولم يفعل شيئاً لتحسين أوضاعهم المعيشية، فيما عدا آلاف أطنان البطاطا التي وزعها أحمدي نجاد قبل الانتخابات على الفقراء الذين يملؤون الريف الإيراني حتى سميت حكومته “حكومة البطاطا”. وعود ثورة 79 بالحريات والحياة الأفضل لم تتحقق، مما أدى لتآكل شعبية النظام مع المزيد من استخدام العنف لمنع المواطنين من التعبير عن رأيهم، ومع تزايد الفقر والبطالة وعزلة أيران الدولية ومع نشر الأوهام عن “الحكومة العادلة” القادمة من الغيب لتحكم البشر، حتى أن أحمدي نجاد أعلن عن استعداد إيران لتغيير العالم!! وربما سيطلب قريباً من قادة العالم اتباع مبادئه القويمة وإلا فالسيف بينه وبينهم أو يدفعون الجزية.
لقد اضطر النظام لإنزال ميليشياته المسلحة المعروفة بشراستها لكبح جماح المنتفضين، فاستعملت الرصاص الحي والعصي والغاز المسيل للدموع والأحماض الملقاة من الهيلوكبترات، ولم يتمكن من السيطرة على الوضع حتى أصبح عدد قواته في الشارع أكبر من عدد المتظاهرين، فكمية العنف المستخدم أو المهدد به في خطاب المرشد يتناسب طرداً مع حجم التزوير الحاصل وحجم الاحتجاج الذي اندلع. لكن بقدر ما يقوى نظام قمعي على شعبه بقدر ما تقترب نهايته، فالأمور في أوساط النظام لم تعد كما كانت في السنين الأولى للحكم الإسلامي، لم تعد كلمة المرشد الأعلى تحسم أي أمر لمجرد نطقه بها، رأيه أصبح قابلاً للنقاش وللرفض، فقد تجرأ موسوي وهو من مؤسسي الثورة على انتقاد المرشد واعتبار موقفه المنحاز لأحمدي نجاد يضعف النظام الجمهوري، كما تحدى أوامر المرشد بوقف الاحتجاجات ودعى أنصاره لتصعيدها.
المرشد لم يعد معصوماً أو فوق المؤسسات والاتجاهات بل أصبح طرفاً في الصراع، أصاب صورته المقدسة شرخ عميق ولم تعد قوته ومكانته راجعة لكونه قائد يجمع المقدس والدنيوي، بل لأنه الآن الآمر الأوحد لقوى الجيش والأمن والميليشيا والحرس.. وهي الأجهزة التي أرهبت مناصريه قبل مخالفيه. وإذا كان الازدواج في السلطة في عهد خاتمي بين المرشد الأعلى ورئيس الجمهورية راجحاً لصالح الأول، فإن الرئاسة بوجود أحمدي نجاد أصبحت جهازاً تابعاً للمرشد مثل الباسيج والباسدران والقضاء “الثوري” والمجالس المعينة والإعلام الموجه وغيرها.. قمع الإنتفاضة أعلن نهاية المصالحة بين الإسلام والديمقراطية والانتقال للحكم المطلق. فإن تغلبت الأجهزة على المحتجين حالياً، فهي ليست ضمانة لاستمرار النظام طويلاً حسب التجارب الحية وأقربها انهيار أمبراطورية القمع السوفييتية رغم أجهزتها المرعبة المسلحة حتى الأسنان.
لم يقتصر الشرخ على العلاقة بين المرشد والمواطنين أو بين محافظين وإصلاحيين بل تعداه إلى تشقق جبهة المحافظين نفسها وانضمام منشقين للمحتجين، فقد ازدادت الفجوة بين من يريد التكيف مع الأوضاع الجديدة المحلية والعالمية وبين من يصر على السياسات القديمة الفاشلة حتى وصل الخلاف إلى مجلس الشورى فقد حضر أقل من نصف أعضائه احتفال أحمدي نجاد بفوزه. بالإضافة للشروخ القديمة ومنها الخلاف على ولاية الفقيه نفسها التي رأى عدد من المراجع العليا الشيعية أنها مخالفة للنص، فرجال الدين –برأيهم- يجب ألا يمارسوا السياسة خلال غيبة الإمام المهدي. لقد فضلوا السكينة لكنهم قد لا يستمرون في سكوتهم وهم يشاهدون تحول نظام المرشد الأعلى إلى دكتاتورية دنيوية شمولية مما يسيء للدين ولرجاله.
جبهة المنتفضين إزدادت اتساعاً وفي مقدمتها الأجيال الشابة التي تشاهد تقدم العالم على شاشات الفضائيات والشبكة الإنترنتية، في مقابل تلمسها اليومي لجهود النظام لتكريس التخلف الاجتماعي وإرجاع معيشة الناس قروناً للوراء، إلى نساء إيران الأكثر تضرراً من الحكم الديني والأكثر تعبيراً عن الغضب والاستعداد للتضحية، فقد نزفت ندا آغا سلطان دمها حتى النهاية، ونساء أخريات في حركة الاحتجاج أنزلن الحجاب قليلاً لتظهر شعورهن في تحدي لقوى الظلام. وإلى جانب الشباب والنساء خاصة في المدن وأوساط الطبقة الوسطى دعامة التقدم والتغيير للأفضل، تقف الأقليات القومية والدينية التي تشكل نصف المجتمع الإيراني غير الفارسي: الأذرية والكردية والتركمانية والعربية والبلوشية وغيرها.. الساعية لحقوقها القومية والثقافية المنتهكة، بالإضافة للمسلمين السنة الممنوعين من بناء مساجدهم كما الأقباط في مصر ممنوعون من بناء كنائسهم.
المنتفضون بغالبيتهم ليسوا من أنصار ميرموسوي ولكنهم الأكثر شجاعة ضمن شعب شبع من تحكم رجال الدين بحياته وفكره وطريقة معيشته.. موسوي تحول إلى رمز للشعب الساخط لما عرف عن خلافه مع المرشد، وقد ابتعد عن السياسة لعقدين طور نفسه خلالها، فهو متدين ولكن ذو عقل منفتح ومتسامح مع الآراء الاخرى ويميل لصالح الفقراء وقام بمراجعة للمبادئ الأساسية لثورة 79 ولمدى ملائمتها للعصر وحاجة الناس ورأى أن هدفها الحرية والتقدم وليس تطبيق المفاهيم المتخلفة. قال أنه عاد للسياسة لما لمسه من تخريب أحمدي نجاد للبلاد وخاصة في مجال الاقتصاد وعزلة إيران عالمياً. وقد وعد بالمزيد من الحريات والشفافية والتصدي للعسكرة الزاحفة وللنبرة القومية الحادة ضد العالم. من الطبيعي أن يكون موسوي والقادة السياسيين المعارضين بغالبيتهم من رجال النظام الإسلامي، إذ لا أحد يجرؤ على النشاط العلني خارج إطار الإسلام السياسي، فمنذ السنين الأولى للثورة أعدم آلاف الماركسيين والليبراليين والقوميين..
الانتفاضة لم تبدأ لتنتهي بل بدأت فقط ولا يعلم أحد متى تنتهى، وهي تمرين لانتفاضات قادمة فالتغيير طالما لم يعد محصوراً في نخب سياسية محدودة وأصبح أملاً لملايين فقد وضع على جدول التاريخ القريب، قابل للإعاقة ولكن ليس للشطب. ويمكن استخلاص بعض دروس الانتفاضة:
أولاً – فشل مزج الديمقراطية بالإسلام السياسي، فنجاح العدالة والتنمية التركي لكونه حكم حسب إرادة أغلبية الشعب وليس حسب نصوص الشريعة، حيث الدين للعبادة وليس للحكم. إيران كمركز للتمرد على عملية انتشار الديمقراطية من النموذج الغربي في العالم إلى جانب الصين وكوريا الشمالية وكوبا وغيرها اقل أهمية..تعرضت لزلزال أشبه بانتفاضة ربيع براغ والتضامن البولونية وساحة تيان آن مين وثورة الأرز.. وكما أعطت ثورة 79 الإشارة لتفجر ما دعي بالصحوة الإسلامية في المنطقة، ستعطي الانتفاضة الإيرانية الإشارة لردات زلزالية تعيد “الصحوة” إلى أوكارها، وتفجر صحوة الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان والأقليات والمرأة الحرة، وانحسار الموجة الإسلاموية من المنطقة والعالم كما حدث للأحزاب الشيوعية في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
ثانياً – لا طريق ثالث بين الديمقراطية من النموذج الغربي من جهة وبين الاستبداد، فقد تهافت الطريق الثالث الليبي “الجماهيري” وأصبح مدعاة للسخرية، ويتهافت الآن النموذج الإيراني الثالث المدعو “جمهوري إسلامي” وجوهره حكم فردي لولي فقيه غير منتخب في ظل شمولية دينية استبدادية مع رتوش من تعدد موجه ومسيطر عليه، فالتعدد ضمن الخط الإسلامي يذوي لصالح هيمنة الحزب الواحد التابع للمرشد، وطالما تم افتراس أشكال التعدد الأخرى القومية والليبرالية والماركسية وغيرها فالدور جاء لتصفية الاتجاهات المختلفة ضمن التيار الإسلامي الواحد. وهو ما يحث عادة في الثورات الايديولوجية، فالبلشفية سمحت بداية للأحزاب الاشتراكية الأخرى ثم لم تلبث أن صفت منافسيها الاشتراكيين وهمشت الحزب الشيوعي لصالح الحاكم الفرد المقدس.
ثالثاً – يتضح أكثر مع الانتفاضة الإيرانية والأحداث الرئيسية في المنطقة أن التناقض الرئيسي هو بين القوى الساعية للديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان والنساء والقوميات، وبين معسكر الاستبداد والأصولية بشتى أشكالها وأنصار العسكرة والممانعة للحداثة ممن يتلطى خلف مفاهيم إسلاموية أو قومية أو يسارية.. وليس ما تدعيه النخب المتبقية من مرحلة الحرب الباردة المنقضية عن استمرار التناقض الرئيسي مع الخارج، وإهمال أو تأجيل التصدي للأحوال المتردية الداخلية حيث الصراع الحقيقي المبني على الوقائع وليس المتوهم المبني على نصوص قديمة. الاستبداد والأصولية في إيران تمثلهما جهة واحدة هي النظام، وهذا شكل أبسط مما في بلدان أخرى حيث الاستبداد مهمة النظام والأصولية في أوساط المعارضة.
رابعاً – الديمقراطية أولاً وقبل كل شيء آخر، وهي المدخل لحياة أفضل ولحل المسائل الأخرى. مشاكلنا تنبع من داخل مجتمعاتنا، تخلفها فقرها أنظمتها الاستبدادية الفاسدة.. هذا ما أصبحت تعيه أعداداً متزايدة لم تعد تنفع محاولات صرف انتباهها عن الأوضاع الداخلية إلى الصورة الخيالية عن “الشيطان الأكبر والأصغر”، لتبرير كل ما تتحفنا به الأنظمة الاستبدادية والحركة الاصولية. كما لم يعد ينفع إلقاء تهمة “التخوين” الغبية على الساعين للديمقراطية وحقوق الإنسان.
خامساً – الكتلة التاريخية للجبهة الديمقراطية تتشكل بغالبيتها من الشباب والنساء والمثقفين والأقليات والمنشقين عن الأنظمة الاستبدادية، ومن جميع الطبقات وخاصة الطبقة الوسطى وسكان المدن، تلتقي على هدف رئيسي وحيد هو التغيير الديمقراطي رغم اختلافاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية وأجيالها وانتماءاتها الطبقية والقومية والدينية، مع الاحتفاظ ببرامجها حول القضايا الأخرى للتنافس الديمقراطي الانتخابي بعد التغيير.
سادساً – العنف المسلح لم يعد على جدول أعمال المنتفضين بل الكلمة والصورة والاحتجاج المليوني وتقديم الدم .. واستخدام وسائل التواصل الحديثة التي أفرزتها الثورة المعلوماتية من انترنت وهاتف نقال وأيميل وماسيج وتشات وكامرا ديجيتال وفيديو ويوتيوب وفيسبوك.. وهي “أسلحة” تبدو بسيطة ولكنها في المدى البعيد ستزداد نجاعة. وسيكتشف الطرف الآخر الاستبدادي والأصولي المعتمد على العسكرة والعنف ضد مواطنيه أن الغطرسة والنشوة الكاذبة لحامل السلاح عبارة عن وهم سيتبدد سريعاً.
عدم جدوى العنف ليس درساً حديثاً ولكنه يتأكد من جديد.. لقد صنع العنف التاريخ القديم لكن الإنسان المعاصر المتسلح بإرادة الحرية يتصاعد دوره في صنع التاريخ في مواجهة البندقية.
ahmarw6@gmail.com
* كاتب من سوريا