إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
(صور تاريخية لغرفة تجارة وصناعة الكويت – صورة الشيخ جابر الأحمد الصباح مع السيد عبدالعزيز الصقر)
*
لعب التجّار دوراً مهماً في تطور الكويت، وكانت بيدهم أنشطة كثيرة، بخلاف الحكم الذي كان بيد آل الصباح، وتعاون الطرفان، بعقد غير مكتوب، ولا حتى بتخطيط مسبق، منذ بواكير نشأة الكويت، على تقسيم المهام بينهما. وذكرني ذلك، في جانب منه، بالاتفاق الضمني الآخر، الذي جرى بين ابن سعود وابن عبدالوهاب، عام 1744، مع الفارق في الفترة والتفاصيل والأهداف.
* * *
كانت الكويت مركزاً تجارياً نظراً لموقعها الاستراتيجي على طول طرق التجارة في الخليج، وهذا دفع التجار للاستفادة من الموقع المميز، فكانت البداية التعامل مع الموانئ القريبة، ليمتد، مع بناء سفن أكبر، لسواحل أفريقيا وموانئ ومدن الهند ودول جنوب شرق آسيا. كما شملت أنشطة تجار الكويت استخراج اللؤلؤ وبيعه، وتحقيق أموال كبيرة من وراء أنشطتهم، تم استثمارها في مزارع البصرة، حيث حققوا ثروات كبيرة من تصدير التمور للهند، التي افتتحوا في مدنها الكبرى، مع الثلث الأول من القرن الـ19، مكاتب تجارية مزدهرة. كما نشطوا في نقل وتجارة مختلف الأغذية ومواد البناء بين الهند وموانئ أفريقيا وفارس، وبينها وبين الكويت، مع توسع كبير في حركة إعادة التصدير لمختلف المدن المجاورة، هذا غير ممارسة تهريب الأسلحة والذهب.
طوال قيامهم بهذا الأنشطة، على امتداد قرنين من الزمن، اكتفت أسرة الحكم بتسهيل أمورهم، وتوفير الأمن لهم، وفرض ضرائب بسيطة عليهم، كانت نسبتها، في فترة ما، موضع خلاف بين الطرفين.
دفع هذا النشاط والازدهار الاقتصادي إلى قيام مجاميع كبيرة بالهجرة للكويت، خاصة من أواسط الجزيرة ونجد بالذات، ومدن إيران الساحلية والعراق، إضافة إلى البحرين والإحساء. والذروة ربما كانت مع النصف الأول من القرن الـ19، أو قبل أكثر من 175 عاماً، وساهمت خبرات هؤلاء وروح المبادرة لديهم، والفطنة التجارية لدى تجار البلاد، في تسارع حركة الإعمار، وزيادة أهمية موقع الكويت في أعين القوى الاستعمارية حينها، لكن الأمور استقرت، سياسياً وأمنياً، مع اتفاقية الحماية التي وقعتها الكويت مع بريطانيا عام 1899!
كان للتجار دورٌ في تطور الدولة الثقافي والتعليمي، وحتى السياسي، بسبب ما تراكم لديهم من خبرات وما تعلموه من ثقافات الشعوب الأخرى، وكان لهم دور حيوي في تأسيس التعليم النظامي وفي مؤسسات أخرى، كما ساهموا في ترسيخ الطبيعة المنفتحة للمجتمع الكويتي، نظراً لخبراتهم وثرواتهم، وقدرتهم على التطوير الفكري والبنيوي، وهذا ساهم في زيادة ثرواتهم وتأثيرهم السياسي.
مع بدء استخراج وتصدير البترول وزيادة ثراء الدولة، تغيّرَ ميزانُ القوة الاقتصادية، تدريجيا، وأصبح للسلطة، الممثَّلة بالحكومة، اليدُ العليا في الصرف. وشكَّلَ ذلك بدايةَ الانحسار، التدريجي والبطيء، في نفوذ الطبقة التجارية، ليستمر لفترة قاربت نصف القرن، تعرضت خلالها العلاقة بين الطرفين للشد والجذب، خاصة في الأوقات العصيبة التي مرت بها الدولة منذ استقلالها، بدءاً من الاستقلال ومطالبة حاكم العراق قاسم بالكويت، مروراً بتحالف التجار مع المعارضة، في فترة ما، ثم انهيار “المناخ”، وتكرار حل المجلس النيابي، والغزو الصدامي الحقير، وموجة الربيع العربي، مع استمرار التجار، خلال كل تلك الهزات، في لعب دورهم، مع تآكل أهميته يوماً عن يوم، وابتعادهم التدريجي عن المشهد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بعد أن استجدت على الساحة تغيرات ديموغرافية واضحة ساهمت، سياسياً، في إضعاف قوة التجار، إضافة إلى ما سبق ذلك من زيادة قدرات الدولة المالية، وتوقف حاجتها لتحصيل الضريبة، وزيادة المتعلمين في أوساط الأسرة، والغياب التدريجي للرعيل الأول، من الطرفين، بحكم الوفاة والمرض، وزيادة أعداد مستشاري الدولة، وجلساء كبارها، الذين حلوا محل الممثلين التقليديين لطبقة التجار، الذين قرأوا الرسالة مبكرا، ونأوا بأنفسهم تدريجيا عن المشهد السياسي.
وهذا ساهم، مع الوقت، في زيادة الجفاء بين الطرفين، وظهور تبعات ذلك في نتائج الصراع على كرسي رئاسة المجلس، والصمت الغريب، أيام حكومة أحمد النواف، عما تعرضت له قلعةُ التجار «الأخيرة»، أو غُرفَتُهُم، من هجوم، وسعي قوى محددة لفرض الرقابة عليها، والحد من دورها، السياسي والاقتصادي والتنظيمي، ووضع حد للعلاقة، الأقرب للرومانسية، بين الطرفين، التي امتدت لأكثر من قرنين، تخللتها محطات جفاء وخلاف قصيرة، ولكنها كانت في المحصلة النهائية في مصلحة الكويت، أم الجميع.
دور الطبقة التجارية في بناء الدولة وإعطاؤها صبغتها الرائعة والمميزة، أمر لا يمكن تجاهله، ولا يجب تجاهله، ونكتب مقالنا هذا للتاريخ، بعد شكوى البعض من أننا شعوب لا تميل إلى تدوين تاريخها!