قوافل الدم والدموع. حشود البؤس والرثاثة. الفوضى والدمار. المناطق المنكوبة الجديدة. هل نحتاج الى المزيد لنخلص الى النتيجة البديهية: ان اكثر ما نحتاجه في هذه الايام الكالحة هو السلام؟
«السلام» تلك الكلمة المخطوفة الى جهة مجهولة. السلام الكبير المعمّم على كل الجبهات. وعلى رأسها الجبهة العربية – الاسرائيلية. مَنْ المسؤول عن خطف السلام وتحويل حياتنا وخيالنا الى جهنّم على الأرض؟
الاسرائيليون أولاً طالما هم الأقوى. وبيدهم الحقوق المهدورة. كانوا على حافته بدايات التسعينات من القرن الماضي؛ وصاروا الآن على ابواب دولة «يهودية»، تنحو اكثر فأكثر نحو اليمين المتطرف الأكثر طموحاً لإلغاء الحقوق.
العرب بالطبع أيضاً، المعنيون بالسلام، لم يكونوا بدورهم جديين فيه. وشعوبهم لم تنعم الا بهيمنات أيديولوجية كاسحة… «وطنية» ثم «إسلامية». لا تدعو لغير الحرب.
في طليعتهم الدول التي وقّعت اتفاقيات سلام. مصر خصوصاً. بدت خجولة بسلامها. وحريصة على عدم توضيح بنوده. ولا اذاعتها ولا مناقشتها. بل اضطرت بعد حين الى تبنّي قسط وافر من خطاب الحرب، وقد صار الآن «جهاداً»… ثم إتاحة المجال الإعلامي والثقافي لهذا الخطاب كي يعبّر عن نفسه (تماماً مثلما يتعامل مع الخطاب الاسلامي). أما «مؤتمرات السلام» التي تعقدها فهي أشبه بمؤتمرات «الروتاري» او «الليونز». نخبوية، بعيدة عن العاصمة، «عالمية»، لا يعلم بها المعني بها، نظرياً، إلا صدفة…
ثم الدولة التي لم توقع اتفاقات سلام. سورية خصوصاً. وهي في الآن ذاته ليست جدية في الحرب. تتلاعب بالاثنين: الحرب والسلام. تنسج هذه الدولة «المحاربة» و«المقاوِمة» خيوطاً تفاوضية مع اسرائيل وتعلن رغبتها الرسمية بالسلام؛ وفي واقع آخر تخوض حربا لتحسين شروط مفاوضاتها بوضع يدها على تنظيمات مسلحة «مقاوِمة» من خارج «حدودها»، التي تلغيها بذريعة قوميتها الانصهارية: اعني «حماس» و «حزب الله». وهي تنظيمات تفقد مبررات وجودها لو فكرت لحظة… لو عملت لحظة من اجل السلام.
ما هو منهج هذه المجموعات؟ المنهج ذاته الذي اتبعته مجموعات وأنظمة سبقتها بمقاومة اسرائيل: الحركة الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، رافعة وناقدة المنهج «النظامي» و «الاستسلامي» الناصري، والتي لم تختلف عنه الا بعدم نظامية سلاحها. وذلك قبل ان يهبط الاسلام السياسي على ساحة الحرب نتيجة انهيار اصحاب هذا النهج… وليس نتيجة محاسبة على النهج.
ماذا عن هذا المنهج؟ خوض الحروب والضربات العسكرية بنفَس انتصاري جبار؛ ومن دون إعداد القوة اللازمة لخوض الحروب. ولا اعني بالقوة القدرة على القتل والايذاء وإلحاق الخراب. بل الإعداد الشامل. من التوازن العسكري الى الأمن الداخلي والقومي والأهلي…
حزيران (يونيو) 1967. حزيران 1982. تموز (يوليو) 2006. ومثل كل مرة، النكبات والموت والخراب. وبعد كل مأساة: ماذا تجد؟ إعادة التشديد على المزيد من الحرب. على المزيد من «الحربجية» الكارثية ذاتها. ومع ذلك، الشعور بالنشوة كلما تفوقت اسرائيل على عدوانيتها… تأكيداً لنظرية «اسرائيل شر مطلق»…
كل هذا لا يكفي: الآن غزة: نهج الرعونة نفسه. نهج الانتصارية الحادة المفضية الى مظلومية لا تقل حدة. في واقعة غزة، خرقت حدود مصر، فأضيفت الى «ساحات» الحرب الأخرى. أو هكذا رغبت معارضتها الاخوانية، المنادية بـ «فتح باب الجهاد» بإلغاء اتفاقيات السلام، بمراجعة بنودها… ويا للعار! يا للتخاذل العربي الرسمي بوجه اسرائيل… هكذا نجحت الدولة غير الجدية لا بالحرب ولا بالسلم ان تورط الدولة التي أقامت سلماً غير جدي في الأتون الذي ورطت غيرها من الدول والشعوب فيه… فهل تنجح؟ أصوات وأقلام غير قليلة دقت الناقوس. عباس الطرابيلي في افتتاحية صحيفة «الوفد» (29-1-2008) المعارضة يكتب: «نعرف المؤامرة الصهيونية الأميركية تجاه سيناء المصرية (…) شعب بلا ارض ويقصدون شعب فلسطين… وأرض بلا شعب وهي سيناء(…) مؤامرة تشارك فيها الآن «حماس» (…) الذين يشجعون هذه المؤامرة في الخارج دمشق وطهران (…) المؤامرة هدفها دخول الفلسطينيين في مواجهة عسكرية مع الأمن المصري لتخرج «حماس من عزلتها» الخ. العينة الأخرى: افتتاحية الصحيفة المستقلة «المصري اليوم» (29-1-2008) بقلم مجدي الجلاد، يستعيد أيضاً مؤامرة توطين الفلسطينيين في سيناء، فيتخوف من تسلل عناصر إرهابية الى شبه الجزيرة؛ ويذكر بواجب مصر بحماية حدودها الداخلية من العناصر المسلحة، ومن منطلقات الأمن القومي والاتفاقات الدولية المبرمة. كأنهم يكتبون عن لبنان!
والرعونة ماضية: لا رد على العقاب الجماعي لأهالي غزة الا بصواريخ خالد مشعل؛ يليه «مؤتمر دمشق للقوى الوطنية والفلسطينية» والذي لم يعد يرضى بأقل من «فلسطين من البحر الى النهر»…
ما مشكلة هذا النهج، الانتصاري المتمسك ببندقيته والمهدد سلامه الداخلي بعد تهديده سلامه الخارجي؟ مشكلته ديمومته… ان أحداً لا يحاسبه. ما من أحد يأتي ويقول ان فلسطين أصبحت، بفعل سيطرة هذا النهج على العقل الجمعي لأبناء هذه المنطقة… أصبحت ألعوبة مشاعر فياضة بيد كل من كانت سلطته بحاجة الى شرعية قديمة او جديدة او متجدّدة… بن لادن منذ بضع سنوات… والآن إيران، التواقة الى قيادة المنطقة.
أوصلنا هذا النهج الى مفارقة مأسوية: كلما ابتلينا بنتائج رعونته، طلبنا المزيد منها… فخارت قوانا. وفي الوقت نفسه، بتنا، موضوعياً، أي كما ترانا أعين غير متحيزة… بحاجة الى سلام جدي؛ لا الى الاستسلام. وبحاجة الى محاسبة حقيقية لنهج الرعونة الحربي؛ الفاشل والمدمّر.
dalal.elbizri@gmail.com
الحياة