كما في «كل» أمور الحياة الأخرى، فإن بيئة أي شعب تؤثر في نوعية ملابسه. كما نجد في العصر الحديث أن هناك وظائف كثيرة لها زي خاص يمكن التعرّف عليها من شكلها، كالأطباء والممرضين وعمّال الورش وفنيي مواقع البناء، وعمّال النظافة ورجال الإطفاء، وغير ذلك، ولكن الوحيدين من بين كل هؤلاء المتكسبين، الذين يحتفظون بردائهم طوال الوقت، هم رجال الدين، كالرهبان والبوذيين، ورجال الدين المسلمين، بمختلف طوائفهم!
تتنوع أغطية الرأس من دين لآخر، ومن مذهب لآخر، ولكل غطاء دلالاته ومعانيه. فبالرغم من أن وظيفة «رجل الدين» لم توجد يوماً في الإسلام، ولكن مع تغيّر الزمن وتوسّع الدولة، وربما رغبة من العرب في تمييز أنفسهم عن غيرهم من أبناء الدول، التي أصبحت تحت سيطرتهم نتيجة الغزوات، أصبح لزاماً، في فترات طويلة، أن يكون لكل معتقد «ملابسه» الخاصة التي تميّزه عن غيره، وتبعهم في ذلك رجال الدين، الذين أصبحت لهم أردية خاصة. وبسبب تواضع معارف الناس وتفشي الأمية بينهم، أطلقوا على رجل الدين الذي يعرف القراءة والكتابة لقب «عالم». وابتداء من عصر هارون الرشيد أخذت الفوارق بين ملابس رجال الدين وبقية الناس تتزايد، وتفرقهم عن رجال دين بقية الديانات والطوائف والفرق.
يُعرف رجل الدين المسلم اليوم غالباً بعمامته وعباءته وثوبه الفضفاض، ولكل دولة إسلامية رداء خاص يمكن به تمييز رجل الدين. فالزيّ الأزهري، مثلاً، متأثر بحقبة الحكم العثمانية لمصر، فغطاء الرأس هو عبارة عن طربوش أحمر اللون، كطرابيش العامة، ولكن يختلف عنه بقطعة القماش البيضاء التي تغطي جوانبه. أما في السعودية، فالأغلبية تكتفي بالغترة كغطاء للرأس، بالرغم من أن هناك شكلاً محدداً لرداء رجال الدين السنّة في أغلبية الدول الخليجية، مع أردية مختلفة لرجال الدين الشيعة، ويفرّق بينها لون غطاء أو عمامة الرأس، فالسوداء تعني أن صاحبها ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب. أما مرتدو العمامة البيضاء، فليسوا كذلك.
كما نرى أن لرجال الدين المسلمين في أفغانستان والهند وماليزيا وباكستان أردية وأغطية رأس متنوعة، وتتفاوت في نوعية القماش والألوان السائدة بينها والشكل. كما نرى أن لرجال الدين في بلاد الشام والمغرب أردية مختلفة ومتنوعة من ناحية غطاء الرأس والنوعية والألوان عن غيرهم.
***
عظُمت مكانة رجال الدين مع اكتشاف الأجهزة الحكومية ما لهؤلاء من تأثير في العامة، ومدى إمكانية استخدامهم كأدوات للسيطرة على الجماهير وتشكيل آرائها، خصوصاً أن الإنسان، بشكل عام، يريد أن يسمع ويرى من يمثل له القوة العليا، ولا يريد الاكتفاء بالإيمان بوجودها فقط، وجاء رجال الدين تلبية لهذه الرغبة، وسدوا تلك الحاجة، وبالتالي اضطروا إلى أن يميزوا أنفسهم بلباس معين، يضيفون عليه البسملة والحوقلة الدائمة في أحاديثهم، فيخلقون الرهبة في قلوب مستمعيهم، وينصتون لهم بخشوع، وهذا ما يسمى بـ«قوة الرداء».
ولو علمنا أن النص الديني لم يأت لنا إلا بعدد محدود لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من الأحكام الشرعية، لوجدنا مقابلها أحكاماً شرعية يتجاوز عددها الآلاف، ومصدرها جميعاً بشر يسمون بـ«رجال الدين»!
والغريب أن هؤلاء يعارضون الدساتير الحديثة لكونها وضعية، أو من صنع الإنسان، متناسين في الوقت نفسه، وغالباً عمداً، أن فتاويهم، على مدى قرون طويلة، التي أصبحت تشكل جزءاً كبيراً من العقيدة، هي أيضاً من صنع البشر!
a.alsarraf@alqabas.com.kw