يمتاز البطريرك الماروني بشارة الراعي بانه رجل نشيط وديناميكي.
فهو يزور الرعايا ويتنقل باستمرار في داخل لبنان، ويكثر من تصريحاته واطلالاته وأحاديثه الاعلامية، يتناول الشؤون الدينية والوطنية ويعلن مواقف سياسية، محلية واقليمية، مضفيا على الكنيسة المارونية المتجذرة في التاريخ طابع الحركة والتجديد. وهو كذلك في سفر دائم، يزور الابرشيات والحضور الماروني في العالم. فبعد مضي سنتين ونصف السنة فقط على اعتلائه السدة البطريركية (15 آذار 2013) قام بأكثر من رحلة الى الاميركيتين، وجال أشهر في الولايات المتحدة ودول اميركا الوسطى والجنوبية، وعدد من دول اوروبا، وروسيا، وعدد من الدول العربية كسوريا ومصر والعراق، لدرجة انه بات يقال عنه انه يقضي معظم اوقاته خارج الصرح البطريركي في بكركي.
وبطبيعة الحال، فقد اثارت العديد من تصاريحه ومواقفه حفيظة واعتراض كثيرين، مارونيا ولبنانيا، وعلى وجه الخصوص ما دأب على اطلاقه من مواقف تجاه الثورة في سوريا واعتباره ان النظام أقرب الى الديموقراطية والعلمانية وو… ولا شك ان كثرة الظهور الاعلامي والاكثار من التصاريح والاحاديث التلفزيونية تعرض احيانا من هو في موقعه للانتقاد، خاصة وانه خلف بطريركا بقامة الكاردينال نصرالله صفير الذي امتاز بقلة الكلام وبلاغته ودلالته واقتضابه، وبحكمته وحنكته. ناهيك عن ان انتخابه جاء ايضا على اثر تقديم صفير استقالته نتيجة ظروف استثنائية ما زالت لغاية اليوم غير واضحة تماما، وما اذا كانت نابعة فعلا من ارادته ام ان السلطات الفاتيكانية يومها – وهذا الأرجح – تمنت عليه الاستقالة وهو لم يشأ ان يعاكس رغبتها. وقد قيل يومها الكثير حول الاستقالة واسبابها، من بينها كبر سن صفير (91 سنة عند استقالته) وضرورة تجديد وتحديث اداء الكنيسة وتقريبها أكثر من الناس وتفعيل مؤسساتها. الا ان الأهم والأعمق من الأسباب والاعتبارات بقي طي الكتمان، وعلى وجه الخصوص ما له علاقة يومها بحسابات متشابكة داخل أروقة حاضرة الفاتيكان، وتحديدا داخل المجمع الشرقي الذي يشرف بشكل مباشر على الكنائس الشرقية الكاثوليكية، والذي يرأسه منذ عام 2007 الكاردينال ليوناردو ساندري (مواليد 1943)، خلفا للكاردينال اكيللي سيلفستريني الذي عرف لبنان جيدا وزاره أكثر من مرة، وساهم في دعم وتغطية «اتفاق الطائف» وحضر الى القصر الرئاسي عام 1991 في الرملة البيضاء لرعاية مشاركة سمير جعجع وسليمان فرنجية في اول حكومة مصالحة وطنية في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي.
كما ان الكاردينال ساندري هو الذي سعى وأرخى بثقله من أجل انتخاب الراعي بطريركا، ورغم انه أرجنتيني الجنسية مثل البابا فرنسيس الجديد الا انه على ما يبدو، وبات من المؤكد بحسب مصادر فاتيكانية قريبة من النهج الجديد، لا يحظى بمباركة البابا الحالي نظرا للشبهات التي تحوم حول سلوكه ودوره ضمن مراكز القوى التي يسعى الحبر الأعظم للتخلص منها. وربما، هذا العامل وما يتبعه من اعتبارات يعيد مجددا فتح ملف البطريركية المارونية في الفاتيكان مع كثرة الحديث هذه الأيام وتردد الشائعات عن رغبة البابا باقصاء ساندري وكف يده عن المجمع الشرقي، الذي يظهر ان ساندري يمارس من خلاله نفوذا لا يستهان به على كنائس الشرق وبطاركتها ويدعمه بعض من الكرادلة الذين لم يصوتوا للبابا فرنسيس ولا يوافقون على سياسته وادائه. كما انه من دعاة انتهاج سياسة الانفتاح على النظام السوري ولعب ورقة الخطر على المسيحيين من الاصولية والحركات التكفيرية، الا ان السفير البابوي في دمشق لا يشاطره هذا التوجه. فهل سينعكس هذا الكباش على البطريرك الراعي، وكيف؟
اوساط فاتيكانية في سكريتيرية الدولة (أي رئاسة الحكومة) تعتبر ان رأس الكنيسة المارونية هو «صنع» ساندري، وهو يسلك النهج الذي يسير عليه الكاردينال الارجنتيني، علما ان بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس لحام يتفوق عليه في دعمه ودفاعه الصريح عن نظام بشار الأسد. وتربط هذه الاوساط بين هذه الوقائع والتغييرات المرتقبة على هذا الصعيد بدءا باقالة البابا سكريتير الدولة الكاردينال ترشيزيو برتوني وتعيين سكريتيرا جديدا (اي رئيس للحكومة) بيترو بارولين (58 سنة) وهو دبلوماسي من الطراز الرفيع، ينتمي الى مدرسة سيلفستريني والمسؤول في خارجية الفاتيكان السفير البابوي السابق في لبنان لويجي غاتي، الملم بدقة بالملف اللبناني منذ عشرات السنين.
كما ان هناك عاملا آخر لا يقل أهمية عما سبق، وسيكون له تأثير في التغييرات المرتقبة، هو قضية تورط الكاهن اللبناني الأب منصور لبكي في حالات شذوذ واغتصاب قاصرين، والذي صدر بحقه حكم فيها واجراءات مسلكية من قبل «مجمع عقيدة الايمان» في الفاتيكان الذي ينظر عادة في مثل هذه القضايا. وقد تهاملت بكركي والكنيسة في لبنان ولم تعر أهمية كافية لهذه المسألة الخطيرة، لا بل هناك من حاول تغطيتها والدفاع عن الاب لبكي مثيرا استياء في الفاتيكان واحراجا بالتحديد للمسؤولين في المجمع الشرقي. خصوصا وان هذه الظاهرة الحساسة والمتفشية في الكنائس والمؤسسات الدينية كانت من بين أحد أهم الاسباب التي دفعت البابا بنديكتوس السادس عشر الى الاستقالة. فهل من خطوات قريبة سيقدم عليها الفاتيكان في المدى المنظور؟
يبدو ان وضع ساندري والراعي وبعض بطاركة الشرق بات مرتبطا ببعضه، وان البداية ستكون على الارجح، بحسب ما يتم تداوله من معلومات غير مؤكدة في اروقة الفاتيكان، من الرأس، اي عبر ازاحة ساندري ونقله الى منصب رمزي لما تبقي له من سنوات خدمة، ثم التعامل مع البطاركة انطلاقا من دور وأهمية كل منهم، مع الأخذ بعين الاعتبار حساسية الوضع المسيحي في الشرق.
في المقابل، يكثر الراعي من زياراته الى الفاتيكان هذه الايام فقد توجه أمس الى الكرسي الرسولي بعد ان عاد منها قبل أسبوع، وسيمكث هناك نحو عشرة أيام للمشاركة في مجمع بطاركة الشرق. ولكنه سيبحث ايضا مع البابا بشكل مفصل في تطورات الوضع اللبناني… الا ان المخرج- المفاجأة ربما يفضي الى عملية «خلط اوراق» عبر تعيين البطريرك الراعي نفسه على رأس المجمع الشرقي في روما مكان ساندري، بعد البحث عن بديل له في سدة بكركي.