الرئيس السنيورة يروى وقائع معايشته لحرب تموز منذ اندلاعها وحتى صدور القرار 1701
في هذه الرواية الكثير من الوقائع التي تطعن في صحة ادعاءات السيد حسن نصرالله عن الدور الذي لعبته حكومة الرئيس السنيورة خلال الحرب
سجلت هذه الرواية في الذكرى السنوية الأولى لحرب تموز ونشرت في النهار على حلقتين واعاد نشرها موقع ناو ليبانون بالتعاون مع النهار
سجل الرواية وكتبها محمد أبي سمرا وفادي توفيق
في العاشرة من صبيحة 12 تموز 2006، كنت في القصر الجمهوري في بعبدا مجتمعاً بالرئيس إميل لحود. أثناء الاجتماع تلقى الرئيس اتصالاً هاتفياً أُعلم فيه بأن اشتباكاً وقع بين مقاتلي “حزب الله” ودورية إسرائيلية على الحدود الجنوبية قرب بلدة عيتا الشعب، حيث أسر الحزب جنديين إسرائيليين. تحادثت مع الرئيس لحود في الأمر، وأبديت قلقي، مستعيداً أخبار ما يحدث في غزة بعد عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط هناك. شاركني الرئيس القلق، وفي حديثنا عما يجب ويمكن أن نفعله، لم يكن أي منا على بيّنة من حجم العملية، لأن الأخبار والمعلومات التي وصلتنا عنها، لم تكن وافية ودقيقة، بعد.
أنهيت اللقاء مع رئيس الجمهورية وعدت إلى السرايا الحكومية. فوراً اتصلت بالمعاون السياسي للأمين العام لـ”حزب الله”، الحاج حسين خليل، وطلبت منه أن نلتقي في السرايا. ما القصة؟ أخبرْني، قلت له حين وصل، فجاوبني بأن “حزب الله” أعلن منذ زمن بعيد عن نيته القيام بعملية أسر جنود إسرائيليين لمبادلتهم بالأسرى اللبنانيين، واليوم سنحت له الفرصة المؤاتية، فنفذ ما كان وعد به.
أبديت للحاج حسين خليل قلقي واستغرابي من أن تحدث عملية من هذا النوع والحجم وراء الخط الأزرق الحدودي بين لبنان وإسرائيل، فيما الحكومة والدولة والجيش ليست على علم بالعملية، وغائبة تماماً عما جرى، ولم تُستشر الحكومة أبداً فيه.
صحيح أن “حزب الله” ليس من عاداته إطلاع أحد على خططه العسكرية، وعلى العمليات التي يريد تنفيذها. لكنّ عمليةً في حجم عملية 12 تموز 2006 خارج منطقة مزارع شبعا المحتلة، وأدت إلى خرق الخط الأزرق على الحدود الدولية بين لبنان وإسرائيل، هي بالغة الخطورة على لبنان. ناهيك عن أنها جاءت مباشرة بعد تأكيدات من الأمين العام السيد حسن نصرالله، وعد فيها بصيف لبناني هادئ على الحدود الجنوبية كان لبنان والاقتصاد اللبناني واللبنانيون في أشد الحاجة إليه لالتقاط الأنفاس. مع العلم أن عمليات “حزب الله” التي سماها “تذكيرية” اقتصرت، منذ سنة 2000، وحسب تأكيداته أيضاً إن حصلت أي عمليات مستقبلاً فستكون في منطقة مزارع شبعا المحتلة، من دون أي خرق للخط الأزرق الذي قام الحزب بخرقه في 12 تموز 2006، متجاوزاً التحذيرات والمخاطر المحدقة والتي كانت تلوح في الأفق والتي كانت تحتم على لبنان أن يكون شديد اليقظة والتحسب.
ذكرت هذه المعطيات للحاج حسين خليل في السرايا، فقال إن المقاومين سنحت لهم فرصة اختطاف جنود إسرائيليين، فلم يفوتوا هذه الفرصة الثمينة.
ألا تخشون على لبنان وشعبه من عواقب ذلك؟ ألا ترون ماذا يحدث في غزة؟ تساءلت، فجاوبني بأن لبنان ليس مثل غزة، ولن يفعل الإسرائيليون شيئاً. مَن قال لك إنهم لن يفعلوا شيئاً؟ كررت تساؤلي، مضيفاً أن ما يفعلونه في غزة في ظل وجود حكومة إسرائيلية جديدة وضعيفة، بظني أنه قد يدفعهم إلى ردٍ قاسٍ، بل إلى حرب، لتحسين شعبية حكومتهم وإظهار قوتها. لكنه ظل مصرّاً على موقفه، وأخبرني بأن الجنديين الإسرائيليين الأسيرين صارا خارج منطقة الجنوب.
ورغم أنني بقيت مصرّاً على تقديري بأن العملية قد تجر عواقب وخيمةً على البلاد، قلت له، أخيراً: ما دامت الواقعة قد وقعت وصارت وراءنا ويستحيل الرجوع عنها، فلنبحث ونتعاون في كيفية تدارك تبعاتها علينا جميعاً وعلى لبنان، ولنتداول في المطلوب أن تفعلوه وما يمكن أن تفعله الحكومة للخروج من هذا الوضع المستجد.
وكان أن وجهت مباشرة دعوة عاجلة لاجتماع مجلس الوزراء الذي انعقد في الخامسة بعد الظهر في حضور فخامة رئيس الجمهورية.
قبل الجلسة كانت المعطيات الميدانية الواردة من الجنوب والاتصالات الدولية والعربية التي أجريتها تشير إلى بدء هجوم عسكري إسرائيلي واسع النطاق على لبنان. أطلعتُ مجلس الوزراء على ذلك، وعلى ردود الفعل والمواقف الدولية التي وصلتني، وكيف أنها أدانت العملية باعتبارها عملاً عدائياً قام به لبنان، وكيف تم خرق الخط الحدودي الأزرق الذي وافق عليه كل من لبنان وإسرائيل ويرعاه المجتمع الدولي منذ العام 2000. وكانت هذه المواقف الدولية تترجح بين السؤال عن الجنديين الإسرائيليين الأسيرين ومصيرهما، وبين التشديد على ضرورة إطلاق سراحهما وإعادتهما إلى إسرائيل تلافياً للتداعيات الخطرة. أما المواقف العربية فكانت شديدة القلق على لبنان بسبب العملية، مع إعرابها عن دعمها له في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
منذ البداية، إذاً، كانت الحكومة في وضع حرج يتطلب منها العمل في حنكة سياسية وديبلوماسية فعالة وسريعة الحركة لإظهار لبنان كدولة تتعرض للعدوان، إلى جانب التزامها باحترام القوانين والمواثيق الدولية، وسعيها إلى أن يدعمها ويؤازرها الرأي العام اللبناني والعربي والمجتمع الدولي ضد العدوان الإسرائيلي.
على الصعيد الداخلي أيضاً واجهت الحكومة الوضع المستجد، إذ لمستُ في المشاورات الداخلية قلقاً شديداً لدى اللبنانيين وهيئاتهم السياسية حيال مصير البلاد. وتراوحت ردود الفعل بين الحديث عن الحرب المفروضة، والخوف من الضربات الإسرائيلية، والإصرار على مواجهة العدوان موحَّدين.
بناءً على هذه المعطيات تمنيت في جلسة مجلس الوزراء الأولى أن ننظر جميعاً إلى ما نحن فيه بحكمة وروية بالغتين، ونتبصر فيما نحن عليه وما يمكن أن تؤول إليه الأمور لنتمكن من الحفاظ على وحدة البلاد والشعب والقرار الوطني في مواجهة التداعيات المرتقبة.
لقد كان موقفي أنه من المفروغ منه أن ندين عدوانية إسرائيل ونواجهها ونفضحها أمام المجتمع الدولي لكن هذا وحده لا يكفي في العمل الديبلوماسي والسياسي دولياً. العالم كله منشغل بنا وقلق حيال ما جرى وتأثيراته على الاستقرار في المنطقة، لذا علينا أن نخاطبه بلغة القوانين والأعراف والمواثيق الدولية. إذا كنا نريد أن نقول للمجتمع الدولي إن لدينا أسرى ونطلب منه أن يساعدنا في إطلاق سراحهم أو أن لدينا مطالب محقة ومحددة نريد أن نحققها فعلينا أن نعتمد الأساليب الصحيحة في مخاطبته بما يحقق الهدف إذ لا يكفي أن نخاطبه بالأسلوب والعبارات التي تعوّدنا عليها وبالطريقة التي أقنعنا بها أنفسنا، كأن الأمر مفروغ منه من قبله والعالم مقتنع به مثلنا، بل علينا أن نتوجه إليه وفق اللغة والأساليب والمعايير التي يفهمها، كي يقف معنا ويؤازرنا.
مع استنكارنا ما تقوم به إسرائيل وإدانته والوقوف في وجهه، يجب أن نطلب من مجلس الأمن الدولي أن يتخذ خطوات ملموسة لإيقاف العدوان الإسرائيلي ومعالجة أسبابه، وأن نؤكد على أن تكون الحكومة اللبنانية هي الجهة المسؤولة أمام اللبنانيين وأمام المجتمع الدولي، وهي التي تؤمّن حماية المواطنين والمنشآت والمؤسسات اللبنانية، من دون أن ينازعها أحد في ذلك، وألاّ يتخذ أحد غيرها القرارات التي ربما قد تعرّض حياة اللبنانيين ومنشآتهم وما حققوه من انجازات إلى أخطار جسيمة. فالقرارات الوطنية يجب أن تخضع لحسابات دقيقة، متزنة ومتوازنة، للحفاظ على وحدة البلاد. هذا يتطلب الاحترام المتبادل في ما بيننا، ولا يجيز لفريق أن يتخذ قرارات منفردة يلزم الآخرين بها. الأمر الذي يُشعر قطاعات كبرى من المواطنين بأن لا قرار لهم، وعليهم تحمل تبعات هذه القرارات المنفردة ونتائجها.
بناءً على هذه الرؤية للواقع والتطورات المحتَمَلة طلبت أن يبقي مجلس الوزراء جلساته مفتوحة لمواجهة التطورات، ما دمنا في وضع في منتهى الدقة، ويتطلب توحيد جهودنا ومضاعفتها لنكون موحدين ومجتهدين في ابتكار طرق وأساليب ومواقف لا تمكننا من أن نتناقش ونتخاطب باحترام في ما بيننا فحسب، بل من أن نخاطب العالم أيضاً، ما دام هو الجهة التي تسهم معنا إسهاماً أساسياً في حماية أنفسنا ووطننا من ردود الفعل الإسرائيلية ومن العدوان الإسرائيلي على بلدنا.
مما ركّزت عليه أيضاً في جلسة مجلس الوزراء الأولى في 12 تموز 2006 والتي استدعي إليها قائد الجيش وقادة القوى الأمنية، ضرورة التروي والحكمة والتبصر في النظر إلى الحادثة التي حصلت على الخط الأزرق، في منظار القوانين الدولية والديبلوماسية الدولية. وهذا يتطلب منا إقامة مسافة بيننا وكذلك بين مواقفنا وقناعاتنا، لنتمكن من مواجهة الضغوط التي تواجهنا بسبب وقع الحادثة الحدودية وكيفية حصولها وماهية تبعاتها. وهذه المسافة ضرورية، بل هي ضرورة وطنية، لأنها تمكننا من أن نستميل العالم إلى جانبنا في وقت نحن أحوج ما نكون إلى دعمه.
علينا إذاً أن نكون مقتنعين بضرورة إقامة مسافة بين الحكومة ومواقفها الرسمية والديبلوماسية وبين المقاومة، كي نبقى قادرين على التخاطب مع المجتمع الدولي لإقناعه بحقوقنا وحمايةً لشعبنا وإنجازاته وكذلك حمايةً للمقاومة.
على هذا الأساس اقترحت صيغةً دقيقةً للبيان الذي سيصدر عن الحكومة اللبنانية في ختام جلسة مجلس الوزراء. وهي الصيغة التي تقول إن “الحكومة اللبنانية لم تكن على علم ولا هي تتحمل مسؤولية ولا تتبنى ما جرى ويجري من أحداث على الحدود الدولية، وهي تستنكر وتدين بشدة العدوان الإسرائيلي الذي استهدف ويستهدف المنشآت الحيوية والمدنيين”… الخ وهو ما ورد في البيان الذي نشرته صحف 13 تموز.
لم يعترض الوزير محمد فنيش على المسافة المقترحة بين الحكومة وموقفها وبين المقاومة، ولا اعتبرها نوعاً من التخلي عن المقاومة، وقال إنه موافق على النتائج التي تنجم عنها في إظهار وحدة موقف الحكومة ووحدة البلاد. لكنّ الاعتراض الذي سجله مع الوزير طراد حمادة ومع تحفظ من الوزير طلال الساحلي كان على عبارة “أن الحكومة لا تتحمل مسؤولية ولا تتبنى ما جرى”، وقد ظهر ذلك في محضر اجتماع مجلس الوزراء هذا مع موافقتهم على البيان الحكومي.
وكان من الطبيعي والبديهي أن يقرر مجلس الوزراء، انسجاماً منه مع موقفه التوافقي الذي أعلنه في بيانه، أن يطلب من وزير الخارجية فوزي صلوخ الذي كان خارج لبنان آنذاك، أن يستدعي فوراً سفير لبنان في واشنطن فريد عبود، بسبب التصريحات التي أدلى بها والمتناقضة مع موقف الحكومة وسياستها. فهو أعلن أن “الحكومة اللبنانية تدعم العملية التي قامت بها المقاومة”، ملغياً بذلك المسافة التي تبنى مجلس الوزراء إقامتها بين الحكومة والمقاومة.
أخيراً أذكر أنني قدمت في الجلسة الوزارية اقتراحاً لإشراك جميع الأطراف اللبنانيين في المشاركة في التداول بطريقة أو بأخرى من أجل معالجة الأوضاع المصيرية، بما في ذلك انطلاقاً من “هيئة الحوار الوطني”، لأن البلاد تعيش ظروفاً خطيرة تتطلب من المسؤولين كلهم أن يتحملوا مسؤولياتهم، مشيراً إلى أنه ليس في الإمكان، بعد الذي حصل في جلسات الحوار السابقة، أن نستمر في سماع وعود وتعهدات، من دون أن نحولها التزامات نسعى وبشكل جدي إلى الالتزام بها وتنفيذها.
لم يكن موضوع استعادة الدولة اللبنانية قرارها الوطني المستقل، وبسط سلطتها الكاملة على أراضيها الوطنية، أمراً مستجداً وطارئاً، بل كان الموضوع الأساسي الذي بادرت إلى طرحه، قبل شهور من عملية 12 تموز 2006. فقبل انعقاد جلسات الحوار الوطني في البرلمان اللبناني، كنت قد طرحت مسألة إقامة علاقات ديبلوماسية طبيعية وصحيحة بين لبنان وسوريا وعبرت صراحة عن رأيي بضرورة نزع السلاح الفلسطيني المنتشر خارج المخيمات وتنظيم انتشاره في داخلها. وقد قلت ذلك في أثناء زيارة لي إلى قطر في شهر تشرين الأول 2005، حينما أجرى تلفزيون “الجزيرة” مقابلة معي هناك، حيث أعلنت فيها عن ضرورة إقامة سفارتين وتبادل التمثيل الديبلوماسي عبر السفراء بين لبنان وسوريا بما يؤدي إلى تنظيم وتطوير العلاقة التي تربط البلدين الشقيقين، إضافة إلى ترسيم الحدود بين الدولتين، من اجل حل معضلة مزارع شبعا- الأحجية التي ليس في الإمكان حلها إذا لم تساهم الدولة السورية في ذلك عبر ترسيم الحدود بين البلدين في تلك المنطقة وهو ما لم تقبله القيادة السورية. وفي تلك المقابلة نفسها طرحت أيضاً موضوع حل مشكلة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وتنظيمه بداخلها. وفي لقاء تلفزيوني آخر لي مع مارسيل غانم في السرايا الحكومية، طرحت هذه المسائل نفسها التي صارت لاحقا، الموضوعات الأساسية في جلسات الحوار الوطني بين مختلف الأطراف والأطياف السياسية اللبنانية والتي كان يفترض التوصل إلى توافق بشأنها.
أشير إلى هذه المسائل كي أؤكد على أن المسائل والموضوعات التي برزت في حرب 12 تموز 2006، على صعيد سياسة الحكومة اللبنانية في مواجهة هذه الحرب، كانت هي نفسها المسائل المطروحة للمعالجة قبل الحرب، والتي جرى الاتفاق عليها أو على أجزاء كبيرة منها بين أركان جلسات الحوار الوطني.
تحت عنوان إعادة بناء الدولة اللبنانية الحرة والمستقلة، استجابة للإرادة التي عبر عنها الشعب اللبناني في انتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005، كان على حكومة الاستقلال الثاني، بعد انسحاب الجيش السوري من الأراضي اللبنانية، وزوال هيمنة قرار النظام السوري على الدولة اللبنانية، أن تتصدى لمهمات أساسية كبرى في المجالات كلها، السياسية والديبلوماسية والأمنية والقضائية والإدارية.
على صعيد السياسة الخارجية، كان على الحكومة أن تتصدى لإرث السنوات الماضية الطويلة التي تقلص فيها عمل وزارة الخارجية اللبنانية إلى إجراء مناقلات السفراء، حسبما تقتضي سياسة التنسيق مع النظام السوري، وطبقاً لتوصيات القيادة السورية في دمشق.
لقد كان على لبنان أن يستعيد قراره اللبناني والعربي ويمارسه، بعيداً من ذلك الحاجز. لذا أطلقت في منتصف أيلول 2005 عبارتي المعروفة المنسجمة مع إرادة انتفاضة اللبنانيين الاستقلالية، معلناً إنهاء حقبة “فحص الدم اللبناني” للتأكد من وطنيته وعروبته. كنت اعني بهذه العبارة الرمزية أنني، أنا اللبناني العربي وأي لبناني آخر لا يلزمنا في أي عمل وموقف سياسي، وثيقة براءة من النظام السوري أو من أي أحد آخر، لإثبات وطنيتنا وعروبتنا اللبنانية. لا، أنا اللبناني عربي، وعروبتي هذه ليست مؤقتة ولا عابرة ولا ناقصة، بل أصلية ودائمة وكاملة ونابعة من قناعتي، من دون أن أكون اقل عروبة من غيري، ومن دون أن ادعي أني أكثر أو أقوى عروبة من غيري. لذا لن أرضى أن يزايد عليّ أو على اللبنانيين احد بأمانته للعروبة وقضاياها المحقة وأهمها قضية فلسطين.
أركز على هذه المسألة هنا، لأقول أن الحكومة الاستقلالية الأولى التي ترأستها وأترأسها، في إمكانها، بل من واجبها الوطني والسياسي، أن تكون لها سياسة وطنية خارجية قوامها مصالح لبنان الحقيقية، ومن خلال انتمائها العربي الذي هو فعل انتماء والتزام. وهذا يتطلب بناء شبكة من العلاقات والاتصالات مع المجتمع الدولي والعالم كله تستفيد من كل ما هو متاح في العلاقات مع الدول الصديقة على اختلاف مواقعها وبحيث يستمر لبنان وحكومته في التزامه بجميع الثوابت الوطنية والقومية ومن دون أن تكون الحكومة في حال من التصادم مع المصالح والتوجهات العربية، ولا حتى السورية. فلبنان السيد والعربي والحر والمستقل، قادر على نسج علاقات إقليمية ودولية، تخدم مصالحه ومصلحة العرب وسوريا، أكثر من لبنان فحص الدم التابع لهذا المحور أو ذاك، والذي يعاني شعبه نتيجة ذلك من الاغتيالات والتفجيرات والتأزم السياسي.
كانت الحكومة في ذات الوقت تقوم بعملها في ظروف صعبة، وأمامها تركة ثقيلة من المعضلات والمشكلات المتراكمة في البلاد التي تحتاج إدارات الدولة ومؤسساتها فيها إلى إعادة هيكلة لإصلاحها وتفعيل عملها، بعيداً من المحسوبية والاستزلام والمحاصصة بين الزعماء والسياسيين ورغبة في التوصل إلى استعمال المقدرات والموارد المتاحة بأفضل طريقة ممكنة وبما يمكن البلاد واقتصادها من تخطي أزماته من جهة أولى والاستفادة من الفرص المتاحة أمام اللبنانيين في المستقبل من جهة ثانية.
إلى التركة الثقيلة التي كان عليها مواجهتها لتأسيس دولة جديدة مستقلة واستقلال جديد، تعرضت الحكومة أيضا لمعوقات من داخلها كادت أن تحوّلها هيئةً للمداولات والمناكفات، بدل أن تكون إطاراً وطنياً لصناعة القرارات والعمل على تنفيذها. لذلك تشكلت هيئة الحوار الوطني بعد اعتكاف وزراء “حزب الله” وحركة “أمل” عن حضور جلسات مجلس الوزراء، إثر اغتيال النائب جبران تويني، والعمل على التقدم في إقرار مشروع إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي التي أقرها مجلس الأمن الدولي لاحقاً.
جاء إنشاء هيئة الحوار الوطني لتكون هيئة للمداولات من دون أن يكون لها دور دستوري، فانعقدت جلساتها للبحث والتشاور والتداول والحوار في المسائل السياسية الكبرى في البلاد: المحكمة ذات الطابع الدولي، العلاقة مع سوريا، السلاح الفلسطيني خارج وداخل المخيمات، مزارع شبعا، سلاح المقاومة، وترسيم الحدود. والحق أن هذه العناوين- المسائل الوطنية، طُرحت علناً وصراحة للمرة الأولى، بعدما كان الجميع يحاذر التداول فيها همساً. وكانت مهمة هيئة الحوار الوطني التوصل إلى صيغة توافقية حول هذه المسائل، تنفيذاً لبنود اتفاق الطائف، قبل أن يُصار إلى إقرارها والسير في معالجتها عبر الأطر والهيئات الدستورية.
لكن سرعان ما حصلت عملية 12 تموز 2006، واندلعت الحرب الإسرائيلية المدمرة على لبنان، فكان على الحكومة أن تتصدى لهذه الحرب العدوانية المفاجئة على جبهات متعددة دفاعاً عن لبنان والشعب اللبناني كله ومصالحه وعيشه ووحدته. والحق أن الحرب بدأت والحكومة لا تعلم عنها شيئاً، وليس في يدها شيء للتحكم في مسارها. لكن، كما أسهمتْ الحكومة إسهاماً بارزاً في وقف العدوان، فإنها بعد وقف النار كانت ممسكةً بالفعل بزمام الأمور السياسية والديبلوماسية في البلاد، داخلياً وعربياً، وعلى صعيد التحرك الدولي، والقرارات الدولية. وهذا كله نتيجة التفكير والتوجهات والمبادرات الحكومية المستقلة والفاعلة في القرارات الدولية، وصولا إلى تحقيق حل شامل، غير جزئي وآني، للحرب وأسبابها مع التأكيد على الموقف اللبناني الثابت أن لبنان ملتزم بمبادرة السلام العربية ولكنه لن يكون إلا آخر بلد عربي يوقع معاهدة سلام مع إسرائيل. وفي المقابل وإن أراد العرب أن يخوضوا مجتمعين حرباً ضد إسرائيل فسوف يكون لبنان في الطليعة.
*
لرئيس فؤاد السنيورة يروي لـ”النهار” مسارات العمل الحكومي في الحرب (2- 2)
منذ الساعات الأولى في الحرب، كنا نقول أننا في الحكومة آخر من يعلم وأول من يُطالَب، فوجهت جهدي الأول والأساسي نحو خلق أجواء للتعاون والتضامن داخل الحكومة لمواجهة المأزق والمشكلة التي تتهمنا إسرائيل والعالم كله بأننا مسؤولون عنها، لأننا نحن من انتهك الخط الأزرق الحدودي في 12 تموز. كان علينا أن ندخل حقلاً من الألغام على نحو يبقينا قادرين على مخاطبة العالم باللغة التي يفهمها وبالأساليب والمقاربات التي يمكن أن يقتنع بها، لإيجاد مخرج من المخاطر التي تتهدد البلاد، بأقل قدر ممكن من الأضرار.
لذا قلنا للعالم وللرأي العام والدولي إننا لا نزال على التزاماتنا في احترام الخط الأزرق الحدودي. فدون ذلك كنا سنُسهم دون أن ننتبه في رفع الغطاء الدولي عن لبنان. وهذا ما لا نقدر على تحمل تبعاته، لا نحن ولا أي دولة عربية أخرى. ثم إنّ في ذلك خطراً على لبنان وعلى المقاومة.
وبما أن الموقف الإسرائيلي ارتكز على أن الحرب على لبنان لن تتوقف إلا بعد إطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين الأسيرين، وكان موقف المقاومة أنه لا سبيل إلى إطلاق سراح الجنديين إلا عبر مبادلتهما بمعتقلين في السجون الإسرائيلية بواسطة طرف ثالث، كان علينا اجتراح طريق ثالثة تجنّب البلاد حرباً مفتوحةً مدمرةً وقاتلة ومن دون أفق. لذا بعد يومين اثنين من بدء الاعتداء الإسرائيلي أعلنتُ، فكرة معالجة المعضلة وأسبابها من جذورها: بسط سلطة الدولة اللبنانية على أراضيها كاملة، وتوسيع مهام اليونيفل في الجنوب، وإيجاد حل لمشكلة مزارع شبعا. هكذا ولدت المرتكزات الأولى لما عُرف لاحقاً بالنقاط السبع.
وإلى جانب إبقاء مجلس الوزراء في حال انعقاد دائم، اتفقنا أنا والرئيس بري، وبمعرفة مجلس الوزراء الذي كان ينعقد آنذاك برئاسة فخامة الرئيس وبرضى ومباركة الجميع، أن نبقى على تواصل دائم، لأن الاتصال بالسيد حسن نصرالله انقطع منذ لحظة بدء الحرب بسبب الاعتبارات الأمنية. وقد كان التعاوُن مع الرئيس بري طوالَ فترة الحرب مستمراً وإيجابياً ومثمراً بالفعل. وبما أن معظم عواصم القرار الدولي تقاطع رئيس الجمهورية، انحصرت الاتصالات الديبلوماسية برئاسة مجلس الوزراء التي تحولت محورا للوساطات والمبادرات العربية والدولية التي كانت تتطلب التواصل، ليس على مستوى وزراء الخارجية فحسب، بل وعلى صعيد رؤساء الدول، مع العلم أن وزير الخارجية اللبنانية فوزي صلوخ كان خارج البلاد بسبب إقفال الحدود في الأيام الأولى من الحرب واستطاع العودة للمشاركة في هذا الجهد الدبلوماسي الكبير بعد ذلك. لذا كان عليّ أن أوظف العلاقات الودية التي نسجتها مع معظم رؤساء دول العالم خلال السنة التي سبقت حرب 12 تموز، في مواجهة العدوان الإسرائيلي، خدمةً للبنان وسلامته.
منذ البداية انصرف مجلس الوزراء إلى العمل على جبهات عدة: العناية بالشؤون الميدانية، فكان يستدعي قائد الجيش وقيادة قوى الأمن الداخلي لمتابعة الأوضاع الأمنية والمعيشية والإنسانية. أما رئاسة مجلس الوزراء فقد اهتمت أيضاً بمتابعة شؤون إغاثة النازحين الذين تعاظمت أعدادهم وحاجاتهم الملحة، إضافة إلى قيامها اليومي بالتواصل المستمر مع وسائل الإعلام الدولية، لنقل وجهة نظر لبنان وحكومته في ما يحدث، ولإطلاع الرأي العام العالمي على وحشية العدوان الإسرائيلي، والتواصل أيضاً وبشكل يومي مع القيادات العربية والدولية للتشاور وتبادل المعلومات، والاستحثاث على تبنّي مطالب لبنان ومساعدته وتوفير الدعم ووسائل الصمود له وكذلك بحث وتطوير الصيغ التي تمكننا من حماية لبنان وتوفير المخارج الممكنة من الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل علينا.
وفي الواقع كانت الجهود الديبلوماسية لرئاسة الحكومة الأنشط والأقوى لتغيير الموقف الدولي مما حصل ويحصل في لبنان. فبعدما كان الموقف الدولي يركز على اتهام لبنان بخرق الخط الأزرق وإطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين الأسيرين في بداية الحرب، استطعنا بعد أيام قليلة أن نلفت أنظار العالم إلى حجم الرد الحربي الإسرائيلي الوحشي. لذا بدأ الرأي العام الدولي يركز على اعتبار أنّ عملية 12 تموز التي قام بها “حزب الله” لا تستدعي القسوة التي تميز بها الرد العسكري الإسرائيلي المدمر. ويوما بعد يوم أثمر جهدنا الديبلوماسي المتواصل، فتحول العالم عن موقفه الذي يبرر الرد الإسرائيلي، إلى موقف جديد يرى أن إسرائيل تقوم بعمل عسكري غير متوازن ولا متكافئ، ثم بعدها إلى موقف ثالث داعم للبنان بوصفه دولةً تتعرض لعدوان فظيع غير مقبول ولا يجوز استمراره.
حجم الرد الإسرائيلي الوحشي في قسوته بعد عملية 12 تموز، ساهم في توحيد الموقف اللبناني وأخفى التباينات التي ظهرت في الساعات الأولى بعد العملية. لقد توحّد البلد في مواجهة العدوان والرد عليه والسعي لإيقافه.
منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب حتى نهايتها كان موقف “حزب الله” ومطلبه واحداً ووحيداً لا يتغير: وقف إطلاق النار. نحن في الحكومة كنا بدورنا نصر ونعمل جاهدين لوقف إطلاق النار، لكن مصرين أيضاً وبالدرجة نفسها على انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي اللبنانية التي توغلت فيها بعد 12 تموز، إضافةً إلى عودة النازحين فوراً إلى قراهم في الجنوب. وفي الدرجة الثانية أصرت الأكثرية الحكومية أيضاً على أن يتولى الجيش اللبناني حفظ الأمن في الجنوب في صورة نهائية، عبر بسط سلطة الدولة على أراضيها كاملة، وإيجاد حل لمشكلة مزارع شبعا بانسحاب إسرائيل منها وتطبيق اتفاق الهدنة. وذلك كي لا يبقى لبنان وشعبه، وخصوصا جنوبه وشعبه الجنوبي، ساحة لحروب موسمية مدمّرة. فعدوان 12 تموز 2006 كانت الحرب الإسرائيلية السابعة على شكل اجتياحات برية أو جوية على لبنان (1969، 1978، 1982، 1993، 1996، 1999). لذا بدأ يتكون موقف لبناني يستفيد من الخبرات والتجارب المريرة السابقة التي عاشها لبنان، وخصوصا الجنوب وأهله، منذ أواخر الستينات من القرن الماضي. والموقف هذا ركيزته أنه ليس من المعقول أو المقبول أن تشن إسرائيل حرباً عدوانية علينا كل أربع سنوات أو خمس، أقل أو أكثر، لتدمر ما بناه اللبنانيون بجهدهم وعرقهم في هذه السنوات، وتقتل منهم المئات بل الألوف، وتشرد مئات الألوف، وتفقدهم الثقة بوطنهم ومستقبله ومستقبلهم.
على هذا الأساس، وبناءً على أن الحكومة هي حكومة بناء دولة الاستقلال الثاني، ولدت فكرة حماية لبنان والحؤول دون أن يعيش لبنان واللبنانيون في المستقبل أوضاعاً مشابهة للتي عاشها في 12 تموز 2006، وغيرها من الحروب الإسرائيلية السابقة عليه. هذه هي الفكرة التي كانت في أساس ولادة النقاط السبع وصيغتها وفلسفتها: السعي إلى إيجاد حل يحمي لبنان من العدوان الإسرائيلي المتكرر، يتبناه المجتمع الدولي ويضعه أمام مسؤولياته في مواجهة العدوانية الإسرائيلية المتكررة على لبنان. هذا من دون التخلي عن التزامات لبنان العربية، فيكون لبنان آخر من يسالم إسرائيل وفي طليعة من يحاربها في حال توافر إجماع عربي على الحرب.
لا، ليست فكرة النقاط السبع من إيحاء أي من الجهات العربية أو الدولية، بل هي وليدة المعاناة والتجارب اللبنانية المريرة والطويلة في جنوب الوطن ودولته أولاً، وفي مناطقه كافة، ثانياً. فلبنان في فئاته كلها هو الذي عاش طويلا ويعيش مآسي فلسطين والفلسطينيين، وقد كلفته هذه المآسي حروباً داخلية وإقليمية واحتلالات إسرائيلية مدمرة، نجمت عنها مقاومة قامت بالكثير من البطولات وقدمت الكثير من التضحيات وصولاً إلى التحرير في سنة 2000.
لذا فإن لبنان الشعب والدولة والمقاومة، هو الذي يبتكر الحلول التي تخرجه من معاناته الطويلة، ويسعى إلى أن يتبنى الأشقاء العرب والدول الصديقة والمجتمع الدولي هذه الحلول، ويعملون على مساعدته في إقرارها وتحقيقها. لكن هذه الحلول يجب أن تكون نابعةً من المصلحة الوطنية اللبنانية العليا والجامعة، ومن الإرادة اللبنانية الداخلية الحرة، بعد معاناة اللبنانيين الطويلة من التدخلات المدمرة في شؤونهم الوطنية.
النقاط السبع لم تكن قط وليدة الساعات الأولى من الحرب، ولا هي وليدة يوم 25 تموز 2006 عشية انعقاد مؤتمر روما الدولي لدعم لبنان. بل هي ولدت من استلهام معاناة الشعب اللبناني الطويلة جراء الاعتداءات الإسرائيلية، ومن استلهام مصلحة لبنان العليا الدقيقة والمركبة والواضحة. وهي كذلك وليدة التركيب الدقيق لصيغة لبنان السياسية ومشكلاته وإرادته الوطنية، لانجاز استقلاله الثاني في مواجهة إسرائيل وتبعات حروبها عليه.
لا، لم تولد النقاط السبع فجأة وبين ليلة وضحاها. وإذا كانت إرهاصاتها الأولى قد بدأت تتكون في اليوم الثالث من الحرب الإسرائيلية، فإنها راحت تتطور وتتضح على نحو متدرج ومتعرج، وتتبلور شيئاً فشيئاً وسط حقل من الألغام التي فجرتها إسرائيل في وجه لبنان وشعبه وحكومته، كرد إجرامي وغير متوازن على عملية 12 تموز.
والنقاط السبع في هذا المعنى كانت الرد السياسي والديبلوماسي اللبناني، الوطني في تمثيله إرادة اللبنانيين والدولة اللبنانية وتضحيات المقاومة والشعب في لبنان كله، وصولا إلى تحقيق حل شامل ومركب قائم على الأفكار التالية التي تبلورت بعد ذلك بصيغتها النهائية·:
– وقف إطلاق نار فوري وشامل.
– انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى خلف الخط الأزرق وعودة النازحين إلى ديارهم.
– بسط سلطة الدولة اللبنانية على أراضيها كاملة، تساعد جيشها الوطني في ذلك قوات اليونيفل الموسعة.
– تحرير الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية.
– التزام الأمم المتحدة إيجاد طريقة لتحرير مزارع شبعا من الاحتلال الإسرائيلي متجاوزين إنْ أمكن إرادة الشقيقة سوريا لإبقائها محتلةً لحين تحرير الجولان.
– الحصول من إسرائيل على خرائط الألغام التي زرعتها في الجنوب اللبناني قبل انسحاب جيشها منه سنة 2000.
– إحياء اتفاقية الهدنة الموقعة بين لبنان وإسرائيل في العام 1949.
وقد سمعتُ وقرأتُ كثيراً عن الموقف الحقيقي لحزب الله بشأن مزارع شبعا ومصائرها.
لكنْ مهما تكن توجهات الحزب وخلفياتها، فإن الصمود الأسطوري لمقاتليه الأبطال قد عزز الموقف اللبناني في المفاوضات على الجبهة الديبلوماسية الدولية. بيد أنّ الصمود فقط والصمود وحده من دون سواه لا يكفي لحماية لبنان، ولا يوقف العدوان الإسرائيلي، ولربما قد يصير مضراً ومدمراً من دون السعي إلى توظيفه وترجمته في قرارات دولية على الجبهة السياسية والديبلوماسية. وهي الجبهة التي استطاع لبنان، عبر علاقاته العربية والدولية، أن ينجح في توظيف جهوده فيها، وصولاً إلى انتزاع القرار الدولي 1701 المرتكز على النقاط السبع التي تكرس حلاً غير مؤقت يوقف الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان.
من الإرهاصات الأولى للنقاط السبع قبل أن تتبلور لاحقاً، أذكر أنني منذ اليوم الثالث للعدوان وقفت هنا في السرايا الحكومية في اجتماع حضره معظم سفراء الدول المعتمدين في لبنان، وأعلنت دعوتي إلى نشر قوات يونيفيل معززة في الجنوب.
آنذاك لم يخطر في بالي أن هذه الدعوة ستُستعمل لاحقاً في التحريض علي والدعاية ضدي عبر القول أنني دعوت إلى الاستعانة بقوات متعددة الجنسية في الجنوب.
بعد مؤتمر روما الدولي المنعقد في 26 تموز 2006 لدعم لبنان، والذي أعلنتُ فيه رسمياً مشروع النقاط السبع الذي وافق عليه الرئيس نبيه بري بحذافيره، شهد مجلس الوزراء نقاشاً حاداً حول هذه النقاط، انتهى بموافقة وزراء “حزب الله” عليها وإقرارها، وقد صرحوا للإعلام في نهاية الجلسة وبعدها في مناسبات عديدة بأنه ليس مسموحاً للحكومة التنازل عن النقاط السبع.
بعد أيام، اتخذت موقفي بعدم استقبال وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في لبنان، احتجاجاً على المجزرة المروعة التي ارتكبتها إسرائيل في 30 تموز في بلدة قانا وهي البلدة التي تتعرض لمجزرة ثانية ترتكبها إسرائيل بعد العام 1996. وهو الموقف الذي أملاه عليّ ضميري الوطني والإنساني من دون أن أتعرض لأي ضغط، غير الرعب الذي تعرض له الضحايا وآلام أهلهم الكبيرة والمأساة التي حلت بلبنان. لذا أبلغت الوزيرة رايس بأننا أوقفنا الجهود الديبلوماسية احتراماً لأرواح الشهداء وإجلالاً لأشلاء الأطفال وعيونهم البريئة المدفونة تحت الأنقاض. وحين اتصلت بالرئيس نبيه بري وأبلغته موقفي هذا، أيدني فيه قائلا إنه قادم إلى السرايا الحكومية للوقوف إلى جانبي لحظة إعلانه.
النشاط الكبير الذي قام به لبنان على الجبهة الديبلوماسية في الأمم المتحدة، وصولاً إلى تبني مجلس الأمن النقاط السبع، كان مضنياً وعسيراً. طوال الاتصالات والمباحثات والمفاوضات الدولية في نيويورك، لم يحد الموقف اللبناني عن الإصرار على رفض صدور أي قرار دولي تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولا عن طلب تعزيز اليونيفل في الجنوب، ووضع مزارع شبعا تحت سلطة الأمم المتحدة وعلى دخول الجيش اللبناني إلى الجنوب وكذلك العودة الفورية والكاملة لأهالي الجنوب إلى قراهم وبلداتهم. حتى اللحظات الأخيرة السابقة على صدور القرار 1701، كان الموقف الأميركي متحفظاً على ذكر موضوع مزارع شبعا، وكان الموقف الفرنسي متحفظاً على مسألة رفض لبنان صدور القرار تحت الفصل السابع. ففرنسا كانت متخوفةً من المشاركة في قوات دولية تابعة للأمم المتحدة من دون ضمانات الفصل السابع الذي يخول هذه القوات حق الرد والدفاع عن نفسها في حال تعرضها لاعتداءات في الجنوب.
إن توظيف صمود المقاومة واللبنانيين في الجهود الديبلوماسية اللبنانية، هو الذي افشل إسرائيل في تحقيق أهدافها المرجوة: تدمير المقاومة ونزع سلاحها بالقوة، كما حصل مع المنظمات الفلسطينية المسلحة صيف 1982، وإنزال الأذى والتخريب بلبنان ورده عقوداً إلى الوراء. لقد نجحت الحكومة اللبنانية في حشد العالم كله ضد العدوان الإسرائيلي الذي لم تبقَ دولة في العالم إلا ورأت فيه جموحاً متمادياً ووحشياً لتخريب لبنان. حتى الصحف الإسرائيلية راحت أخيراً تعيد الفشل في تحقيق أهداف حرب 12 تموز، إلى دعم الولايات المتحدة الأميركية الحكومة اللبنانية، وتقييد حرية الجيش الإسرائيلي في إنزال ضربات اشد هولاً بلبنان وشعبه!
وهكذا تمكن ذلك العمل المتماسك والمستفيد من بعضه بعضاً جهد الحكومة الديبلوماسي، وصمود المقاومة من تحقيق أهدافه: وقف العدوان والحؤول دون تفاقمه ومنع إسرائيل من الانتصار، وإجبارها على الانسحاب من الأراضي التي احتلتها بعد 12 تموز، وصولا إلى تبني مجلس الأمن الدولي القرار 1701 الذي وضع مزارع شبعا المحتلة في سياق جديد يتيح تحريرها من خلال العمل الديبلوماسي.
لكن ما أن انتهت الحرب وسرى وقف إطلاق النار، حتى بدأ التململ من القرار 1701 الذي كانت الموافقة عليه إجماعية مثل الموافقة على النقاط السبع التي كانت في أساس القرار وأصله. اتخذ هذا التململ أشكالاً وألواناً كثيرة، مواربة في البداية. كالقول أن الحكومة قللت من حجم الانجاز الذي حققته المقاومة في منع إسرائيل من الانتصار، مع العلم أنني لم أتوقف عن القول أن المقاومة والحكومة هما اللتان منعتا إسرائيل من الانتصار، معتبراً أن منعها من ذلك انجاز كبير في نتائجه الايجابية على لبنان كله وعلى مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي. ثم بدأوا بنشر شائعة تقول أن رئيس الحكومة لم يكن يريد عودة النازحين الجنوبيين إلى ديارهم وبيوتهم وانه يريد أن يحقق تغييراً ديمغرافياً في الجنوب. هل يصدق عاقل مثل هذا الكلام؟
لا، لم أقلل لحظة من تضحيات المقاومين، ولا من عذابات النازحين، وما وفرت مناسبة إلا وأعلنت فيها أنني أنحني إجلالاً لأرواح الشهداء الذين صمدوا في وجه العدوان الإسرائيلي وجبروته، وأردتُ في الوقت الذي خرجنا فيه من حقائق وأوهام السطوة الإسرائيلية، أن لا نقع في أوهامٍ معاكسةٍ لا نستطيع تحمل نتائجها نحن ولا العرب.
أنا شخصياً وكرئيس حكومة حافظت وأحافظ على موقف متعقل لا يسعني أن أحيد عنه. فبقدر ما يأخذني الحماس للإشادة بالتضحيات وعمل المقاومة والصمود، لا أقوى على تجاوز إنسانيتي ووطنيتي للذهاب بعيداً وحتى القسوة في حماسي وسط الخراب والدمار. مع العلم أنني لم أحمّل “حزب الله” مرةً مسؤولية ما جرى. فباستثناء مرة واحدة ووحيدة، استعملت فيها عبارة “ما كان أغنانا عما جرى”، رداً على سؤال أحدهم، كان موقفي الدائم أننا في مأزق علينا التصدي له موحدين، وليس الوقت وقت توزيع مسؤوليات، بل وقت تحمل المسؤولية والتصدي لما يجري إنقاذاً للبلاد التي تأخذها مناكفاتنا واتهام بعضنا البعض الآخر، إلى مزيد من الدمار.
هل بهذه الطريقة التي غايتها التنصل من المسؤولية الوطنية، وإسكات الأصوات التي تحاول التبصر في ما جرى، يمكننا أن نؤكد انتصارنا وصمودنا ونواجه معاً تبعات الحرب؟!
لا أخفي أنني شعرت بأسى وألم كبيرين حيال الاتهامات الباطلة. إلا أنني لو عاد بي الزمن إلى الوراء، لأكون مستفيداً مما جرى وحصل، لما سلكت سلوكاً مختلفاً عن ذاك الذي سلكته في حرب تموز 2006. فأنا المواطن العادي ورئيس الحكومة تربيت على عداء لإسرائيل، وليس في قلبي ووجداني مكان للضغينة على أي من أبناء بلدي، مهما كانت مواقفه متسرعة ومتجنية واسترسل في ما لا يجوز من الاتهامات الباطلة. فمن واجبي كمواطن وكمسؤول الصبر وعدم الانقياد السهل إلى الانفعال والتبجح وتعظيم النفس، فيما أقوم بواجبي العادي، من دون انتظار الشكر والتبجيل. أما دأبي الدائم فهو الحلم والصبر والمغفرة قدر المستطاع.
اليوم وفي هذه المناسبة أقف وقفة إجلال وإكبار واعتزاز حيال جميع الشهداء الذين ضحوا بحياتهم في سبيل وطنهم ودفاعا عنه في وجه العدوان. كما أنني أتوق إلى أن اشد على يد كل من فقد عزيزاً وبيتاً ومورد رزق، وأنا شديد التقدير لصمود المقاتلين في وجه العدو، عاقداً العزم على استمرار العمل في سبيل البناء لتحسين حياة كل لبناني ولبنانية.
لا يسعني قط أن اعتبر العناد والاستقواء في المجال الوطني فضيلة من أي نوع. أما الثوابت الأخلاقية والوطنية والقومية، فلا يمكن التخلي عنها، إلا إذا أراد المرء التخلي عن بشريته. وأملي أن يدفع التمسك بهذه الثوابت سائر الفرقاء إلى تلاق كبير من اجل الوطن والدولة والإنسان في لبنان. لقد ساعدَنا العرب قبل الحرب وفي الحرب، وهم يساعدوننا في إعادة الاعمار بعدها، ويُظهرون من الغيرة على لبنان ما لا نشهده من بعض الأقربين. وفي المجتمع الدولي هناك أطراف لم تقصّر أبداً في نصرة لبنان ولا تزال. وهذا هو معنى وجود اليونيفيل المعززة في الجنوب، والدعم العسكري للجيش اللبناني، والدعم السياسي لحماية لبنان، وصولاً إلى التوسط بين الفرقاء اللبنانيين.
لكن ماذا ينفع لو ربح الإنسان العالم وخسر نفسه؟!
الرئيس فؤاد السنيورة يروي لـ”النهار” مسارات العمل الحكومي في الحرب
اذا كان الحزب الايراني حقق انتصارا الهيا كما قال فلماذا كان يطالب وقف اطلاق النار؟
الرئيس فؤاد السنيورة يروي لـ”النهار” مسارات العمل الحكومي في الحرب
من اروع الاغاني ماجدة الرومي التي تحب وطنها اكثر من السياسيين اذناب الميليشيات والبلطجيين http://www.youtube.com/watch?v=L95d…
ماجدة الرومي : يا نبع المحبة http://www.youtube.com/watch?v=5o__…