يحتار الإعلام الغربي عند نهاية كل عام بالتقليد السنوي الذي يلزمه باختيار رجل، أو إمرأة، لتنصّبه بلقب “الأقوى” في هذا العالم أو “الأكثر إثارة”، أو “الأغنى” الخ. مجلة “تايم” الأميركية (10-12-2012) كانت “السباقة” في اختيارها، أو هكذا اعتقدت. حرب اسرائيل على غزة الشهر الماضي انعمت عليها بضالتها. فكان الرئس المصري محمد مرسي بطلها لهذا العام، بصفته “أهم رجل في الشرق الأوسط”.
وقبل ان تقرأ ما في داخلها عن مرسي وأقواله، تفاجأ بصورة وجهه على غلاف المجلة: كأنه مرسي ملطّفا، كأن صورته خضعت لمِبضع جراحي “الفوتو شوب”؛ هؤلاء التجميليين الافتراضيين الذين يحسّنون الوجوه والاجسام، يزيلون تجعيدة من هنا، يملأون شفاه من هناك، يضيقون خصرا… مرسي الذي نعرفه بجسمه ووجهه الثقيلين، نراه، في الصورة، متحررا من الأول ومنطلقا مع الثاني، اي وجهه، بابتسامة ورقة وإقبال لا تجدهم في واقع ما ينضح منه من خشونة واستنكار وقنوط. صورة مرحِّبة بـ”أقوى رجل…”. تحدس منها ان الصفحات في الداخل لن تكون اكثر من تبخير بمجد الله الذي أرسل لنا هكذا ابتسامة مشرقة…
في مقدمة هذه الصفحات، نوع من الـ”سي في” السياسي المقتضب عن مرسي: انه “صانع السلام بنظر اسرائيل والولايات المتحدة”، وهو “المنقذ بالنسبة للفلسطينيين”، و”رجل الدولة بالنسبة للعديدين في العالم العربي”. وبعد ذلك يأتي “المسار”. منه، مثلا، ان مرسي في بدايته ذهب إلى الصين وطهران. وبأن الادارة الاميركية تسرّعت بتفسير ذلك على انه خروج من “الفلك الاميركي”. ولكن لا…” كان غرض مرسي من هذه الجولات شيء آخر، تسرعنا وفهمناه غلط… والحقيقة انه كان “يكبح نفسه”: إذ رفض أقسى التفسيرات للشريعة الاسلامية، ورفض فرض الحجاب بالقانون على المصريات والسائحات، ولم يراجع اتفاقية السلام مع اسرائيل، ولا فتح الحدود مع “حماس” رفعاً للضغط عنها. ثم انه ألقى كلمات قوية عن سوريا في طهران… لا ليس عدوا لنا. والدليل؟ ما فعله في غزة. هو لم يذهب إلى ما قاله أردوغان عن اسرائيل بأنها تمارس “إرهاب دولة”. فقط اكتفى بسحب السفير المصري في اسرائيل وأرسل رئيس وزرارئه إلى غزة أثناء الحرب عليها. والأهم، انه بقي على اتصال مع أوباما… اتصل به ست مرات اثناء هذه الحرب، حتى انه أيقظه في الثانية صباحا للتشاور. وسأل أوباما إن كان يزعجه في هذا الوقت المتأخر، فكان الجواب حاراً مؤنساً… وفي واحدة من هذه الاتصالات عزاه أوباما بوفاة شقيقته… ويعلّق مرسي على هذه الحميمية الجديدة التي دبّت في علاقة الرئيسين، بعد أحداث 11 أيلول المؤسفة: (الهجوم على السفارة الأميركية) “أوباما ساعدنا كثيراً… ساعدنا كثيراً….وبوسعي فعلا القول بأن أفعاله تتطابق مع نواياه”.
أما عن الاعلان الدستوري المكمل الذي اصدره مرسي في 22 من الشهر الماضي، وفجّر الوضع المصري برمته، ،أي قبل يومين من صدور عدد “التايم”، فلا غبار على صراحته: “بهذه القرارات أعطى مرسي للمصريين سبباً جديدا للإحتجاج”…. ثم تسترسل المجلة في عرض الحجج الاخوانية المدافعة عن هذا الاعلان، وأهمها انه لم يكن “إنقلاباً سلطويا”، إنما “محاولة يائسة للحفاظ على الديموقراطية”. “التايم” موضوعية. ولذلك تورد في تقريرها “وجهة نظر” المعارضة في الإعلان الرئاسي. ولكن “وجهة النظر” هذه تبدو هزيلة أمام ضخامة الموضوع المخصص لـ”أهم رجل..”.
إما الصفحتين المخصصتين للـ”مقابلة” مع الرئيس، فلا تشبه، بأسئلتها، إلا صحافة الاحزاب العقائدية. هي ليست مقابلة. إنما عرض لآراء “أقوى رجل…” حول اميركا والشرق الاوسط والديموقراطية… الصحافيان االمعنيان بالـ”مقابلة” تليا عليه النقاط، وهو استرسل في الاجابة، من دون تدقيق ولا أي تلميح ممكن. لذلك كان مرسي حراً طليقاً في اجاباته. ليس بوسعنا هنا تغطيتها كلها. هذه الاجابات، فقط عناوين عريضة. عن اميركا قال مرسي، بعدما أغدق مشاعر المحبة على الاميركيين، الطيبين، الصدوقين، انه يريد شخصياً أن يبني “جسراً بين الشرق والغرب”. عن الفلسطينيين والاسرائيليين قال ان “الجانبان يتكلمان عن الفروقات بينهما. نحن نريدهم ان يتكلموا عن نقاط التشابه بينهما”. فيما “الديموقراطية هي أفضل في كل مكان في العالم”. والاخوان المسلمون “يؤمنون بالديموقراطية، لأنها من صميم عقيدتهم”. ومصر لا يمكن ان تعرف الاستقرار اذا “لم تؤمِّن الحرية والديموقراطية والحقوق كلها للرجال والنساء، للمسلمين والمسيحيين، ولأي شخص مهما كانت آراؤه”.
على هذا المنوال نسج مرسي ومغازلوه من “التايم”. هم يفسحون له كامل الحرية لتسويق طبائع الصورة التي على الغلاف. وهو يتفاعل مع هذا الغزل بالمزيد من الأسباب. إلى حد انك تخرج من هذه الصفحات الثماني وقد أصابك الدوار: كأن “التايم” مجلة تابعة لوزراة خارجية إحدى الدول التسلطية، تحاور أحد “أقطابها”، أو أحد حلفائها.
عودة بضعة أيام إلى الوراء: نفهم ان مرسي استقوى بزعامته الاقليمية الجديدة التي توجته بأكليلها الادارة الاميركية، فراح يعتقد بأن الفرصة باتت سانحة للاستيلاء على ما تبقى من سلطة. نفهم ان تكون الديناميكية العميقة لإعلانه الدستوري هو هذا التتويج بالذات. وهو بذلك يكرر دور سلفه حسني مبارك، وإن بقالب الاسلامي جديد. ولكن المدهش في كلام مرسي مع “التايم” هو ذاك الخطاب الذي يبدو انه تكيّف سريعا، أو فهم سريعا ما يجب ان يقوله. وان كان على تناقض تام مع خطابه وخطاب حزبه وانصاره. “الهوية المهددة” هي محور هذا الخطاب. هي سبب وجوده بزعم اصحابه. والرئيس لا يتوانى، ولا خطباؤه يتوانون، مثلا، عن التمثّل بالرسول نفسه، بالخلفاء الراشدين والفتوحات… وإلى ما هنالك من ألفاظ وسلوكيات وتنظيرات كلها تحيل إلى العداء مع “الصليبية” و”الصهيونية”.
أما من ناحية مجلة “تايم”، فالأمر أصعب. هل يكون إنعدام بصيرتها عائد إلى كسلها الفكري، أم إلى هوسها بـ”أمن” اسرائيل؟ حتى تبلغ هذا المستوى من التهافت الدعائي لمرسي؟ أم انها، كما صحافتنا العربية لها حسابات مع قصرها ولوبياته، أو مع خطوط أخرى غير مرئية؟ لتكون على هذه الدرجة من التسرّع والسطحية غير المتعمّدين؟
أم أن المجلة وجدت أخيرا صدى لخطاب أوباما الاول في جامعة القاهرة غداة انتخابه الأول، عندما توجه إلينا بصفتنا “العالم الاسلامي”، فجاء انتخاب رئيس اخواني تصديقا لهذا التوجه الأوّلي؟ فيما مجلة “التايم” قد تكون تعبير غير رسمي عن سياسة الإدراة الاميركية في منطقة الشرق الاوسط، فوجدت اخيراً بطلها…؟
أم ان الأمر لا يعدو كونه نفاقاً، كالذي مارسه الثعلب مع الغراب في رائعة لافونتين الشهيرة؛ حيث مرّ الثعلب تحت شجرة وشمّ رائحة جبنة أسالت لعابه. فنظر إلى الشجرة التي فوق رأسه ورأى غراباً ممسكاً بقطعة جبنة كبيرة. فقال له عن صوته المجوف ما يُقال عن ملوك الغناء. وما كان من الغراب إلا ان صدق وبدأ يصدح بنعيبه. فسقطت الجبنة من فمه وتلقفها الثعلب وهرب. اي دولة في العالم مستعدة ان تقوم بما قام به الثعلب. أي دولة ذات مصالح، أي انسان، عظيما كان أم عادياً. العبرة في ما سوف يفعله الغراب بعدما يضيّع الجبنة. هل يراجع حساباته؟ أم يكون التملق والمداهنة قد ذهبا بعيدا في إغشاء بصيرته؟
بعد ذلك، هل يكون مصير محمد مرسي مثل مصير أسماء الأسد، التي كانت “وردة الصحراء” في ظل ديكتاتورية زوجها، ثم تحولت إلى “ماري انطوانيت الشرق”، بعدما ثار الشعب السوري ضده؟ وهل يكون مصير غلاف “التايم” والصفحات الست التي امتلأت بها تمجيداً بـ”أهميته” مثل مصير “وردة الصحراء” في مجلة “فوغ”، التي سُحبت من التداول الالكتروني… بعد حين؟