مع أن الدين الإسلامي مصدر للعلاقة الروحية والإيمانية، ومنبع للقيم الأخلاقية، يواجهنا سؤال: هل ما نريده منه هو الدين فقط أم شيئ آخر؟ ليس من مسؤوليات الدين الإجابة على كل تساؤلات الحياة، بمعنى أنه ليس “سوبر ماركت” يمكن أن نتبضع منه لمختلف حاجيات الحياة، بل بضاعته الرئيسية هي العبادات والطاعات والأذكار، الإيمان، كذلك الحض على فعل الخير واجتناب فعل الشر. لذلك لابد للمتديّن أن يفكر بالدنيا بقدر تفكير غير المتديّن. فالدنيا لاترتبط بذات الدين وأسسه وإنما بقضاياه الثانوية العرَضية. فمثلا هل من ذات الدين أن يتبنى مشاريع تتعلق بالطب أو الإقتصاد أو النظام السياسي؟ رغم أن الإجابة على السؤال هي لا، إلا أن هناك مسعى في هذا المجال استطاع أصحابه تحقيق نتائج ملموسة، حيث استندوا إلى بعض النصوص الدينية ووظفوها لاستخراج “بعض” الطب و”بعض” الاقتصاد و”بعضا” من أنواع إدارة الحكم من الدين.
لكن من أجل حل هذه الإشكالية، أي لكي لايكون الدين “سوبر ماركت”، لابد من طرح تساؤل يساهم في إبعاده عن هذا الطريق، والتساؤل هو: ماذا نريد من الدين؟
ليس من الحكمة القول: ماذا يريد الدين منّا، بل لابد أن نقول: ماذا نريد نحن من الدين. فمن الخطأ إلقاء جلّ مطالبنا على الدين، بل الصحيح أن نتساءل: ماذا يستطيع أن يفعل الدين تجاه مطالبنا.. وماذا يمكن أن يقدم من إجابات على أسئلة الحياة؟ فهناك من يقول بأنه إذا لم يستطع الدين تحقيق جميع مطالبنا فإننا سوف لن نحتاج إليه. وهنا تكمن الخطورة على الدين وعلى الحياة. فالبعض يدّعي أن من مسؤوليات الدين معالجة جميع أمراضنا وحل جميع مشاكلنا وتحقيق جميع مطالبنا.
المفكر الإيراني الراحل مهدي بازرغان – وهو أول رئيس للوزراء بعد انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 – يطرح وجهة نظره في هذا الإطار فيقول: “إن الحكومة والسياسة أو إدارة الأمة والدولة والشعب من وجهة نظر الدين ومن وجهة نظر البعثة النبوية لاتختلف مع مسائل وأمور الحياة الأخرى. فالإسلام لم يعلمنا مسائل من قبيل الزراعة أو الطبخ أو تربية الحيوانات أو إدارة الأمور المنزلية، وجعل هذه المسائل في عهدة العقل. كذلك أمور أخرى من قبيل الاقتصاد والإدارة والسياسة فإنها تقع في عهدتنا. فكما أن القرآن قد حض على العلم والتعليم والتفكير، لكننا لم نلحظ أي إشارة في أي سورة أو آية إلى تعليمنا دروسا مثل الرياضيات والجيولوجيا والفيزياء والفلسفة. من جانب آخر حضت الأديان الإلهية على تحقيق العدالة ومواجهة الاستبداد وأكدت على أهمية إدارة الناس حيث لا إشكال في ذلك، لكنها لم تطرح أحكاما وتعليمات خاصة أو إيديولوجيا معينة في هذا المجال”. ويضيف: “إذا اعتبرنا أن الله والآخرة هدفين أساسيين في برنامج البعثة النبوية وأن إصلاح الدنيا ليس هدف الأديان الإلهية، فإن ذلك لايعتبر نقصا في الدين. على هذا الأساس لايمكن أن يكون القرآن والرسالات النبوية غير مبالين بالقضايا الدنيوية إذ أن الإنسان يأخذ منها ما يرتبط بقضايا الحياة الفرعية، لكن لايعتبر (هذا الأخذ) أساسا من أسس البعثة النبوية. فآيات الجهاد والقضاء والعدل وغيرها لها تأثيرات فرعية مفيدة فحسب لا يمكن إنكارها”.
إن الإدعاءات التي ربطت تحقيق جميع مطالب الحياة وفرشت أرضية حل جميع مشاكله وقضاياه بالدين، اعتمدت على فهم خاص لبعض الآيات والأحاديث. فعلى سبيل المثال يقول القرآن “اليوم أكملت لكم دينكم” سورة المائدة – الآية 3، أو “لا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين” سورة الأنعام – الآية 59، حيث يعتقد كثيرون أن الدين الكامل هو بمعنى أن الإنسان يستطيع أن يأخذ منه حلولا لجميع مشاكل الحياة وقضاياها. لكن الواقع يقول أن الدين ليس كاملا إلا لهدفه (اليوم أكملت لكم دينكم) وليس بالنسبة لجميع أمور الحياة. فالقرآن هو هداية ونور للناس ولم يأت ليأخذ مكان العقل في تعلم العلوم.
يقول أحد الباحثين أن السبب الذي جعل الدين عند غالبية المسلمين مرجعا لمختلف أمور الحياة، وهو ليس كذلك، أنه لم يعد مجرد علاقة روحية مجردة، بل أصبح جزءا من مشروع سياسي واقتصادي وقانوني وثقافي، أي أصبح منظومة فكرية وموروثا ثقافيا يبني عليه المشروع الإسلامي بكافة إفرازاته وتداعياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
إن قريش، كما يقول سيد محمود القمني في مقال له تحت عنوان “هل في الإسلام دولة ونظام حكم”، عرضت على النبي محمد في بداية دعوته أن يكون ملكا عليها، فرفض صيغة الملك كوسيلة للسلطة، وأصر على أنه نبي رسول وعبد من عباد الله مكلف بإبلاغ أمر الدين ليس أكثر، جاء يبلغ الناس دين الله حسبما أمره ربه، ورأى في الملك صورة سلبية من صور السلطة، فقالت الآية إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.
وحينما يتساءل المسلمون عن مصير الطب الإسلامي، هل ندعي في المقابل أنه يجب الاستغناء عن علم الطب وعلم الفسيولوجيا والميكروبولوجيا وغيرها من العلوم، وأن نستعين بدلا من ذلك بالطب الإسلامي، فالمسلمون الأوائل لم يكتشفوا الطب على أساس انه رسالة دينية. لذلك إذا تساءل الشيعة مثلا عن مصير طب الإمام الرضا (وهوالإمام الثامن واشتهر باكتشافاته في الطب) وربطوا الموضوع بقضية الإمامة بوصفها دليل على ضرورة ضلوع الدين بمختلف أمور الحياة، لا نستطيع الزعم بأن إمامة الرضا كانت ستتأثر إذا لم يكتشف هذا الطب. بمعنى أن الطب ليس أساسا من أسس الدين. وهو موضوع مماثل لقضايا متعددة في الحياة التي لا وجود لها في الدين. إذن قول القرآن “تبيانا لكل شيئ” سورة النحل – الآية 89، لا تعني أن ذلك توضيح لجميع الأمور والقضايا في الحياة، بل توضيح للأمور التي جاء القرآن من أجلها.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي