من أبرز أسباب استمرار وجود الديكتاتورية والاستبداد والحكم المطلق في عالمنا العربي والإسلامي هو تمركز القوى والسلطات في موقع واحد هو موقع الحاكم، وفقدانها في جوانب أخرى مهمة في المجتمع. وهذا الأمر لا ينطبق فقط على الحكام وإنما أيضا على الأحزاب والتجمعات السياسية، وأيضا على الوضع الاجتماعي لدى الكثير من العائلات والأسر. فالتجارب تبرهن أن القوى والسلطات غالبا ما تتركز في يد الرجل أو الحاكم أو رئيس الحزب مما جعله يستبد بالآخر الذي يشاركه الحياة والعمل. فتراكم السلطة وتجمع القوى واحتكار التفسيرات والحلول في شخص واحد من شأنه أن يؤدي إلى الفساد. ولو أن نشاط مجموعة من الناس أصبح قويا على حساب المجاميع الأخرى في المجتمع المجبرة على وقف نشاطها، بسبب تراكم السلطات والقوى في الأولى وفقدانها كُرْهاً في باقي الجماعات، سيترتب على ذلك بروز مظاهر فساد، التي منها فقدان الأمن وانتشار الخوف لإمكانية مهاجمة القوي للضعيف، وهو ما يتلازم مع مفهوم السلطة المطلقة. هذا الواقع حصل في العراق إبان عهد الطاغية صدام حسين، ويحصل الآن في الكثير من المجتمعات العربية والمسلمة، ويبرز بالذات في الحكومات التي يسيطر عليها النظام الفردي ولو زعمت بأنها تعيش في ظل الديموقراطية.
وإذا ما اقتنع الإنسان بأن مواجهة الفردية والاستبداد هي واجب أخلاقي، يكون بذلك قد اقترب من الديموقراطية بوصفها مفهوما قيميا وآلية لتوزيع القوى في المجتمع. بعبارة أخرى، تعتبر الديموقراطية مدخلا لمواجهة الآفات السياسية والأمراض والاجتماعية الناتجة عن احتكار سلطة ما، سواء كانت حكومة أو فردا أوحزبا أو نقابة، لمعظم القوى والسلطات في المجتمع. فتوزيع تلك السلطات على مختلف فئات المجتمع من شأنه أن يخلق حالة من التوازن في التعاطي مع القضايا والمشاكل، ومن شأنه أيضا أن يضع حدا لظلم المحتكرين ضد باقي أفراد المجتمع، الأمر الذي قد يقلل من انتشار اللاأمن والخوف، إذ سيشعر غالبية أفراد المجتمع بأنهم يعيشون في إطار جو الحرية القادر على ضمان تكافؤ الفرص، ما يجعلهم متساوين في التعاطي مع المشاكل والقضايا حيث لا غلبة لسلطة محتكرة تمنعهم من ممارسة مهامهم في الحياة.
على هذا الأساس لا يمكن أن نجرد الديموقراطية عن الواقع الاجتماعي، كما لا نستطيع أن نزعم بأن الديموقراطية لا تحمل في داخلها أهدافا أخلاقية وإنسانية. فنزع الخوف من نفس الإنسان كفيل بحصوله على جرأة تساعده في طرح مشاكله وقضاياه والحلول لها دون خوف من أحد أو رهبة من سلطة. ليس هذا فحسب بل سيصبح الإنسان معتدلا في طرحه بحيث يحسب حساب الآخرين الذين ينافسونه. كما أن الديموقراطية من شأنها أن تطرح حلولا للقضايا والمشاكل بوسائل سلمية غير قائمة على القهر. فالحكومة الديموقراطية تستطيع أن تزيح الحكام دون اللجوء إلى العنف، وهو أمر لن يتحقق إلا بتفعيل آليات الديموقراطية بحيث يستطيع الناس عن طريق الانتخابات والاستفتاءات والحريات، ممارسة ضغوط لتغيير الوضع وإصلاحه. ولو فقدت تلك الآليات وجودها فإن فلسفة الديمقراطية ستفقد معناها. فالديموقراطية تعتمد على مجموعة من الآليات التي تهدف إلى تغيير الوضع دون اللجوء إلى العنف، وتسعى لتحقيق الإصلاحات دون الحاجة إلى “الثورة” ضد التوزيع غير العادل للقوى والسلطات، وتهدف إلى اتخاذ قرارات وتنفيذ خطط بحيث لا تنبع من مصدر واحد يحتكر جميع السلطات والتفسيرات، وتشدد على الدفاع عن حقوق الإنسان وعن حرية الرأي والتعددية دون أي سقف أو خطوط حمراء فكرية أو رهبة من جهة معينة.
إن بعض الأنظمة المطلقة تشدد على التعايش في إطار الديموقراطية المزيفة أو المنقوصة من أجل تكريس وجودها في الواقع، لكنها تصطدم بمفاهيم رئيسية يحتاجها العمل الديموقراطي، كالحرية والتعددية والاختلاف والتنوع واحترام حقوق الإنسان، لأن هذه المفاهيم ستُفقد تلك الأنظمة صورتها الفردية ووجهتها المطلقة. فالحاكم المطلق يكره الحرية، لأنها تضيّق الظروف على حكمه وتعرضه لانتقادات هو لا يرفضها فحسب بل لا يريدها أن تتواجد في المجتمع. كذلك يخشى التنوع، لأنه يساهم في مشاركة الآخرين معه في سلطاته وبالتالي سيفقده ذلك إرادته الفردية. ويخشى احترام حقوق الإنسان، لأن ذلك يجبره على تقديم تنازلات جمة قد تفقده هيبته وقدسيته ثم سلطته. في المقابل، لا يمكن للحاكم المطلق أن يحظى بشعبية من قبل معظم أفراد المجتمع، بل القلة القليلة هي التي تقف وراءه، القلة المؤمنة به التي تنفذ أجندته انطلاقا من تشابك المصالح. وللأسف أثبتت التجارب الحديثة أن الفهم الديني السياسي (الإسلام السياسي) يتوافق في مجمله مع الحكم المطلق ويعادي الديموقراطية الحرة الحقيقية ويتعارض مع الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان.
إن تجربة الحكم الديني، في إيران وفي غيرها، توضح بشكل جلي الآثار الخطرة للحكم المطلق على الحياة الديموقراطية رغم سعيها المزيف للارتباط بالديموقراطية. وليس الحكم الديني وحده الذي يسعى لذلك، بل جميع الديموقراطيات المنقوصة التي يكون الحاكم الفرد هو المحور الرئيسي في النظام والذي لا تنتهي ولايته حتى وفاته، تسعى لذلك أيضا. فالديموقراطية إن لم تفض إلى تداول للسلطة وتغيير رأس النظام سواء كان فردا أو حزبا ستعتبر فاقدة أحد أسسها الرئيسية، إضافة إلى فقدان أسس أخرى كالتعددية السياسية والفكرية وحرية النشر والتعبير واحترام حقوق الإنسان. فتداول السلطة ووصول رئيس جديد أو حكومة جديدة، عادة ما يفضي إلى تغيير الخطوط العريضة لبرنامج الإدارة الحكومية القديمة، وهذا ما تؤكده تجارب المجتمعات التي تجري فيها انتخابات حرة وحقيقية. لكن في كثير من دول المنطقة لا يتغير شيئا رئيسيا حينما يأتي رئيس حكومة جديد إلى السلطة، لأن جميع القوى والسلطات والقرارات الاستراتيجية وكل الخطوط العريضة تبقى في أيدي الحاكم الفرد الذي يتربع على سدة النظام بصورة أبدية، إذ هو الذي بيده تغيير تلك الخطوط من عدمه. بالتالي لا نجد تأثيرا لانتقال السلطة في هذه الدول على السياسات الرئيسية الداخلية والخارجية وعلى الوضع بشكل عام.
إن من عاش لعقود طويلة في ظل نظام ديموقراطي مزيف دون القدرة على ممارسة النقد ضد الفرد المطلق في النظام باعتباره المسؤول الأول عن سياسات ذلك النظام، ودون تفعيل المفاهيم الرئيسية للديموقراطية، ودون الاستفادة الكاملة من وسائلها، بسبب تفشي الثقافة الفردية، عليه العمل على مواجهة هذه الثقافة وأن يسعى إلى تغييرها إذا ما أراد أن يساهم في تكريس الديموقراطية الحقيقية، لأن ثقافة الرضوخ للحاكم المطلق إنما تكرس الاستبداد وتؤصل لديموقراطية مزيفة يكون الرأي الأول والأخير فيها للحاكم الذي لا يتزحزح – دستوريا – عن كرسي الحكم. فالبعض ينتقد استبداد صدام حسين، لكنه في رضوخه لنظام فردي ذي سمات دستورية وديموقراطية إنما يساهم في تشجيع ثقافة الاستبداد، حيث أنه يشارك في استبدال الفردانية الصدامية العنيفة والمرعبة بفردانية أخرى قد تكون أقل حدة، لكن نتائجها في الغالب لا تختلف عن النتائج الصدامية، وبالتالي مخرجاتها لا تعبر عن رأي الشعب، وفي النهاية فإن النتيجة هي تكريس النظام الفردي. فالفردانية تجبر الناس على الرضوخ للحاكم المطلق، ولو جرى ذلك في ظل نظام يستند إلى بعض الآليات الديموقراطية، إذ يجري هذا الرضوخ من دون توجيه أو تمحيص، أو حتى قدرة على النقد، لأنه رضوخ قائم على مبدأ السمع والطاعة (مثلما كانت الثقافة الصدامية) ومنطلقة من التكليف الدستوري أو الديني. فهي ليست سوى ثقافة قائمة على تمركز القوى في شخص واحد، وإذا لم تتغير هذه الثقافة سوف تظل القضايا والمشاكل وأمور الحياة مرتبطة بما يفرضه الرمز المطلق لا ما يقرره الرأي الجمعي. فشخص صدّام حسين لم يخلق الديكتاتورية والاستبداد بقدر ما أن فردانيته وثقافته المطلقة في الحكم هي التي أفرزت الماضي السيء والمرعب. والرمز المطلق يعتبر رافدا أساسيا من روافد البيئة الثقافية العربية والإسلامية ولاعبا رئيسيا فيها، إذ ما زال يفرض سطوته على القرار وما زال يلزم فردانيته على الواقع في ظل رمزيته التي تجعله مصونا من الخطأ وتبعده عنه المساءلة. فصدّام كان لاعبا أساسيا في نادي الرمزية العربي والإسلامي، ورغم زواله إلا أن ثقافته لا تزال مستمرة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي