مما لا شك فيه أن هناك متضررون كثر من غياب الأمن والإستقرار في ليبيا، التي تشهد إضطرابات عنيفة هي الأولى من نوعها في هذا البلد النفطي منذ تاريخ إستيلاء العقيد معمر القذافي على السلطة في عام 1969. وتأتي على رأس الأمم المتضررة، تلك التي تعتمد جزئيا على ليبيا كسوق لتصدير عمالتها الماهرة وغير الماهرة، وبالتالي الإستفادة من تحويلاتهم المالية إلى ذويهم في إنعاش إقتصادها. وإذا كان المصريون والفلسطينيون هم على رأس القائمة عربيا، فإن الهنود والبنغلاديشيين والفلبينيين والتايلانديين والصينيين والأتراك يأتون على رأس القائمة آسيويا. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد الفلبينيين العاملين في ليبيا نحو 60 ألف عامل، من أصل 9.4 مليون فلبيني يعمل في الخارج بحسب إحصائيات عام 2010 التي قالت أن إجمالي ما حولوه من أموال إلى بلادهم في تلك السنة بلغ 19 بليون دولار. أما البنغلاديشيون الذين حولوا في عامي 2009 و2010 إلى بلادهم من مختلف دول العالم ما مجموعه 11 بليون دولار، أو 12 بالمئة من إجمالي الناتج القومي لبنغلاديش لعام 2009، فقد وصل عددهم في ليبيا إلى نحو 80 ألف عامل.
لكن بعيدا عن خسارة بعض الدول لسوق العمالة الليبية، سواء على المدى القصير أو المتوسط، أو ربما الطويل إن لم تحسم مسألة رحيل نظام القذافي سريعا، فإن الخسائر الأخرى تتمثل في تضرر بعض الدول الأوروبية – من تلك التي تعاونت مع نظام العقيد، ولم تنتقد طبيعته العبثية، أملا في إستقبال إستثماراته الهائلة – وتحديدا إيطاليا التي توجد فيها إستثمارات ليبية معتبرة في قطاعات النفط (شركة إيني) والبنوك (مصرف يونيكريدت) والإنشاءات (شركة إمبريغيلو) وصناعة المركبات (فيات) وأندية كرة القدم (نادي يوفينتوس). وفي هذا السياق يمكن أيضا إدراج الخسائر المتأتية من إستثمار بعض الشركات الأجنبية لأموالها في قطاع النفط والبتروكيماويات الليبي. ذلك أن تلك الإستثمارات، فضلا عما لحق بها من خسائر جسيمة كنتيجة للتعطل والتدمير والنهب، فإن إستمرارها وإشتراطاتها مرهون بما سوف يقرره النظام الجديد، خصوصا إذا كانت تابعة لدول لم تتخذ مواقف واضحة من ثورة الشعب الليبي. وتنخرط في مثل هذه الإستثمارات طائفة واسعة من المؤسسات، أبرزها الشركة التركية للنفط، وشركة “ميدكو” الإندونيسية، و”سونطراك” الجزائرية، و”هس” الإمريكية، والشركة الهندية للنفط، و”تاتنفت” الروسية، و”وود سايد” الأسترالية، و”فنترسال” الألمانية، و”إيني/ شمال أفريقيا” الإيطالية، و”سان كور” الكندية للطاقة، وشركة النفط البولندية الحكومية “بي جي إن آي جي” وشركة “ليركو” لتكرير النفط التي تمتلكها ليبيا مناصفة مع الإمارات، وشركة “يارا” لإنتاج الأسمدة والتي تمتلكها ليبيا مع النرويج.
على أن أكبر المتضررين سيظل الشركات الكورية الجنوبية العملاقة، وخصوصا تلك العاملة في قطاع الإنشاءات والبناء مثل “شركة هونداي الهندسية”، فهذه الأخيرة، التي تعتبر الأضخم في بلادها في قطاع التعمير، حصلت من نظام القذافي في أكتوبر وديسمبر الماضيين على حق تصدير ما قيمته 1.36 بليون دولار من المعدات إلى ليبيا، علاوة على حصولها على صفقة بقيمة 360.4 بليون دولار لبناء محطات للكهرباء، علما بأن “هونداي” هي التي نفذت جل ما يعتبره القذافي معجزة ثورته، ألا وهو “النهر الصناعي العظيم”. وكنتيجة للإنفلات الأمني في ليبيا وما صاحبه من أعمال العنف والقصف والسلب، وإضرام الحرائق، تضررت هذه الشركة كثيرا، لاسيما وأن معظم مشاريعها تقع في بنغازي ودرنة اللتين إنطلقت منهما تظاهرات الفقر والحرمان، بل قد تواجهها مستقبلا مطالب بتعويضات هائلة من قبل الآلاف من عمالها الأفارقة والآسيويين الذين تخلت عنهم، وتركتهم لمصيرهم، بمجرد إندلاع أعمال العنف.
وتأتي الصين في المرتبة الثانية بعد كوريا الجنوبية لجهة المتضررين مما هو حاصل اليوم في ليبيا. فالعملاق الصيني الذي لم تكن له روابط تذكر مع ليبيا قبل عام 1969 بدأ تعاونا وثيقا وتبادلا للزيارات على أرفع المستويات مع هذا البلد بمجرد إرتباطهما بعلاقات دبلوماسية في عام 1978 . وإذا كان التعاون بينهما قد تعرض لبعض السكون بسبب فرض الحظر الدولي على ليبيا إبتداء من عام 1992 بسبب حادثة “لوكربي”، وبالتالي تجميد طرابلس لمعظم مشاريعها الإنمائية، فإنه سرعان ما عاد إلى وتيرته السابقة بمجرد رفع الحظر المذكور، حيث شهدت السنوات القليلة الماضية تناميا في الصادرات الصينية إلى ليبيا، التي تكاد لا تنتج أية سلعة سوى النفط، حتى وصلت قيمة تلك الصادرات في العام الماضي إلى 6.6 بليون دولار، علاوة على التوقيع على جملة من اتفاقيات التعاون في قطاعات النفط والغاز والأسمنت والأسمدة والري والإنشاءات والإتصالات والتكنولوجيا والتدريب وبناء الخطوط الحديدية والجسور والمرافق الثقافية والرياضية والسكنية.
وتطبيقا لسياستها الهادفة إلى التغلغل في إفريقيا من أجل الإستحواذ على مكامن الطاقة والمواد الأولية، فقد وضعت بكين نصب أعينها إستثمار بلايين الدولارات في قطاعي النفط والغاز الليبيين، وذلك من خلال شركة “سي إن بي سي” النفطية المملوكة للدولة، خصوصا وأن ليبيا تملك ثالث أكبر إحتياطي من النفط والغاز في إفريقيا بعد نيجيريا والجزائر (وصل هذا الاحتياطي في عام 2009 إلى نحو 44 بليون برميل من النفط، وأكثر من 54 تريليون قدم مكعب من الغاز). وهكذا لم يكن غريبا إعلان الصينيين في خضم الثورة الشعبية في أواخر فبراير المنصرم عن إمتلاكهم أو إدارتهم أو تنفيذهم لنحو 75 مشروعا في ليبيا، يعمل بها أكثر من 36 ألف صيني، وعن أن 27 مشروعا من هذه المشاريع تعرضت للتخريب والتدمير والنهب على أيدي الليبيين المحبطين والمحرومين.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh