تتنافس الأحزاب الثلاثة والثلاثون في كل انتخابات برلمانية ومحلية (البلديات) في ظل سقف يحدده الملك، الذي يعتبر نفسه وتعتبره أغلبية المغاربة “أمير المؤمنين”. فملك المغرب هو الوحيد بين ملوك ورؤساء البلدان ذات الأغلبية المسلمة، الذي استبقى ويصر على هذا اللقب. بل ربما كان بالنسبة له أهم من لقب الملك. فبينما في عالمنا الإسلامي وغير الإسلامي، هذه الأيام ملوك عديدون، منهم سبعة على الأقل مسلمين، إلا أن المغرب هو وحده الذي يحتفظ بلقب “أمير المؤمنين”.
والملكية في المغرب هي من أعرق الملكيات في العالم، حيث يتجاوز تاريخها ستة قرون. وتعود بجذورها إلى الأسرية العلوية من نسل الرسول محمد (صلعهم). وقد ترادفت مسميات أخرى، مثل “الخليفة” و “السلطان”، وأخيراً “الملك”، ولكن لقب “أمير المؤمنين” كان وما يزال أحد الثوابت المغربية. وربما كان ذلك أحد أسباب صمود هذه المؤسسة، حتى في ظل الاحتلال الفرنسي (1904-1956)، وعصر الثورات العربية (1952-1969) الذي اقتلع ملكيات أخرى ـ في مصر والعراق واليمن وتونس والجزائر. وربما كان ذلك أيضاً هو بغرض تحصين المغرب ضد الغلاة والمتطرفين باسم الإسلام. فالذين حاولوا تحدي الملكية في المغرب باسم الإسلام أو بدعوى تطبيق الشريعة، لم يجدوا سوقاً رائجة لبضاعتهم، وتم عزلهم وتهميشهم سياسياً وثقافياً، وأخرهم حركة العدل والإحسان، التي يتزعمها الشيخ أحمد ياسين.
والذي ربما لا يعرفه أيضاً كثير من قراءنا في المشرق العربي هو أن هناك مصطلحاً أخر يطلقه المغاربة على المؤسسة الملكية وهو “المخزن”. ومن ذلك أن من يُراد وصفه أو وصمه بالعمالة أو تملق النظام الحاكم بأنه “مخزني” (مثل شيوعي، أو بعثي، أو ناصري). فما هو أصل هذه التسمية؟
خلال القرون الوسطى الإسلامية (أي بين القرنين الخامس والعاشر الهجري) كانت بلدان المغرب العربي، الممتدة من غرب مصر إلى شواطئ الأطلنطي، تعرف ثلاثة أنماط من المعيشة: الأول، هو البادية، حيث تعيش القبائل الرعوية، دائمة الترحال مع قطعانها من الإبل والأغنام والخيول، بحثاً عن الماء والكلأ. وكان هذا النمط بأهله وأرضه، يُسمى “بلاد السيبه”، نظراً لسيولته وحركته الدائمة، وصعوبة السيطرة عليه، أو إخضاعه لقوانين أي سلطة مركزية. أما النمط الثاني فهو “الريف”، حيث يعيش الفلاحون، في قرى مستقرة، يزرعون ويحصدون، لحسابهم إذا كانوا يملكون أرضاً، أو لحساب أصحاب هذه الأرض من كبار المُلاك (الأعيان أو الإقطاعيين). أما النمط المعيشي الثالث فهو “الحاضرة”، أو المدينة، حيث التجار والصُنّاع، وأصحاب الحرف والمهن، وحيث دور العلم، والفن، ودواوين الحكومة أو السلطة. ولأن نمطي المعيشة الثاني والثالث، مستقران، فقد كان يسهل السيطرة عليهما، وإخضاعهما للسلطة المركزية. وكان أهم مظهر لهذه السيطرة، هو جباية الضرائب، نقداً وعيناً. ولأن النقود لم تكن “ورقية” بعد، فقد كانت “معدنية”، من الذهب والفضة. أو كانت “عينية” ـ من الماشية والغلال والمصنوعات والمشغولات. وكانت حصيلة هذه الجباية تحفظ في “مخازن”، أي بنايات وحظائر. أي أن هذه المخازن، ومفردها مخزن، هي بمثابة
وزارة “الخزانة”، أو “المالية” في وقتنا الآن. ولأن الجباية كانت رمزاً للسيطرة والخضوع، فقد أصبح “المخزن” مرادفاً وكناية لمن يخضعون أو يمتثلون لإرادة السلطة المركزية، والتي يرمز لها أمير المؤمنين أو الخليفة، أو السلطان، أو الملك. وفي الصراعات العديدة على السلطة، خلال القرون الوسطى الإسلامية، كانت جائزة الانتصار، أو أحد شروطه، هو الاستيلاء على هذه المخازن. وحتى الغزاة الطامعين من خارج دار الإسلام، كانوا يدركون ذلك، فيتوجهوا مباشرة من الثغور (الموانئ) التي يبدأون منها إلى الوديان التي توجد فيها هذه المخازن. ومن ذلك كانت أحد أهم المواجهات بين المغاربة والأسبان، وهي “معركة وادي المخازن”، التي أبلى فيها المغاربة بلاء حسناً، ودحروا الغزاة الأسبان.
ورغم أن الوجود المادي لمخازن الدولة، بالمعنى الذي شرحناه أعلاه، قد انتهى أو تضاءل، وأصبح للدولة الحديثة طرقاً وآليات ومظاهر أخرى لبسط سيطرتها، إلا أن المغاربة المعاصرين ما يزالون يستخدمون مصطلح، “المخزن”، للإشارة إلى الدولة، وتحديداً القصر الملكي، أو المؤسسة الملكية المغربية. وهكذا نكون بصدد كيان مُركب للدولة المغربية، حيث يُرمز لرأسها بأمير المؤمنين، والملك، والمخزن. وقد رسّخ ذلك من قوتها وشرعيتها، وبالتالي قدرتها على دحر أو تهميش كل معارضيها حتى الآن.
وكان الملك محمد الخامس، الذي تولى العرش في ثلاثينات القرن الماضي نموذجاً لأفضل ما يمكن أن يقدمه ملك في بلد عربي مسلم، تحت الاحتلال. فرغم أن فرنسا أبقت على أسرته الملكية، مراعاة للتقاليد والمشاعر الشعبية، إلا أن الرجل لم يبتلع الطعم، ولم يهادن سلطة الاحتلال، بل انحاز إلى جانب حركة التحرير الوطني المغربية، والتي كان عمادها حزب الاستقلال، وزعيمه علال الفاسي. وهو ما أدى بفرنسا إلى عزل محمد الخامس، وتنصيب بدلاً منه شخصية أخرى موالية لفرنسا، وإن كان من نفس الأسرة المالكة. وكما أدى نفي سعد زغلول ورفاقه إلى ثورة شعبية عارمة في مصر عام 1919، فإن عزل محمد الخامس أشعل انتفاضة شعبية مغربية مماثلة، في أوائل خمسينات القرن الماضي. وهو ما أجبر سلطات الاحتلال إلى التراجع وإعادة محمد الخامس ملكاً للمغرب. وقد أضفى ذلك على العاهل المغربي صفة إضافية، وهي راعي الحركة الوطنية المغربية في مواجهة الاستعمار الفرنسي. وأجبرت فرنسا في النهاية على التسليم باستقلال المغرب في منتصف خمسينيات القرن الماضي. واستمر محمد الخامس، ملكاً وزعيماً وطنياً، وأميراً للمؤمنين، وتضاعفت شعبيته مغربياً وعربياً وإفريقياً. وبدأ يمد جسور التعاون مع مصر الثورية الناصرية، ومع حركات التحرير الإفريقية الأخرى، وفي مقدمتها الثورة الجزائرية الناشئة، حيث فتح لمقاتليها حدود بلاده، وسمح بتأسيس معسكرات للتدريب والإيواء، وهو ما أثار عليه حنق فرنسا، فشنت قواتها في الجزائر سلسلة من الغارات الحدودية، كما أنها اختطفت طائرة مغربية كانت تحمل سبعة من قيادات الثورة الجزائرية في طريقهم إلى مقر حكومتهم المؤقتة في القاهرة. وجاء محمد الخامس إلى مصر في زيارة تاريخية، شارك فيها عام 1960 في تدشين مشروع السد العالي.
ومن مآثر محمد الخامس، حرصه بعد استقلال بلاده على أن يؤسس لملكية دستورية. ولكن بوفاته بداية ستينات القرن الماضي وتولي ابنه الحسن الثاني، تعثر مشروع الملكية الدستورية لما يقرب من ربع قرن. فقد اختار الحسن الثاني أسلوباً تدخلياً مباشراً في شئون الحكم والسلطة التنفيذية، وهو ما أثار عليه ثائرة عديد من القوى الشعبية. ورد هو بإجراءات قمعية طالت الآلاف. ففر الكثيرين إلى الخارج وعاشوا في المنفى حوالي ثلاثة عقود، حدثت خلالها محاولات انقلابية دموية، وانتفاضات شعبية. كما قامت المخابرات المغربية بملاحقة وتصفية أقطاب المعارضة في الداخل والخارج، وكان ضمنهم المناضل المغربي الشهير المهدي بن بركة، الذي اغتيل في فرنسا في نهاية الستينات. لقد حاول الحسن الثاني. إحياء تقاليد الدولة المخزنية، حيث السلطة المطلقة. فكان رد الفعل هو نمو “بلاد السيبه”، لا في البادية، كما كان الحال قبل قرون، ولكن في ضواحي المدن المليونية المغربية (الدار البيضاء، والرباط، وفاس، وطنجة، ومراكش، ومكناس). وفقط في سنواته الخمس الأخيرة، قبل أن يرحل عن العالم، حاول الحسن الثاني مصالحة القوى السياسية المغربية، ودعوة قياداتها بالخارج إلى العودة للوطن.
وحينما اعتلى ابنه محمد السادس عرش المغرب، حرص أن يكون جده محمد الخامس، وليس والده الحسن الثاني، هو القدوة والمثال الذي يحتذى. وقد أكسبه ذلك شعبية مشهودة، بل وحصل حزبان مواليان للقصر تماماً على ما يربو على ثمانين مقعداً في الانتخابات الأخيرة (7/9/2007) وجاءا في المركزين الثالث والرابع. أي أن “المخزن” أعاد تأكيد نفسه بأسلوب أكثر سلاسة وقبولاً. فهنيئاً للمغرب بديمقراطيته المتنامية، وبملكيته الدستورية المتجددة.
ورمضان كريم
saadeddinibrahim@gmail.com