لم يعن تدهور علاقات سورية مع القوى الغربية في أية لحظة ثورة سورية على نموذج «الدولة الخارجية» الذي استقرت عليه منذ أيام الأسد الأب، الدولة التي هي الركيزة الأساس لتدويل المنطقة وفشلها المتمادي في التقدم الحضاري والتنمية الاقتصادية والتحول الديموقراطي. والجوهري في الدولة الخارجية أو الدولة المتوجهة نحو الخارج أن المجتمع المحكوم مجرد ركيزة لسلطة، معنية أولا وأساسا بدوامها، دون أن يكون للركيزة هذه دور ذاتي ودون أن تكون فاعلا سياسيا. تقوم الدول الخارجية على إقالة محكوميها من السياسة والرأي والمبادرة المستقلة، وكفالة دوام هذه الإقالة كشرط لدوام ولايتها ذاتها. وبهذه الصفة ليست الدولة هذه غير ديموقراطية فقط وإنما يمتنع تحويلها ديموقراطيا دون تحويل وجهها ومركزها نحو الداخل. مركز الدولة هذه يقع في جهاز الدولة المتوجه نحو «الخارج»، الغرب أساسا. هذا ثابت بنيوي، لا يطعن فيه خصومة إيديولوجية أو توتر سياسي أو أزمة دبلوماسية قد تعرض بين وقت وآخر.
في مثل هذا الشرط علاقة جيدة مع الغرب أفضل من علاقة سيئة معه، وأفضل من علاقة جيدة مع غير الغرب، إيران مثلا. ليس أفضل لأن علاقات عادية أو طيبة مع الغرب قد تنعكس انفراجا سياسيا داخليا أو تحسنا على مستوى حقوق الإنسان؛ فلا يعدو التعويل على هذا أن يصلّب الوضع الذي يجعل الانفراج السياسي والحقوقي أكثر امتناعا، أعني وضع الدولة الخارجية ذاته. هو أفضل بالأحرى لأن نظاما مسترخيا في البلاد أقل خطرا من نظام متشنج قلق، ولأن سورية جيدة العلاقة مع الغرب قد تستفيد من تدفقات تكنولوجية واستثمارية ربما تكون لها مفاعيل محرضة للنمو الاقتصادي.
على أن خياراتنا الوطنية لا تنحصر بين علاقة جيدة أو سيئة مع الغرب، إلا إذا رفضنا إدراج شرط الدولة الخارجية في النقاش العام، سواء بأن اعتبرناها معطى نهائيا، أو اكتفينا بمعلنها الإيديولوجي، «السوبر وطني» دوما، فبذلنا لها ولاء غير متحفظ أو متحفظ قليلا فحسب. وإلا فإن الخيار الذي يمكن صوغ سياسة وطنية متسقة حوله هو تغيير النموذج ذاته. وهذا بالطبع ليس شأن النظام أو نخبة الدولة الخارجية، ولا هو شأن «المفكرين القوميين» الذين انعقد لهم مؤخرا مؤتمرا في دمشق لـ»تجديد الفكر القومي».
على أية حال لم تكف السلطات السورية عن محاولة تحسين العلاقات مع القوى الغربية، توقياً لأخطار بدا لبعض الوقت أنها تهدد وجود النظام ذاته، لكن أيضا لأن الدولة الخارجية «تشتاق» غريزيا إلى «الخارج» على نحو ما «تشتاق» إبرة البوصلة إلى الشمال المغنطيسي. ويتملكها شعور باليتم والاكتئاب واللاأمن إن انفصلت عنه لسبب ما. ونرجح منذ الآن أن الحصيلة المجملة لنحو أربع سنوات من تأزم العلاقات السورية الغربية هي المزيد من ترسيخ شرط الدولة الخارجية أو المتوجهة إلى الخارج. ومرة أخرى ينبغي التمييز بين هذا الشرط البنيوي وبين حسن العلاقات أو سوئها مع الغرب. فلا سوء العلاقات عنى في أي يوم قطيعة مع نموذج الدولة والسياسة هذا، ولا حسنها هو الذي أنشأ هذا النموذج. على أن تناوب الحسن والسوء يرسخ الدولة الخارجية ويسد آفاق التطور السياسي بحصرها بين بديلين مختلفين ظاهريا وإيديولوجيا، لكنهما سيان في العمق.
قد يخيب هذا الكلام توقعات إيديولوجيين سوريين وعربا لطالما تعلقوا بحبال الريح وجعلوا من تدهور العلاقات مع الغرب برهانا على ممانعة ومقاومة وقومية…، أو أملوا أن يتجه النظام إلى الانفتاح على الداخل ما دامت أبواب الخارج قد أغلقت. لكنه يخيب أيضا توقعات إيديولوجيين آخرين يتجاذبهم الاستياء من تحسن العلاقات مع الغرب لأنه يعني تمكين النظام، والرجاء بأن يفضي هذا التحسن إلى انفراج داخلي. لا هذا ولا ذاك ولا ذلك. لا الضغط الخارجي يمكن أن يفضي إلى توجه الدولة الخارجية نحو الداخل الاجتماعي السوري، ولا حتى إلى سياسة ممانعة متسقة؛ ولا هو من جهة أخرى يندرج أو يقبل إدراجا في مسار يقود إلى تغيير حاسم في هياكل الدولة الخارجية، أساس التبعية السياسية. ومن جهة أخرى لا يعني تحسن العلاقات مع الغرب «خيانة» من طرف نخبة الدولة الخارجية أو تخليا منها عن إيديولوجيا الممانعة، كما لن يفضي (إلا عرضا) إلى انفراج داخلي أو إلى تشدد داخلي. المشكلة ليست في السياسات المتبدلة بل في البنى الأطول أمدا، وليست في الخارج بل في نموذج الدولة الخارجية التي تطلب الخارج الغربي (القوي الغني) وتدمن عليه. لا يغير من ذلك إيديولوجية الممانعة أو العداء للخارج والغرب، فوظيفتها تقنيع أو تحجيب شرط الدولة البنيوي كدولة متوجهة نحو الخارج. ولا تخرج عن ذلك أيضا وظيفة التخوين النشط، تضطلع به نخبة الدولة الخارجية أو تتركه لوكلاء إيديولوجيين لها.
ليست الدولة الخارجية هي الدولة «المنفصلة عن المجتمع» أو المفروضة عليه من خارجه. قد تكون بالأحرى منقوصة التشكل الدولتي والاستقلال عن المجتمع بسبب قوة تأثير المحدد الأهلي على طبعها ومزاجها وتوجهاتها. وقد تكون الصفة الأهلية لنخب الدولة الخارجية، وما يحتمل أن يقترن بها من هشاشة في الشرعية، عنصرا محفزا ودافعا إلى بناء نموذج الدولة الخارجية التي تغلق الداخل الاجتماعي أو تحجر عليه سياسيا، وتعرف نفسها بلعبها في عالم الدول. ويفترض بالوطنية الفائقة أن تخفي صفتي الدولة الأهلية والخارجية في آن معا.
ويساعد مفهوم الدولة الخارجية في فهم أفضل لمسألة الدور الإقليمي. فهذا الدور مرهون بتفاهم عريض بين «الخارج» والدولة الخارجية، تنال بموجبه هذه الأخيرة ولاية واسعة الصلاحية في تشكيل محيطها من جهة، وتنقل خطوط الدفاع عن ذاتها وتأمين حكم نخبتها إلى خارج الركيزة الداخلية الأصلية من جهة أخرى. فطالما ثمة ولاية إقليمية مكفولة فالدولة الخارجية آمنة ومطمئنة، حتى إذا ضعفت الولاية تلك أصيبت الدولة الخارجية بأزمة عاطفية واحتد شعورها بالخطر وفقدان الأمن.
إعادة بناء الدولة والسياسة في بلداننا حول الداخل الاجتماعي بدل بقائها مشدودة إلى «الخارج» الغربي، ترتاح له أو تغضب منه، هو ما قد نجمله تحت عنوان التحول نحو الدولة الداخلية. ولدينا في هذا الصدد جدول أعمال حافل: التنمية الاقتصادية، محاربة الفقر والبطالة والتهميش، إصلاح التعليم والتربية، إصلاح المؤسسات والهياكل السياسة، الإصلاح القانوني، العمل على تطوير هوية وطنية جامعة والحد من النزعات الطائفية، ضبط العلاقة بين السلطتين السياسية والدينية، وغير ذلك كثير. لا بديل عن هذا التوجه إن كنا نروم التحرر السياسي والنفسي من هاجس الغرب. فلن يتسنى لسياستنا أن تستقل عن الغرب دون أن تستقل بحيز ذاتي لها. ولا يمكن لهذا إلا أن يكون الداخل الاجتماعي المهمش. فهنا، كما في أي شان آخر (علاقة الدين والدولة مثلا)، الاستقلال عن (الغرب…) متعذر دون الاستقلال بـ («ملعب» سياسي داخلي…). وفرصة استقلالنا عن الغرب تزدادا بقدر ما نغدو أكثر شبها بنيويا به؛ وبالعكس يخدم نموذج الدولة الخارجية، المدمن على الغرب وعلى التعريض بالغرب دوما، إبقاءنا مجتمعات قاصرة ولا سياسية، وغير مستقلة.
في السنوات الأخيرة، التالية لاحتلال العراق، فقدت الدعوة الديموقراطية الكثير من سمعتها وشرعيتها. وبعد أن كانت نظم الحكم العربية في وضع دفاعي فكريا وأخلاقيا استعادت زمام المبادرة وسلكت الدرب القديم ذاته: المشاركة مع القوى الغربية من أجل الاستمرار في عزل مجتمعاتها والتحكم بها. فالدولة الخارجية لا تضل أبدا سبيلها إلى… «الخارج».
قد ينقضي وقت قبل أن يتحرر الديموقراطيون السوريون والعرب من الكارثة التي ألحقتها السياسة الأميركية واحتلال العراق بقضية الديموقراطية. ولعل من شأن مفهوم «الدولة الخارجية» أن يكون أداة مساعدة في إعادة بناء تفكير الديموقراطيين وسياستهم.
الحياة
4 تعليقات
الدولة الخارجية وغريزتها السياسية
النظام السوري المخابراتي المافياوي متهم تشويه ـ سمعة البلاد في الخارج”، و “تقويض الأمن القومي”، و “التخابر مع جهات أجنبية” وقتل السجناء وتدمير مدن السورية وقتل الابرياء والسجناء السياسيين وصناعة الفتن ونشر الفساد وشق الصف الوطني…” ومنه فان المحكمة الجنائية ستحكم على عناصر النظام الاعدام على الاقل
الدولة الخارجية وغريزتها السياسية
http://www.youtube.com/watch?v=VqOV6FBaBt4&feature=related
الدولة الخارجية وغريزتها السياسية
http://www.youtube.com/watch?v=VqOV6FBaBt4&feature=related
الدولة الخارجية وغريزتها السياسية
يفتح المواطن العربي عينيه على الحياة وهو في المعتقل. فقبل أن يأخذ الثانوية العامة يجب أن يحظى بزيارة فرع أمني ويتلقى كفاً أو كفين فهذا أدعى لحسن التربية والانضباط الحسن وإجباره على كتابة التقارير ولو في حق أمه التي أرضعته. ويموت المواطن وعمره تسعون عاماً يحمل على النعش وبحقه قرار أمني بعدم مغادرة الوطن. وفي مطارات الوطن أدراج شاهقة مثل الأهرامات الصغيرة غاصة بأسماء عشرات الآلاف من المطلوبين والممنوعين من السفر ولو في درجة القرابة سبعة ولأكثر من جهاز أمني. وبين المهد واللحد يجب أن يكون أي مواطن معتقلا مرة أو مرات. أو يعرف في جواره من اعتقل وأهين، أو سمع عمن اعتقل فكسرت عظامه وأسنانه فخرج يمشي على بطنه مثل الزواحف، أو من نام في أقبية المخابرات عشرين سنة فخرج أقرب للجنون، أو شدخ رأسه بحجر فمات في سجن صحراوي. أو يعرف من مات في غرف تعذيب الهولوكوست العربية أو مرض كواشركور منتفخ البطن بنقص البروتين مثل الحامل في الشهر الثامن. أو صديق له رميت جثته أمام زوجته بعد أن جف مثل الحطبة فلم تعرفه إلا من شامة في وجنته. أو من أخذ شاباً لا أحد يعرف السبب بمن فيه المعتقل نفسه فلم ير أمه وأولاده إلا بعد ضغط منظمات حقوق الإنسان من الخارج وبعد ربع قرن من الزمن ولزيارة واحدة. أو من حشر في زنزانة ضيقة يضرب بالفلق كل يوم مرتين بالعشي والإشراق لفترة ستة أشهر محروم من الطعام إلا كسرة خبز في 24 ساعة فيتبرز مثل البعير بعرا. أو تجرأ فزار من خرج من أفران الاعتقالات ليفاجأ بمنظر إنسان وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا. وكل من زاره أحصي عددا وسجل في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ووجدوا ما عملوا حاضرا في كل تحقيق بما فيه نوع الحليب الذي رضعه وهو في المهد صبيا هل كان سيميلاك أو سيريلاك؟ وفي أي نادي كان يمارس الرياضة فكلها معلومات ثمينة للتبادل الأمني في المستقبل ولو مع إسرائيل وأمريكا بدعوى الإرهاب. مراقب في أي مكالمة أو اتصال ولو كانت في البريد الإلكتروني بأدق الآلات وأغلاها في بلد يموت فقرا وتوظيف الناس برواتب سخية لتتنصت المكالمات وتسجيل الاختراقات. ولا يسمى من يمارس العمل جاسوسا بل مراقبا أمنيا. وليس هناك من مواطن إلا أو طلب للتحقيق ولو كانت عجوزا مقوسة الظهر تسعين درجة، أو طفلاً لم يحسن النطق بعد. أو بنتاً ناهداً تعرفت على الحياة ببراءة الورد. فلعل العجوز مرتبطة بالاستخبارات العالمية تنقل أخبار الوطن. ويبقى الطفل ينطق بالحقيقة ولم يعرف الكذب بعد، فهو أدعى لطلب الحضور ولو أصيب بالصدمة النفسية كل حياته. وتجر الفتاة إلى الفروع الأمنية ولو كلف هذا أن تنظر للحياة بتشاؤم بقية عمرها لأن أخاها طلب الرزق في بلاد يسودها الظلام معظم العام. فلعله يتآمر على النظام من هناك. ويبقى استتباب الأمن فوق كل اعتبار. إنها روائع أمنية لسمفونيات الأجهزة الأمنية في العالم العربي. في وطن تحول إلى سجن كبير بدون قضبان، فيه الكل يعتقل الكل. والكل خائف من الكل. والكل خائف من الاعتقال، يراه عن اليمين والشمائل في المنام ويقرأه في عيون الناس جميعاً. وكل بناية في الوطن يمكن أن تتحول إلى سفينة أمنية عامرة بالزوار في بطنها. ويسألون لماذا يفر المواطن العربي من سفينة غارقة؟ في عام 1960 كانت فروع الأمن محدودة العدد قليلة المجندين لا يزيد حجمها عن بناية صغيرة. وخلال أربعين سنة نمت الفروع الأمنية بأشد من سرطان القتامين، وارتفع عددها فأصبحت أكثر من أبواب جهنم السبعة، فمنها للخارجي وآخر للداخلي وثالث للعسكري ورابع لأمن الدولة وخامس للأمن السياسي وسادس لفلسطين وسابع للحرس الجمهوري وثامن للقوى الجوية وتاسع للأمن العام …وآخر من شكله أزواج. منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك. هذا ما كان على السطح يدعو لارتجاف مفاصل المواطن حينما يطلب لفرع أمني فلا يعرف في أي دولة يرسو مصيره. ولا يجرؤ أحد في السؤال عنه. بعد أن كبر حجم كل فرع بمقدار ديناصور لاحم وبميزانية دولة. أما ما خفي من الأجهزة فلا يعلمها إلا الله والراسخون في المخابرات وقد يكشف أمره بعد قرن من الآن. فأهم شيء هو استباب الأمن. ولو تحول الوطن إلى هدوء المقابر. فتسمع حفيف الريح فوق الأجداث. ويمشي في المقبرة حارس واحد وحفار قبور وجثث تتوافد وقبور تبلع. والمشكلة في هذه الأجهزة الأمنية أنها تشبه قبائل البدو بثلاث فوارق: فشيخ القبيلة الأمنية يلبس نظارة إيطالية ويزركش صدره بربطة عنق أمريكية وتحته سيارة مرسيدس ألمانية ويحمل في يده سلكاً كهربيا صينياً للضرب واللسع بالكهرباء. وثانياً أن من يدخل في جوار شيخ القبيلة لا أمان له ولو كتب له الشيخ كتاب أمان. مع أنه دخل خيمته، لأن مضارب القبيلة غير مرتبطة بالجغرافيا. وكل الوطن هو مضرب قبيلة أي شيخ وقبيلة. فقد يقع المواطن في قبضة شيخ هذيل مع أنه في أرض الدوسي لأن (معلم) قبيلة (الأمن العسكري) يمكن أن تطال يده كل مضارب القبائل في كل الوطن. وهو قانون ساري المفعول لكل شيوخ القبائل في كرم حاتمي على حساب مواطن مستباح. وكل مواطن عرضة للاعتقال في أي لحظة على يد أي فرد من أي قبيلة في أي أرض في أي زمان ومكان. إنها تركيبة عبقرية كما نرى مما يجعل الجامعات الكندية تدرس هذا النموذج الفذ كعبقرية عربية في ضبط الشعوب. فيطلب أي (معلم) أمني لمواجهة رئيس السحرة في أي ساعة من الفجر للإجابة على ملف أي مواطن. ولا يدخل على الطاغية أكثر من جنرال فقد يتفق الثلاثة إذا جمعته مقابلة أن يعتقلوا الرئيس. فما الفارق بين جنرال وجنرال طالما كان السلاح هو الحكم على رواية أبو ليث الصفار. فهذا الرجل اجتمع حوله العيارون والحرافيش والزعر فزحف باتجاه بغداد للاستيلاء على الخلافة فذكره بعض الناس بعهد الخليفة فالتفت لمن حوله ثم طلب من أحد الأوغاد من حوله أن يحضر (عهد الخليفة) فجاء الشقي بعد هنيهة وهو يحمل سيفا ملفوفاً بخرقة. فاستل أبو ليث الصفار السيف ثم لوَّح به فوق رؤوس الناس ثم زعق هذا هو عهد الخليفة وهذا السيف أجلس الخليفة على كرسي الخلافة في بغداد وهذا السيف جعل من الرقيع خليفة المسلمين فعهدي وعهد الخليفة واحد فصاح الأشقياء بصوت واحد بالروح بالدم نفديك يا أبو الجماجم؟ والفارق الثالث أن هذه القبائل الأمنية في حالة حرب دائمة فلا تعرف الأشهر الحرم بل السبق الأمني، ولا حرمة كعبة وقبلة، بل الكل يتنافس في اعتلاء ظهر مواطن لم يعد فيه مكان للركوب. والنتيجة التي تتولد من نمو هذه السرطانات في الأمة أنها تصبح أجهزة رعب يجب فكها قبل أن تنفك رقبة الأمة والدولة والحاكم في أعلى الهرم كما جاء في كتاب نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، حينما أرسلت الأجهزة الأمنية في روسيا زوجة مولوتوف وزير الخارجية المحنك في الزمن الستاليني إلى معسكرات الاعتقال. ومات شنقا وحرقا وغرقا وبالرصاص على يد (بيريا) رئيس ال k.g.b الاستخبارات الروسية في تطهيرات عام 1938 م ما يزيد عن 600 ألف من أفضل مواطني الاتحاد السوفيتي، بحيث هيأ للهزيمة الساحقة أمام زحف القوات النازية عام 1940م. فلم يبق مواطن يدافع عن الوطن بل ستالين والعصابة. واليوم بلغت الدول العربية من الهشاشة الداخلية ما قد ترحب بأي هجوم خارجي يوحي إليها أنه جاء لتخليصها من الطغيان. وما حصل في العراق في ربيع 2003م كان يجب أن يحصل. وعندما تحوم النسور الأمريكية فلأن جيفة ميتة فاحت رائحتها عند بابل وأوروك. واليوم كما تقول مجلة در شبيجل الألمانية أن الوضع تحول في بعض الدول ليس أن فيها مافيات بل كل الدولة مافيا. وإذا حدثت الكوارث الاقتصادية أو دفن النفايات النووية أو حلت بها الهزائم العسكرية في الوقت الذي تتبجح بالانتصارات أو انهدمت السدود فوق رؤوس الناس يأشد من سيل العرم، فكلها تحصيل حاصل وأمر طبيعي أمام استفحال سرطان تنينات الأجهزة الأمنية. والمفارقة في تركيبة الأجهزة الأمنية ثلاث: أولاً يظن الحاكم أن خلاصه بالإغداق لها وعليها. وهي كما يقول المثل العربي سمن كلبك يأكلك. ومقتل القياصرة جاء من ضباط الحرس الإمبراطوري. وعلى يد أقرب الناس وأخلصهم منهم. لأن العلاقة تقوم على القوة فمن كان أشد قوة وضع يده على العرش. وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟ والمفارقة الثانية في وضع الأجهزة الأمنية أنها تمسك الناس بالرعب، وهي مرعوبة أكثر من الناس في جمهوريات الخوف. وهدمها سهل كما تنهدم السدود بشق بسيط. ولكن أين الخبير الذي يفجر سد الخوف هذا فيتحرر الناس من ضغط أطنان المياه؟ وكان الله على كل شيء مقتدرا. كان أستاذ المدارس سابقاً يحرص على ضبط الصف بالعصا بدون ضرب أحد أو ضرب أضعفهم بحيث يدخل الرعب لكل الصف فيلجم الطلبة بالرعب. ويعمد مروض الأسود في السيرك إلى التلويح بالسوط أو قرقعته في الجو بدون إيذاء الحيوان الضاري. ويلعب المصارع الأسباني بالثور الهائج بخرقةحمراء. وتضبط الأجهزة الأمنية الناس بالرعب وباعتقال أقل عدد من الناس وتجميد البشر في مربع الخوف, كما تفعل الأفعى مع الفريسة. فكلها أساليب نفسية لضبط الحيوان والثور والجمهور. وهذا هو وضع العالم العربي. كما كان جن نبي الله سليمان ماضون في خدمة جثة لا تضر ولا تنفع حتى دلهم على موتها دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبين الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. والمفارقة الثالثة أن حماية شخص يحتاج إلى فرق حراسة شخصية ولكن حماية الحاكم من كل الشعب تحتاج جيش كامل من فرق الحرس والجواسيس والإعلاميين وأجهزة تحقيق وتعذيب ومكاتب إعلامية وإذاعات وشراء أصدقاء في الخارج والداخل… إنها كما نرى ميزانية لا نهاية لها لدول لا يجد المواطن فيها الخبز. وهي المشكلة التي تعاني منها ميزانيات الفقراء في العالم الثالث بالذات لأنها محنة تعيش بين الفقراء وحدهم كما تعيش البراغيث في فرو الثعلب المسكين. وهذه شهادة أن العدل أرخص من الظلم لو كانوا يعلمون. وفك هذا السحر يحتاج إلى كيمياء خاصة من ثلاث عناصر تمزج بشكل جيد لفك حزام الرعب. أولاً تدريب الشباب على المقاومة المدنية فليس أسهل من إطلاق الأجهزة الأمنية بدعوى الأمن عندما تندلع أعمال العنف. ثانياً ممارسة العمل العلني وتوريط النظام في أكبر عدد ممكن من المعتقلين، وتفجير السجن من داخله، لأن النظام لا يمكن أن يعتقل عشر الأمة ولا نصفها ولا ثلثها. وهو بالتوسع في قاعدة الاعتقال يوفر المناخ لمناقشات حرة في السجن تمهد الطريق لاستنبات بذور العمل الديموقراطي في المستقبل والقيادات التي أنضجتها نار المحنة. وثالثاً أن تكون المحنة ضمن التحدي الملائم. وفي كثير من الأقطار العربية طحنت المعارضة بسبب أعمال العنف فلم تأت المحنة ضمن المدى المجدي والوسط الذهبي. والأجهزة الأمنية تتمنى أن تقوم المعارضة بنفس الحماقة ليبقى وجودها مبررا ومكاسبها عامرة إلى يوم الدين. وتسبح الأمة في بحر الظلمات بدون خارطة وبوصلة تسمع دمدمة جن الأجهزة الأمنية فترتعش فرقا حتى حين.