لم يعن تدهور علاقات سورية مع القوى الغربية في أية لحظة ثورة سورية على نموذج «الدولة الخارجية» الذي استقرت عليه منذ أيام الأسد الأب، الدولة التي هي الركيزة الأساس لتدويل المنطقة وفشلها المتمادي في التقدم الحضاري والتنمية الاقتصادية والتحول الديموقراطي. والجوهري في الدولة الخارجية أو الدولة المتوجهة نحو الخارج أن المجتمع المحكوم مجرد ركيزة لسلطة، معنية أولا وأساسا بدوامها، دون أن يكون للركيزة هذه دور ذاتي ودون أن تكون فاعلا سياسيا. تقوم الدول الخارجية على إقالة محكوميها من السياسة والرأي والمبادرة المستقلة، وكفالة دوام هذه الإقالة كشرط لدوام ولايتها ذاتها. وبهذه الصفة ليست الدولة هذه غير ديموقراطية فقط وإنما يمتنع تحويلها ديموقراطيا دون تحويل وجهها ومركزها نحو الداخل. مركز الدولة هذه يقع في جهاز الدولة المتوجه نحو «الخارج»، الغرب أساسا. هذا ثابت بنيوي، لا يطعن فيه خصومة إيديولوجية أو توتر سياسي أو أزمة دبلوماسية قد تعرض بين وقت وآخر.
في مثل هذا الشرط علاقة جيدة مع الغرب أفضل من علاقة سيئة معه، وأفضل من علاقة جيدة مع غير الغرب، إيران مثلا. ليس أفضل لأن علاقات عادية أو طيبة مع الغرب قد تنعكس انفراجا سياسيا داخليا أو تحسنا على مستوى حقوق الإنسان؛ فلا يعدو التعويل على هذا أن يصلّب الوضع الذي يجعل الانفراج السياسي والحقوقي أكثر امتناعا، أعني وضع الدولة الخارجية ذاته. هو أفضل بالأحرى لأن نظاما مسترخيا في البلاد أقل خطرا من نظام متشنج قلق، ولأن سورية جيدة العلاقة مع الغرب قد تستفيد من تدفقات تكنولوجية واستثمارية ربما تكون لها مفاعيل محرضة للنمو الاقتصادي.
على أن خياراتنا الوطنية لا تنحصر بين علاقة جيدة أو سيئة مع الغرب، إلا إذا رفضنا إدراج شرط الدولة الخارجية في النقاش العام، سواء بأن اعتبرناها معطى نهائيا، أو اكتفينا بمعلنها الإيديولوجي، «السوبر وطني» دوما، فبذلنا لها ولاء غير متحفظ أو متحفظ قليلا فحسب. وإلا فإن الخيار الذي يمكن صوغ سياسة وطنية متسقة حوله هو تغيير النموذج ذاته. وهذا بالطبع ليس شأن النظام أو نخبة الدولة الخارجية، ولا هو شأن «المفكرين القوميين» الذين انعقد لهم مؤخرا مؤتمرا في دمشق لـ»تجديد الفكر القومي».
على أية حال لم تكف السلطات السورية عن محاولة تحسين العلاقات مع القوى الغربية، توقياً لأخطار بدا لبعض الوقت أنها تهدد وجود النظام ذاته، لكن أيضا لأن الدولة الخارجية «تشتاق» غريزيا إلى «الخارج» على نحو ما «تشتاق» إبرة البوصلة إلى الشمال المغنطيسي. ويتملكها شعور باليتم والاكتئاب واللاأمن إن انفصلت عنه لسبب ما. ونرجح منذ الآن أن الحصيلة المجملة لنحو أربع سنوات من تأزم العلاقات السورية الغربية هي المزيد من ترسيخ شرط الدولة الخارجية أو المتوجهة إلى الخارج. ومرة أخرى ينبغي التمييز بين هذا الشرط البنيوي وبين حسن العلاقات أو سوئها مع الغرب. فلا سوء العلاقات عنى في أي يوم قطيعة مع نموذج الدولة والسياسة هذا، ولا حسنها هو الذي أنشأ هذا النموذج. على أن تناوب الحسن والسوء يرسخ الدولة الخارجية ويسد آفاق التطور السياسي بحصرها بين بديلين مختلفين ظاهريا وإيديولوجيا، لكنهما سيان في العمق.
قد يخيب هذا الكلام توقعات إيديولوجيين سوريين وعربا لطالما تعلقوا بحبال الريح وجعلوا من تدهور العلاقات مع الغرب برهانا على ممانعة ومقاومة وقومية…، أو أملوا أن يتجه النظام إلى الانفتاح على الداخل ما دامت أبواب الخارج قد أغلقت. لكنه يخيب أيضا توقعات إيديولوجيين آخرين يتجاذبهم الاستياء من تحسن العلاقات مع الغرب لأنه يعني تمكين النظام، والرجاء بأن يفضي هذا التحسن إلى انفراج داخلي. لا هذا ولا ذاك ولا ذلك. لا الضغط الخارجي يمكن أن يفضي إلى توجه الدولة الخارجية نحو الداخل الاجتماعي السوري، ولا حتى إلى سياسة ممانعة متسقة؛ ولا هو من جهة أخرى يندرج أو يقبل إدراجا في مسار يقود إلى تغيير حاسم في هياكل الدولة الخارجية، أساس التبعية السياسية. ومن جهة أخرى لا يعني تحسن العلاقات مع الغرب «خيانة» من طرف نخبة الدولة الخارجية أو تخليا منها عن إيديولوجيا الممانعة، كما لن يفضي (إلا عرضا) إلى انفراج داخلي أو إلى تشدد داخلي. المشكلة ليست في السياسات المتبدلة بل في البنى الأطول أمدا، وليست في الخارج بل في نموذج الدولة الخارجية التي تطلب الخارج الغربي (القوي الغني) وتدمن عليه. لا يغير من ذلك إيديولوجية الممانعة أو العداء للخارج والغرب، فوظيفتها تقنيع أو تحجيب شرط الدولة البنيوي كدولة متوجهة نحو الخارج. ولا تخرج عن ذلك أيضا وظيفة التخوين النشط، تضطلع به نخبة الدولة الخارجية أو تتركه لوكلاء إيديولوجيين لها.
ليست الدولة الخارجية هي الدولة «المنفصلة عن المجتمع» أو المفروضة عليه من خارجه. قد تكون بالأحرى منقوصة التشكل الدولتي والاستقلال عن المجتمع بسبب قوة تأثير المحدد الأهلي على طبعها ومزاجها وتوجهاتها. وقد تكون الصفة الأهلية لنخب الدولة الخارجية، وما يحتمل أن يقترن بها من هشاشة في الشرعية، عنصرا محفزا ودافعا إلى بناء نموذج الدولة الخارجية التي تغلق الداخل الاجتماعي أو تحجر عليه سياسيا، وتعرف نفسها بلعبها في عالم الدول. ويفترض بالوطنية الفائقة أن تخفي صفتي الدولة الأهلية والخارجية في آن معا.
ويساعد مفهوم الدولة الخارجية في فهم أفضل لمسألة الدور الإقليمي. فهذا الدور مرهون بتفاهم عريض بين «الخارج» والدولة الخارجية، تنال بموجبه هذه الأخيرة ولاية واسعة الصلاحية في تشكيل محيطها من جهة، وتنقل خطوط الدفاع عن ذاتها وتأمين حكم نخبتها إلى خارج الركيزة الداخلية الأصلية من جهة أخرى. فطالما ثمة ولاية إقليمية مكفولة فالدولة الخارجية آمنة ومطمئنة، حتى إذا ضعفت الولاية تلك أصيبت الدولة الخارجية بأزمة عاطفية واحتد شعورها بالخطر وفقدان الأمن.
إعادة بناء الدولة والسياسة في بلداننا حول الداخل الاجتماعي بدل بقائها مشدودة إلى «الخارج» الغربي، ترتاح له أو تغضب منه، هو ما قد نجمله تحت عنوان التحول نحو الدولة الداخلية. ولدينا في هذا الصدد جدول أعمال حافل: التنمية الاقتصادية، محاربة الفقر والبطالة والتهميش، إصلاح التعليم والتربية، إصلاح المؤسسات والهياكل السياسة، الإصلاح القانوني، العمل على تطوير هوية وطنية جامعة والحد من النزعات الطائفية، ضبط العلاقة بين السلطتين السياسية والدينية، وغير ذلك كثير. لا بديل عن هذا التوجه إن كنا نروم التحرر السياسي والنفسي من هاجس الغرب. فلن يتسنى لسياستنا أن تستقل عن الغرب دون أن تستقل بحيز ذاتي لها. ولا يمكن لهذا إلا أن يكون الداخل الاجتماعي المهمش. فهنا، كما في أي شان آخر (علاقة الدين والدولة مثلا)، الاستقلال عن (الغرب…) متعذر دون الاستقلال بـ («ملعب» سياسي داخلي…). وفرصة استقلالنا عن الغرب تزدادا بقدر ما نغدو أكثر شبها بنيويا به؛ وبالعكس يخدم نموذج الدولة الخارجية، المدمن على الغرب وعلى التعريض بالغرب دوما، إبقاءنا مجتمعات قاصرة ولا سياسية، وغير مستقلة.
في السنوات الأخيرة، التالية لاحتلال العراق، فقدت الدعوة الديموقراطية الكثير من سمعتها وشرعيتها. وبعد أن كانت نظم الحكم العربية في وضع دفاعي فكريا وأخلاقيا استعادت زمام المبادرة وسلكت الدرب القديم ذاته: المشاركة مع القوى الغربية من أجل الاستمرار في عزل مجتمعاتها والتحكم بها. فالدولة الخارجية لا تضل أبدا سبيلها إلى… «الخارج».
قد ينقضي وقت قبل أن يتحرر الديموقراطيون السوريون والعرب من الكارثة التي ألحقتها السياسة الأميركية واحتلال العراق بقضية الديموقراطية. ولعل من شأن مفهوم «الدولة الخارجية» أن يكون أداة مساعدة في إعادة بناء تفكير الديموقراطيين وسياستهم.
الحياة
الدولة الخارجية وغريزتها السياسية
النظام السوري المخابراتي المافياوي متهم تشويه ـ سمعة البلاد في الخارج”، و “تقويض الأمن القومي”، و “التخابر مع جهات أجنبية” وقتل السجناء وتدمير مدن السورية وقتل الابرياء والسجناء السياسيين وصناعة الفتن ونشر الفساد وشق الصف الوطني…” ومنه فان المحكمة الجنائية ستحكم على عناصر النظام الاعدام على الاقل
الدولة الخارجية وغريزتها السياسية
http://www.youtube.com/watch?v=VqOV6FBaBt4&feature=related
الدولة الخارجية وغريزتها السياسية
http://www.youtube.com/watch?v=VqOV6FBaBt4&feature=related
الدولة الخارجية وغريزتها السياسية يفتح المواطن العربي عينيه على الحياة وهو في المعتقل. فقبل أن يأخذ الثانوية العامة يجب أن يحظى بزيارة فرع أمني ويتلقى كفاً أو كفين فهذا أدعى لحسن التربية والانضباط الحسن وإجباره على كتابة التقارير ولو في حق أمه التي أرضعته. ويموت المواطن وعمره تسعون عاماً يحمل على النعش وبحقه قرار أمني بعدم مغادرة الوطن. وفي مطارات الوطن أدراج شاهقة مثل الأهرامات الصغيرة غاصة بأسماء عشرات الآلاف من المطلوبين والممنوعين من السفر ولو في درجة القرابة سبعة ولأكثر من جهاز أمني. وبين المهد واللحد يجب أن يكون أي مواطن معتقلا مرة أو مرات. أو يعرف في جواره… قراءة المزيد ..