حسن فحص – الشفاف خاص
زيارة وزير الداخلية الإيرانية اللواء صادق محصولي الى مملكة البحرين بالامس حاملا رسالة من الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد الى الملك حمد بن عيسى ال خليفة يؤكد فيها حرص إيران على بناء علاقات مميزة مع البحرين واحترام سيادتها ورفض الاستغلال الاقليمي لبعض التصريحات غير المسؤولة لمسؤولين إيرانيين؛ وقبلها الزيارة التي قام بها نائب احمدي نجاد مسؤول مؤسسة السياحة والتراث رحيم اسفنديار مشائي الى واشنطن قبل تولي باراك اوباما مهماته الرئاسية واستمرت اسبوعين فشل خلالها بعقد اي لقاء مع فريق الرئيس الامريكي الجديد؛ وبعدها الزيارة التي قام بها مجتبى هاشمي ثمره كبير مستشاري احمدي نجاد الى العاصمة البريطانية والتسريبات التي رافقتها عن عقد لقاء فاشل بينه وبين مسؤولين في ادارة اوباما عبّر خلالها عن استعداد إيران للتعاون الجاد مع الادارة الجديدة في اطار صفقة تحاول طهران وضع مفرداتها.
كل ذلك مؤشرات تدفع على طرح سؤال جاد واساسي حول موقع ودور الدبلوماسية الإيرانية بقيادة وزارة الخارجية ورئيسها المفترض منوتشهر متكي الذي هبط على احمدي نجاد من خارج السياق الذي خطط له عند تشكيل حكومته لاول مرة، خصوصا وان متكي كان محسوبا على الجناح المقرب من علي لاريجاني رئيس البرلمان الحالي، وشغل منصب مدير حملته للانتخابات الرئاسية عام 2005 التي نافس فيها احمدي نجاد. وقد حاول احمدي نجاد لاحقا التخلص من هذه التركة في حكومته مرارا الا ان ضغوطا مورست من مراكز القرار وقفت حائلا دون تحقيق هذه الرغبة التي بقيت تقاوم حتى شهر كانون الثاني عام 2008 واجبرت متكي على كتابة استقالته. الا ان تزامنها مع استقالة لاريجاني من منصب سكرتير المجلس الاعلى للامن القومي وتسريب الخبر عبر وسائل اعلام عربية حال دون تحقيق احمدي نجاد لهذه الرغبة.
وقد تزامنت مساعي الاستراتيجية الإيرانية الى خلق تمايز بين السياسات الاوروبية والسياسات الامريكية تجاه إيران لتخفيف ضغوط الاخيرة عليها، واستعدادها لتقديم ما امكن من امتيازات للعواصم الاوروبية في اطار تحقيق هذا الهدف، مع رغبة احمدي نجاد في الاشراف المباشر على جميع الملفات الإيرانية المهمة خصوصا الملف النووي والحوار مع الدول الاوروبية، واستعداد الاخير للمواجهة مع اي جناح من ابناء الصف الواحد في الداخل للتأثير على هذه الرغبة او التفكير بالمشاركة بإيفاء دور فاعل في اطارها.
محاولات احمدي نجاد لحصر كل الملفات في دائرته الخاصة والمقربة وتكليفهم بالحوار المباشر مع بعض الاطراف الدولية خصوصا في ما يتعلق بالملف النووي على حساب الاستراتيجية التي كان يقودها لاريجاني، دفعت الاخير للاستقالة من مجلس الامن القومي، ودفعت وزير الخارجية متكي للتلويح بالاستقالة خلال اجتماع لمجلس وزراء قرر فيه احمدي نجاد ايفاد كبير مستشاريه الى العاصمة الفرنسية باريس بداية عهد الرئيس نيكولا ساركوزي لعقد صفقة مع الفرنسيين حول الملف النووي والوضع اللبناني واستبعاد الخارجية عن الامر.
التباين والاختلاف داخل مراكز القرار الإيراني، المحافظ بالتحديد، وصل حدا وضع المصالح الاستراتيجية الإيرانية على حافة الخطر، خاصة في موضوعي الملف النووي والعلاقات الإيرانية العربية. وقد تفاقمت هذه الازمة مع شعور احمدي نجاد ان القيادة العليا للنظام قد وضعت مسألة الحوار حول هذه الامور بعيدا عنه، وبالتحديد عند سكرتير مجلس الامن القومي لاريجاني من دون المرور به كونه رئيسا لهذا المجلس. ما دفعه للتحرك دفاعا عن صلاحياته الدستورية، فارضا على القيادة العليا الموافقة على استبعاد لاريجاني من موقعه خلافا لقناعاتها.
استحواذ احمدي نجاد على مفاصل القرار في ما يتعلق بالتعامل مع الملف النووي والعلاقة مع الخارج مهّد الطريق امام مزيد من التصعيد الدولي المترافق مع عدد من القرارات الصادرة عن مجلس الامن الدولي التي تفرض مزيدا من العقوبات الاقتصادية على إيران، اضافة الى تراجع العلاقات الإيرانية مع دول الجوار خصوصا الدول العربية الخليجية وبالتحديد السعودية الى ادنى مستوياتها حيث وصلت الى درجة غير مسبوقة في تردّيها وهدمت كل ما حاول تأسيسه وبناءه الرئيسان السابقان هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي وآخرون في النظام الإيراني من ثقة وانفتاح.
ويبدو انه إثر مراجعة قامت بها القيادة العليا في إيران للآثار السلبية التي سببها استئثار احمدي نجاد بهذه الملفات، جاء انتخاب علي لاريجاني كرئيس للبرلمان الإيراني بهدف خلق نوع من التوازن بين مراكز القرار، خصوصا مقابل رئاسة الجمهورية، على ان يتحول الى وجه إيران الدبلوماسي في التعاطي مع الخارجي، لكن في اطار الاستراتيجية العامة المرسومة للنظام من قبل المرشد الاعلى. اضافة الى ضابط للايقاع في السياسات الداخلية خصوصا الاقتصادية، والتخفيف من حدة الاضرار التي تسببها سياسات الرئيس الشعبوية غير المدروسة.
والتطور اللافت ان هذه القيادة اختارت لاريجاني لتمثيل النظام في محافل دولية من المفترض ان تشارك فيها مؤسسات الرئاسة، كالحوار العلني وغير العلني مع الجانب الامريكي حول العراق وملتقى دافوس الاقتصادي ولقاء ميونخ ولقاء البحرين للامن. ومن المقرر ايضا ان يمثل لاريجاني إيران في لقاء الدول الثمانية الصناعية في ايطاليا في حال قررت هذه الدول دعوة إيران للمشاركة والتباحث حول الموضوع الافغاني.
من هنا يمكن التوقف عند التحرك الذي قام به البرلمان الإيراني باستجواب وزير الخارجية منوشهر متكي، بعد احساس الاول بغياب استراتيجية هذه الوزارة للحوار وبناء علاقات مع الخارج، وانها لا تبذل أي جهد او تحرك لترميم نتائج بعض التصرفات والمواقف المتشددة التي تصدر من داخل إيران فيما يتعلق ببعض العلاقات مع الخارج، خصوصا الجوار العربي. ما دفع للاعتقاد بان الدبلوماسية الإيرانية اختارت العزلة والابتعاد عن لعب دور مؤثر في مرحلة يبدو فيها الغرب، اوروبا وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية قد حملا لواء “الحوار والتواصل” مع الاخر حتى المختلف، في ظل غياب خطة عمل إيرانية واضحة للتعاطي مع هذا التغيير، خصوصا فيما يتعلق بتعميق العلاقات الإيرانية الأوروبية في اطار الاستراتيجية والسياسية التقليدية التي كانت تنتهجها إيران في خلق مسافة بين أوروبا وأميركا.
الخارجية الإيرانية تبدو شبه مشلولة، أو كالذي استسلم للمستقبل الغامض وجلس ينتظر ما قد يحدث. في حين أن لا أحد يساوره الشك بما ينتظر إيران من مستقبل محفوف بالخطر في ظل الأجواء الغامضة وتزايد الضغوط الاقتصادية والسياسية، الامر الذي يستدعي من قيادات النظام البحث عن مسارب جديدة لتحالفات دولية تساعد على التخفيف أو التقليل من الضغوط المنتظرة. خصوصا وان رياح وأصوات التغيير والانزعاج في الموقف الروسي من إيران الذي بدأ يعيد حساباته بناء على مصالحه الاستراتيجية في شرق أوروبا ووسط آسيا والقوقاز وأنابيب الغاز لأوروبا الغربية بدأت تصل إلى مسامع الإيرانيين. بالإضافة إلى أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية ستزيد من الضغوط على إيران وحلفائها في المنطقة وستنعكس سلبا على النهج الأمريكي المرن في الظاهر نسبيا في التعاطي مع الملفات الإقليمية.
وفي ظل إصرار التيار المحافظ الإيراني للاحتفاظ بمقاليد السلطة في مواجهة التيار الإصلاحي الذي يرفع شعار “التدبير بدل التغيير” مع مرشحه الأبرز محمد خاتمي، تواجه إيران أسئلة مصيرية حول كيفية ترميم علاقاتها المتدهورة مع الدول الأوروبية والعربية، وحتما لن تكون من ضمن باقة المعلومات التي قد يرسلها القمر الصناعي الإيراني “أميد” من الفضاء. وهذه الأسئلة تدور حول، من هو الذي سيرسم سياسات إيران الدولية الجديدة وماذا يخططون للمستقبل، هل هو مجلس الأمن القومي أم وزارة الخارجية أم سترسم في مكان آخر من قبل أشخاص آخرين أم أنها ستعتمد على الغيب…؟
فهل ستكون الاستراتيجية الإيرانية على غرار الرد الذي صدر عن احمدي نجاد بعد الإشارات الإيجابية من إدارة اوباما تجاه إيران والمطالبة باعتذار عن الأخطاء التاريخية الأميركية خصوصا مع حركة محمد مصدق عام 1952، في حين أن الإدارة الديموقراطية زمن بيل كلينتون وعلى لسان رئيسة دبلوماسيته مادلين اولبرايت قد اعتذرت عن هذا التدخل السلبي لكن طهران في المقابل لم تتلقف هذه المبادرة في حينه؟
أم سيكون الرد على غرار ما صدر من وزير الخارجية متكي بالمطالبة بإطلاق سراح دبلوماسيي قنصلية اربيل الأسرى المعتقلين في العراق؟ وعلى فرض أن الإدارة الأميركية الجديدة لبت هذه المطالب الإيرانية، إلا أن السؤال يبقى، ما هو البرنامج الإيراني المستقبلي للرد على هذه التطورات؟
ثم ان لجوء احمدي نجاد إلى إيفاد وزير داخليته ذي التاريخ العسكري، بدلا من رئيس الدبلوماسية، يحمل على الاعتقاد بان الإدارة الإيرانية ما تزال عند موقفها في قضية البحرين، وان رمزية وزير الداخلية تعني أن الجانب الإيراني يحاول القول بشكل غير مباشر أن الأزمة مع البحرين لا تتعدى كونها خلافا بين المركز وإحدى المحافظات وان الأمور وصلت حدا من التأزم باتت تستدعي تدخل وزير الداخلية مباشرة.
أمام كل هذه الأسئلة والتحديات التي تواجهها وتنتظرها إيران، يبدو أن عليها إعادة النظر في سياساتها وتعاطيها مع المجتمع الدولي، خصوصا محيطها العربي، وان تعيد محاولات فتح أبواب الحوار وترميم وتصحيح علاقاتها المتدهورة مع هذه الدول، وان تعيد الدبلوماسية الإيرانية النظر في تحركاتها نحو بعض العواصم، وان تضع في حسبانها أنها دولة شرق أوسطية وان الحل لا يمكن أن يأتي فقط من دمشق واربيل وبغداد أو وسط إفريقيا أو أمريكا اللاتينية، بل من خلال إعادة مد جسور الثقة والحوار من جديد مع الرياض والقاهرة والاعتراف بالأوزان التاريخية لهذه العواصم ودورها في المنطقة، لتكون معبرا لاعادة فتح أبواب العواصم الأوروبية ومن وراءها العاصمة الأميركية.
hassanfahs@hotmail.com