مقدمة أولى :
لا يمكن بلورة مشروع لبناني حقيقي أو خيار وطني استقلالي يخرج من إطار الغلبة والاستقواء ومن الارتهان للتدخلات الخارجية ، من دون الأخذ بالاعتبار موقع لبنان الاستراتيجي وبيئته الجيوسياسية الى جانب التشكل السوسيوتاريخي للمجتمع اللبناني بطوائفه ومذاهبه وتياراته وعصبياته ، ولمصالح وهواجس الطوائف كما لحقوق افراده المواطنين الاحرار في دولة مدنية. والتحدي أمامنا جميعاً هو اجتراح تلك الصيغة السحرية التي توفق بين الاتصال والانفصال (كاظم الصلح-عادل عسيران-بشارة الخوري-رياض الصلح-صبري حمادة-)، بين الاستقلال اللبناني والانتماء العربي (ميثاق 1943-اتفاق الطائف 1989)، بين امكانات لبنان وضرورات الموقف العربي (نظرية الحياد الايجابي)، بين حقوق الطوائف وحقوق الافراد (موسى الصدر وكمال جنبلاط ومحمد مهدي شمس الدين)، بين التوافقية الميثاقية والممارسة الديموقراطية الدستورية…والأمر يبدأ بفهم واقعي للمؤثرات الداخلية والخارجية التي منعت وتمنع حتى اليوم تجسيد الكيان اللبناني في دولة حرة سيدة مستقلة ، هي وحدها الضمانة لوجود مؤسسة عسكرية أمنية وطنية موحدة قوية وقادرة..وأحزاب سياسية وطنية لا طائفية فاعلة…
1= لا يختلف اثنان حول العلاقة الجدلية ما بين الاستقلال والسيادة من جهة والسلم الاهلي والوحدة الوطنية من جهة ثانية….ولا يختلف اثنان على ان الاستقواء بالخارج كان مشروع غلبة في الداخل ، كما ان الغلبة في الداخل كانت وما زالت تستجر حتماً التدخل الخارجي..فالعلاقة بين المؤثرات الداخلية والخارجية التي تمنع قيام كيان وطني ومؤسسة عسكرية أمنية وطنية، هي علاقة تفاعل وارتباط متبادل وعنوانها العام دور العصبيات العشائرية-الطائفية كقوى نابذة على صعيد الوطن وكقوى مفككة على صعيد المؤسسة الوطنيات واولها القوى العسكرية-الامنية والاحزاب السياسية..
2= عبر تاريخ لبنان، لعبت العصبيات العشائرية والتضامن الطائفي دور التيارات النابذة (forces centrifuges) بحيث أدت الصراعات بين الداخل العربي-الاسلامي والخارج الغربي- المسيحي الى قيام حواجز نفسية منعت التحام سكان الجبل بالسواحل والسهول الداخلية، بالرغم من الوحدة الثقافية-اللغوية-العرقية التي تجمعهم في البوتقة الحضارية العربية…
3= استقرار قواعد توزيع السكان والطوائف في القرن الثالث عشر-الرابع عشر(حملات المماليك على جبيل وكسروان والشمال)،بعد التحولات الاموية فالعباسية،أرسى تفكك المناطق اللبنانية وانعدام الوحدة السياسية والوطنية برغم سيادة اللغة العربية وعلاقات القرابة العربية.. العصبيات العشائرية الطائفية كانت قوى عسكرية حزبية في الوقت نفسه…
4= النظام الاقطاعي الفدرالي شبه المستقل ذاتياً والذي قام عليه الحكم العثماني للبنان، أدى الى ظهور التيارات الجاذبة (forces centripètes) التي ساعدت على بلورة الشعور الوطني اللبناني لاحقاً…. حيث يبدو أن فترة الامارة في الجبل عرفت وئاماً طائفياً واختلاطاً سكانياً جغرافياً واقتصادياً ، على قاعدة وجود ادارة سياسية-عسكرية مشتركة خلقت قواسم وطنية مشتركة..
5= كما ان العصبيات الحزبية القيسية- اليمنية كانت دمجت زعماء الطوائف في تيارات وجماعات سياسية مشتركة متجاوزة للطوائف..وهي حزبيات حاربت ضد بعضها البعض بغض النظر عن الانتماء الديني الطائفي..فهنا ايضاً قاعدة لوحدة صف متجاوزة للطوائف كانت في أساس العصبية اليزبكية- الجنبلاطية ثم الانقسام الدستوري- الكتلوي في المراحل اللاحقة…..
6= نظام الامتيازات العثماني للدول الاوروبية ،و نظام الملل العثماني في الادارة الداخلية لشوؤن الطوائف،ضاعف من سيطرة وسطوة الزعامات الدينية والعائلية على طوائفها وعشائرها.. وبذا فإن التيارات النابذة والتيارات الجاذبة كانت تتصارع على أرضية التوازنات الخارجية بين السلطنة العثمانية ودول اوروبا.. خاصة وان الدخول الغربي الاقتصادي- الاجتماعي والثقافي- التربوي ، فاقم من التفاوتات بين المناطق والطوائف اللبنانية..
7= انهيار نظام الامارة واندلاع النزاع الطائفي الاول(1840) ثم الثاني(1860) ارتبط بتوازنات الصراعات الاوروبية حول الرجل المريض (الدولة العثمانية)…وببحث الطائفتين المارونية والدرزية عن دعم خارجي للاستقواء به في الداخل دفاعاً عن ميزان قوى قائم او لتعديله.. فالمثال القوي على الصلة ما بين الاستقواء بالخارج والغلبة في الداخل تقدمه حالة الموارنة والدروز في الفتنتين الاولى والثانية..حيث أدى الصراع الدولي للسيطرة على المنطقة الى صراع بين الاقطاعيين اللبنانيين على السلطة المحلية، على قاعدة استشعار الموارنة بقوتهم المستجدة للتخلص من الاقطاع الدرزي والحكم العثماني وبتشجيع اوروبي مماثل لتشجيعهم الحركات القومية المسيحية في البلقان..الأمر الذي حدا بالموارنة الى طلب الدعم الفرنسي، وبالدروز الى طلب الدعم الانكليزي..
8= نظام القائمقاميتين ونظام المتصرفية كانا نتيجة حرب اهلية داخلية من جهة، وتدخلات دولية خارجية من جهة ثانية، أنتجت توازنات جديدة في علاقة الدولة العثمانية والدول الاوروبية (ازدياد النفوذ الاجنبي،مقتضيات التوفيق بين مصالح وسياسات الدول الغربية المتصارعة،وبينها وبين الدولة العثمانية)، كما في علاقات الطوائف اللبنانية وميزان القوى بينها…
9= الفكرة اللبنانية (والتيار القومي اللبناني) انطلقت من الوجود الماروني المستقل(والرافض لصيغة الحكم الاسلامي)،والكنيسة كانت هي العمود الفقري لتلك الفكرة والجسم الذي تجسدت فيه قبل قيام دولة تكرسها..هذه الحزبية – العسكرية كانت الاساس الايديولوجي والتنظيمي لليمين المسيحي في المرحلة اللاحقة..
10=التيار الاسلامي العام كان عثمانياً يرفض انهيار الدولة او تمزيقها وتقسيمها..وهو تجسد في الزعامات السنية في المدن كما في زعامات القبائل والعشائر والطوائف الملتحقة بالسلطة المركزية والمستفيدة منها. وهذه الحزبية- العسكرية المرتبطة بالدولة كانت الاساس الايديولوجي للتيارات الاسلامية والقومية اللاحقة…
11= التيار القومي السوري-العربي (تدعمه فرنسا وبريطانيا كل لمصلحتها في بسط نفوذها على المشرق) نما وتطور على قاعدة حقوق الاقليات،وخوف تلك الاقليات من تياري اللبننة الماروني والعثمنة الاسلامي..وذلك في مرحلة ما قبل سقوط الدولة العثمانية..
خلاصة اولى:
في اساس تبلور التيارات والقوى اللبنانية نجد سياسات التدخل الاجنبي في دعم استقلال الاقليات عن الدولة العثمانية.. ووراثة تركة الرجل المريض.. ونموذج اليونان والبلقان كان المثال يومذاك.. فيكون الاستقواء بالخارج اساساً لغلبة داخلية.. كما نجد الاستقواء بالدولة العثمانية كاساس لاستمرار الغلبة المقابلة … وقد انعكس ذلك بالطبع وبالضرورة على واقع ودور التشكيلات الامنية والعسكرية كما التكتلات الحزبية السياسية…
مقدمة ثانية:
الاحزاب الحديثة لم تخرج عن نطاق العصبيات التقليدية بغض النظر عن النجاحات المحدودة التي أحرزتها بعض هذه الاحزاب في عملية التوليف الهجين بين الحزب (كتعبير ايديولوجي-سياسي، طبقي أو قومي، حديث) وبين الحزبية (أو الغَرَضية) كتمثيل لمصالح عصبية تقليدية.. ولم تعرف منطقتنا الاحزاب الايديولوجية المركزية الحديثة الا في الفترة الفاصلة ما بين الحربين الكونيتين (من سقوط الدولة العثمانية وانتصار البلشفية في روسيا الى صعود الفاشية والنازية والستالينية في اوروبا: الشيوعي والقومي السوري ،كما الكتائب وغيرها).وفي الفترة التي تلت الحرب الثانية كان انشاء دولة اسرائيل ونكبة العرب في فلسطين و الانقلابات العسكرية التي تلتها، قاعدة تبلور الأحزاب القومية العصرية (البعث بأجنحته المتكسرة، القوميون العرب،..).
12= تدرجت وتطورت التشكيلات العصرية أو الحديثة من المستوى البسيط (الجمعيات والنوادي والحلقات الفكرية) الى مستواها المعقد والمركب في المرحلة المعاصرة… وكانت الجمعية العلمية السورية أول حلقة فكرية في هذا الاتجاه (بيروت 1847-1852) وشكل المسيحيون نواتها وعصبها..ثم تأسست جمعيات وحلقات ونواد في طرابلس وبيروت ودمشق ضمت عرباً وغير عرب (أتراك خصوصاً) واتصلت كلها برجال ومبادئ تركيا الفتاة وبدور أكيد وكبير للماسونية ..وفي حين كانت الجمعيات المرتكزة الى مثقفين بورجوازيين مسيحيين متشربين بالافكار الاوروبية تطالب بالانفصال عن الاتراك منذ العام 1880 (جمعية بيروت السرية) ثم تجتمع في باريس عام 1905 وصياغة موقف انفصالي بتعابير ومفاهيم اوروبية(وهذا امر مفهوم طبعاً بالنظر للعلاقات الاقتصادية والتجارية والتربوية و الثقافية مع اوروبا منذ القرن السادس عشر) فإن وجهاء المسلمين كانوا يطالبون بالاصلاح وبالحفاظ على الدولة العثمانية..
13= أدى الانقلاب الدستوري في تركيا في عام 1908 (الانقلاب العثماني الاتحادي) الى تسريع نشوء حركات وجمعيات سياسية كثيرة أبرزها جمعية الاخاء العربي، وجمعية العهد، والعربية الفتاة والجمعية القحطانية والمنتدى الادبي وصولاً الى حزب اللامركزية العثمانية…وكلها كانت تطالب بالاصلاح واللامركزية ضمن اطار السلطنة العثمانية…ثم ابتدأت اللقاءات بين النخب العربية تعقد على وقع الانهيار المتسارع للسلطنة والتدخل المتزايد لاوروبا في شؤونها وتقرير مصائرها.. وفي أساس الحزبية الجديدة نخب كانت ترى في الوضع الدولي الناشئ عن ضعف وتمزق الدولة العثمانية قاعدة لعمل “استقلالي” لامركزي او انفصالي عن الدولة المنهارة ولتأسيس كيانات جديدة تحقق طموحاتها واماني مواطنيها العرب ، خصوصاً في بلاد الشام.. . وهكذا كان المؤتمر العربي الاول بباريس(حزيران 1913) المحطة التي تبلورت فيها حزبية لبنانية جديدة جمعت التيار اللبناني المسيحي بالتيار القومي السوري-العربي(مسلمين ومسيحيين) على قاعدة العداء للتتريك..
14= بعد الحرب العالمية الاولى افترقت هذه التيارات بفعل عوامل داخلية وخارجية: المسلمون دعوا الى وطن سوري مستقل كمقدمة لبعث الوجود العربي (وآية ذلك حكومة فيصل في دمشق 1918-1920 ثم المؤتمرات السورية-العربية المتكررة)..فيما أيد الموارنة اقامة كيان وطني لبناني مستقل يضمن حقوقهم ويحمي وجودهم في المنطقة..وسار الاورثوذكس والكاثوليك نحو قومية سورية-عربية أكثر تحديداً..ولم يكن للاقليات الاسلامية الشيعية والعلوية أي حضور سياسي او حزبي ..كما أنه صار الحديث يومها عن وطن قومي مسيحي في لبنان على غرار الوطن القومي اليهودي في فلسطين…
15= بعد قيام دولة لبنان الكبير (1920) تفاقمت التناقضات القديمة(الطائفية السياسية والتدخلات الخارجية وأهمها الحرب الباردة الفرنسية-البريطانية (1920-1936).. ودفعت التيارين الى الصدامات… وبسبب ذلك لم يحصل لقاء وطني لبناني على معنى لبنان ودوره ولا حتى على وجوده..مؤتمرات المسلمين كانت تطالب بالوحدة السورية والعربية..وعرائض ومواقف المسيحيين كانت تطالب بالكيان اللبناني في ظل الانتداب الانتداب….
16= المعاهدة السورية-الفرنسية(9 ايلول 1936)ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939)، فالدخول البريطاني الى لبنان والمشرق (1941) ساهمت في دفع اللبنانيين الى ايجاد تسوية داخلية وصيغة تأليف طائفية ووطنية (الميثاق الوطني ثم معركة الاستقلال 1943)…وقد كتب بشارة الخوري في مذكراته (حقائق لبنانية-الجزء الثاني-بيروت 1961-ص199) انه “ابتداء من العام 1936 تغيّر وجه لبنان السياسي وسرت في البلاد روح جديدة….نشوء فريق يطالب بالاستقلال وانهاء الانتداب وبالتعاون مع الدول العربية…”.
17= في العام 1936 انعقد مؤتمر الساحل يطالب بالسيادة الوطنية (اي زوال الانتداب) في إطار الوحدة السورية كمرحلة الى الوحدة العربية،وبالتوزيع العادل للوظائف العامة بين مختلف الطوائف..بالمقابل أكد الرئيس اميل اده على الروابط مع فرنسا وبضرورة حمايتها للمسيحيين من المحيط العربي-الاسلامي..تأسست الكتلة الوطنية على هذا الموقف القومي-اللبناني المتحالف مع الخارج …في حين تكتلت مجموعة حزبية-سياسية حول الشيخ بشارة الخوري(الكتلة الدستورية) على اساس السعي للانفتاح على المسلمين اللبنانيين وعلى العرب.. اتفاق الرئيس بشارة الخوري مع الزعماء السوريين والعرب هو الذي سهّل انتخابه رئيساً للجمهورية العام 1943 ووصول رياض الصلح الى رئاسة الحكومة (ناهيك عن الدور البريطاني الأكيد)..
18= رياض الصلح في مؤتمر دمشق (1928) طرح مقولته الشهيرة: “أنا افضّل أن أعيش في كوخ داخل وطن لبناني من أن أعيش مستعمراً في امبراطورية عربية”… كاظم الصلح طرح في مؤتمر الساحل (1936) مقولته عن لبنان “بين الاتصال والانفصال”…هذان الموقفان اسسا للتطور الاسلامي السني باتجاه اللبننة… لم يكن صعباً على الشيعة أن يكونوا لبنانيين نظراً لحرمانهم واضطهادهم خلال العهود المملوكية والعثمانية.. ..[في عددها الصادر يوم 21-10- 1936ذكرت جريدة لسان الحال أن وفداً شيعياً كبيراً زار المندوب السامي الفرنسي ورئيس الجمهورية اللبنانية يتقدمه السيد عبد الحسين شرف الدين شدد على التمسك باستقلال لبنان الكبير ورفض الانضمام إلى سوريا… وأعلن السيد شرف الدين أن الحركة الإنفصالية بين الشيعة قد توقفت وأن كل الشيعة قد التحقوا بالوحدة الإقليمية للبنان الكبير]…
19= العام 1936 شهد ايضاً ولادة أحزاب النجادة والكتائب والقومي السوري..وتطور عمل الحزب الشيوعي(المولود عام 1924) مع وصول الجبهة الشعبية اليسارية الى الحكم في فرنسا وسياسة ستالين في اقامة جبهات وطنية مع البورجوازية…يلاحظ هنا تطور تيار لبناني استلم قيادة الحزب القومي السوري خلال غياب انطون سعادة في المهجر..وهو تيار قام سعاده بتصفيته بعد عودته الى لبنان عام 1947..
20= حزب الكتائب هو الجناح الشعبي المناضل للمسيحية اللبنانية وحزب الدفاع عن الكيان اللبناني (الماروني المسيحي تحديداً) في وجه المنظمات والدعوات العقائدية غير اللبنانية (القومي السوري تأسس أولاً عام 1932 ثم انحل وعاد عام 1936)..القومية اللبنانية هي ايديولوجية الكتائب الوطنية المتعارضة مع السورية والعروبية ولكن المنفتحة على التعاون مع العالم العربي ومع المسلمين اللبنانيين..النجادة هي الجناح الشعبي المناضل للاسلام السياسي اللبناني الداعي لاستقلال لبنان وعروبته في الآن معاً (الاتصال والانفصال)..اتفق الحزبان في معركة الاستقلال الى حد الاندماج لفترة من الوقت..
21= الحزب القومي السوري لم يضع حلاً لمشكلة لبنان بين الاتصال والانفصال،بين السيادة والوحدة،بل اهتم بمسالة بعث الامة السورية ووحدتها واستقلالها..فاصطدم منذ البداية باللبنانيين والعروبيين على السواء..النزعة القومية السورية وجدت هوى لدى الاورثوذوكس، الاقلية في الكيان اللبناني كما في الكيان العربي الاوسع..في حين أن الوزن العددي والاقتصادي والثقافي في سوريا الكبرى يعطيهم قوة وسطوة أكبر..فكيف اذا اضيفت قبرص نجمة الهلال الخصيب؟..النزعة السورية تجاوزت الكيان اللبناني لتقويضه من الخارج (التحالف مع حسني الزعيم1949- مع الهاشميين والانكليز في الخمسينيات، وحتى الانقلاب الفاشل آخر عام 1961،مع الثورة الفلسطينية 1969 (جناح انعام رعد-عبدالله سعادة)، مع البعث السوري منذ العام 1975-جناح أسعد حردان وقد صار هو الحزب).لا يمكن فهم تمدد وانتشار الحزب (أو ضعفه وتقلصه) خارج إطار الارتباط بمركز السلطة والقوة،منذ عودة سعادة من المهجر وطرده لكل الهراطقة..وبعد مرحلة الارتباط العاطفي بفكرة سوريا الموحدة التي استمرت مفاعيلها فقط في المهجر، صار الارتباط بالسلطة والقوة هو عامل تقدم الحزب وتراجعه..
22= الحزب الشيوعي نشأ عبر التقاء مكونات طليعية : مصرية (فؤاد الشمالي) وفرنسية (يوسف ابراهيم يزبك) ويهودية (سوفياتية وفلسطينية).. على قاعدة عمالية هي أساساً مسيحية (في بيروت وضواحيها وبلدات المتن الشمالي وزحلة وجوارها)….. والصراعات داخل الحزب في الفترة الاولى عكست هذه المكونات الى حين سيطرة البكداشية السورية-السوفياتية منذ العام 1936 وحتى العام 1968 (المؤتمر الثاني للحزب الذي انتصر فيه جورج حاوي-كريم مروة وتيار الشباب وخرج فيه جناح صوايا صوايا- حسن قريطم والجناح المسمى التيار اللينيني وهو كان الأكثر ارتباطاً بالمخابرات الروسية)..ولم يؤد ذلك الى خروج البكداشية النهائي، اذ استمرت قوتها في الحزب الى اليوم … القاعدة الرئيسة للحزب صارت اورثوذوكسية بدءاً من عام 1945 (انتصار الاتحاد السوفياتي على النازية)..ازداد الوزن الشيعي بعد العام 1954 (تحالف عبد الناصر مع السوفيات،حرب السويس، ثم الثورة في العراق ولبنان 1958)..والصراعات اليوم داخل الحزب فيها من التلاوين الاورثوذوكسية-الشيعية-السنية ما يدهش اليساري العلماني المطمئن..وذلك على وقع التدخلات الخارجية من نوع جديد…
23= تركيز الشيوعيين على الصراع الطبقي (ضد السلم الاجتماعي) لم يسمح لهم بمقاربة موضوع الاستقلال والسيادة خارج اطار صراع الطبقات ومقولة حركات التحرر الوطني الملتزمة طريق الاشتراكية والجبهة العالمية المتحالفة مع السوفيات والداعمة للانظمة التقدمية(مصر،سوريا،العراق،عدن،الخ..).. كما أن قيام القومي السوري على العداء للكيان اللبناني منع تطوره الى حزب لبناني حقيقي وربطه بالتطورات الاقليمية الخارجية وبموقعه من السلطة والقوة في الخارج والداخل..
24= الارتباط الاعمى بالسوفيات كان هو محور حياة الحزب الشيوعي بغض النظر عن المواقف الوطنية والثورية والاستقلالية التي كان منبعها الاصلي الوقوف في جبهة واحدة مع الاتحاد السوفياتي في وجه اعدائه في الحرب ضد الاستعمار والامبريالية (قضية الميراج كمثال)..والوقوف تالياً مع الثورة الفلسطينية بعد اعلان التزامها بالحلف السوفياتي-العربي (1974 هو تاريخ هذا التطور).. في حين فقد الحزب القومي كل عناصره السنية في طرابلس مثلاً (كما صيدا وبيروت وكل سوريا وفلسطين والاردن والمخيمات في الشتات الفلسطيني) بنتيجة الارتباط باعداء عبد الناصر والبعث من حلف بغداد والهاشميين والانكليز..ولم يستعد بعض الحضور الجماهيري في لبنان الا في أتون الحرب الأهلية والتعبئة العسكرية لها..
25= مرحلة 1968-1975 هي مرحلة الارتباط بالقضية الفلسطينية وبالحراك الاجتماعي اليساري الذي عاشه لبنان والذي أسهم في نشوء اليسار الجديد وبانضمام قطاعات واسعة من الشباب والطلاب الى اليسار في المدارس والجامعات..ولكن العقل اليساري والشيوعي كان عقلاً صراعياً يركز على الانقسام الى يمين ويسار ، ويربط ذلك بالوضع الدولي مستمداً منه القوة والعزم ، فلا يمكن فهم اي انتصار يساري في لبنان خارج المعادلة الاقليمية-الدولية..ناهيك عن الالتحاق اللاحق بالمنظمات الفلسطينية..كما ان قيادات القومي السوري انتهجت نفس السياسة اليسارية الفلسطينية بعد الخروج من السجن ومؤتمر ملكارت(1969)..
26= حزب البعث وحركة القوميين العرب هما في الاساس حزبان قوميان يتخطيان الكيان اللبناني ويرتبطان بالسياسات العربية الخارجية (سوريا والعراق بالنسبة للاول ومصر بالنسبة للثاني)..وبرغم تأسيسهما على أيدي عرب أورثوذوكس الا انهما لم يخرجا عن اطار العصبيات التقليدية : تحول البعث السوري الى علوي-أسدي والبعث العراقي الى سني-تكريتي..وحركة القوميين العرب انهارت وانتهت بعد أن كانت تمثل السنة في بيروت وطرابلس وصيدا وصور وبعلبك..ثم ورثتها الجماعات الناصرية في تلك المدن وهي كلها ذات قاعدة سنية انتهت الى البحث عن ارتباط بديل عن مصر وجدته في حركة فتح او ليبيا وصولاً أخيراً الى سوريا…
27= أما الاحزاب والقوى التي خرجت من أحشاء البعث والقوميين العرب فهي كانت محكومة من الاساس بهذه المفارقة القومية العابرة للوطن..حزب البعث اليساري أو حزب العمال العربي الثوري أو حزب العمل العربي الاشتراكي وحزب العمل الثوري ورابطة الشغيلة ، أو منظمة العمل الشيوعي، أو المنظمة الشيوعية العربية أو ..الخ… كلها حملت تسمية العربي او العربية، وصِفة “في لبنان” وليس اللبناني أو اللبنانية..(يسجل للحزب الشيوعي حمله صفة “اللبناني” وليس “في لبنان” وهذا ناتج عن اساس التشكل الشيوعي بالارتباط بالمركز الاممي وليس عن وعي وارادة شيوعية لبنانية وطنية…فالحزب كان أساساً حزباً أممياً: ليس للعمال وطن‘ ويتبع الكومنترن).. والحال أن مسار كل اليسار انتهى الى الالتحاق الكامل بالثورة الفلسطينية بدءاً من عام 1974….
28= الحزب التقدمي الاشتراكي هو مثال ساطع على التحام الانتماء الطائفي (الدرزية) بعقيدة علمانية تقدمية اشتراكية..وتمفصل ذلك على سياقات التوازنات الخارجية بين العرب والغرب ،وبينهم وبين موسكو …ولا يحتاج الامر الى مزيد شرح.. انما المهم هنا ملاحظة مسعى كمال جنبلاط الدائم الى التوفيق ما بين اللبنانية والعروبة، وما بين العلمانية والطوائفية..
29= أحزاب اليمين الاخرى (الأحرار والكتلة) هي أحزاب كيانية لبنانية مسيحية مرتبطة بزعامة عائلية محددة (شمعون،إده) برغم وجود نخب مدينية مختلفة في قواعدها وقيادتها..هذا في حين لم تستمر أحزاب الشيعة التقليدية (النهضة والطلائع) لغلبة الطابع الريفي العائلي عليها… وكان لا بد من انتظار مجيء الامام السيد موسى الصدر لقيام تشكيلات حزبية سياسية شيعية (أمل ثم حزب الله)..
30= الصراعات الحزبية – الطائفية على معنى لبنان ودوره استمرت وتصاعدت على وتيرة الصراعات الخارجية… فكان لبنان ملعباً وساحة بكل معنى الكلمة برغم وجود تيار وطني وحدوي قوي. الصراع العربي – العربي(محاوره كانت مصر والسعودية وسوريا والعراق والاردن) محمولاً على الحرب الباردة في الخمسينيات (وبعد نشوء الكيان الصهيوني وقيام الانقلابات العسكرية) ضرب صيغة الميثاق الوطني وأدى الى أزمة 1958..التي انتهت بتسوية اساسها اتفاق أميركي- مصري ورمزها لقاء الخيمة الشهير بين الرئيسين ناصر وشهاب….
31= النموذج الشهابي استند الى وضع دولي اقليمي ملائم سمح ببناء نواة دولة حديثة وقوى عسكرية أمنية موحدة..الا انه انهار تحت وطاة الصراعات الدولية والاقليمية منذ وصول البعث الى السلطة في العراق وسوريا (1963)..حتى المؤسسة العسكرية الامنية الموحدة تحت الشهابية لم تسلم من هذا الانهيار :محاولة الانقلاب الفاشلة في 31 كانون الاول 1961-1 كانون الثاني 1962 أبرزت دور المسيحية الشمعونية داخل الجيش بالتحالف مع القومي السوري وبدعم هاشمي- بريطاني- أميركي)..
32= مرحلة الرئيس شارل الحلو (1964-1970) انهارت ايضاً تحت وطأة العامل السوري والفلسطيني بعد نكسة حزيران 1967… علامات الانهيار بانت منذ العام 1964 (المزايدات البعثية السورية على عبد الناصر، مشروع تحويل مياه نهر الاردن،حركة فتح ثم انشاء منظمة التحرير الفلسطينية وجيشها المرابط في سوريا، أزمة بنك انترا)..ولعل هذا هو سبب امتناع الرئيس شهاب عن قبول التجديد..
33= مرحلة سليمان فرنجية ثم الحرب الاهلية (1970-1990) شهدت انهيار وتفكك المؤسسة العسكرية –الامنية على وقع انهيار وتفكك الدولة والمجتمع.. في هذا الليل البهيم يلحظ محاولة الامام السيد موسى الصدر الدفاع عن المؤسسة العسكرية ووحدتها والدعوة الى قوات أنصار وحرس حدود مرتبطة بالجيش وتابعة له في الجنوب في وجه دعوات جعل لبنان فيتنام وتحويل الجنوب الى هانوي العرب..كما يلحظ الدور السلبي الخطير للرئيس فرنجية في الوقوف في وجه الامام الصدر وحركته الاصلاحية…
خلاصة ثانية:
لم تهضم الاحزاب اللبنانية الحديثة معنى التسوية التي قام عليها لبنان، ولا هي آمنت أصلاً بوجود أو معنى أو دور لهذا الكيان اللبناني..وهي لم تستطع بالمقابل ان تقدم بديلاً علمانياً وطنياً لهذه التسوية التوازنية الطوائفية…فالحزب الحديث قام في اوروبا تلبية لحاجة موضوعية داخلية بينما الحزب الحديث عندنا نشأ في فترة غلبة القوى الاستعمارية الخارجية على الداخل بعد انهيار الدولة العثمانية،فلم يتواجد هذا الحزب على المستوى الواقعي بل كان على هامش الحياة السياسية للبلاد وقضاياها..الحزب الحديث كان مجرد جهاز ايديولوجي مركزي يعكس حاجات ورغبات نخب مثقفة في قطاعات وكتل حديثة وفي الوقت نفسه يتوزع على، ويستند الى، علاقات تقليدية لا صلة لها بنصه التأسيسي…ولذا كان هذا الحزب محكوماً بالتناقض أولاً وبالهامشية ثانياً وبالفشل ثالثاً..الأمر الذي نعيش آثاره ونتائجه الى يومنا هذا..
خلاصة ثالثة:
لم تنجح الاحزاب الكيانية اللبنانية في تحويل الفكرة اللبنانية الى مشروع دولة ومجتمع ووطن..فهي استمرت تحكم اثر التسوية التاريخية (ميثاق 1943) بنفس عقلية مرحلة الانتداب فلم تلحظ المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية على مستوى العلاقات بين الطوائف ومواقع واحجام وادوار تلك الطوائف… ولم تلحظ المتغيرات الاقليمية والدولية بعد العام 1973 فاستمرت بعقلية الحلف الثلاثي الناشئ إثر الهزيمة العربية في حرب حزيران 1967.. الامر الذي قاد البلاد الى الحرب الأهلية على قاعدة موازين قوى خارجية وداخلية جديدة تجمع كالعادة بين الغلبة الداخلية والاستقواء الخارجي حين ترى امكانية الانقضاض وتحقيق الحد الأقصى من مطالبها…
خلاصة رابعة:
ان قراءتنا السوسيولوجية-التاريخية للاحزاب السياسية اللبنانية تجعلنا نؤكد انه لا وجود للحزب الاوروبي الحديث والصافي في لبنان، سواء بالمعنى العلماني الليبرالي الذي يقوم على اساس العقيدة الايديولوجية او السياسية (بحسب موريس دوفرجيه) أم بالمعنى الماركسي اللينيني الذي يقوم على أساس التمثيل الطبقي او الوحدة الاقتصادية (بحسب الرفيق لينين وأشياعه)…الحزب عندنا هو الحزب\ الطائفة، والحزب \العشيرة ، والحزب\ الحي او الزاروب او القرية الخ…وهذا التصنيف لا ينطبق فقط على الاحزاب التي تعلنه وتفخر به (أحزاب الطوائف والمذاهب)، بل هو ينطبق أصلاً على تلك الأحزاب التي تقول انها تتجاوز الانقسامات التقليدية والعصبيات القائمة نحو السعي الى توليد حالة نموذجية خاصة (علمانية وطنية أو مدنية ديموقراطية)..فهذه الأحزاب (يمينها ويسارها) ليست أكثر من تشكيلات مركزية منظمة تقوم على تكتلات وتجمعات “ايديولوجية” ،اي أن لحمتها وعصبها وعشيرتها هي الايديولوجية دون ان يعني ذلك انها تخرج عن السياق العام للانقسامات التقليدية في البلاد والتي تفعل فيها عوامل الانقسام الداخلي والتدخل الخارجي….الأمر الذي يجعل هذه الاحزاب أسيرة (عن وعي أو غير وعي لا فرق) للتجاذبات والمحاور الطائفية كما للتدخلات الخارجية….
خلاصة خامسة وأخيرة:
يتوجب على اللبنانيين الخروج بمشروع أو خيار وطني لبناني… فبدونه لن تكون هناك استراتيجية دفاعية وطنية ولا جيش وطني حديث ولا حياة سياسية سليمة وديمقراطية.. . الأساس وجود دولة وطنية حرة مستقلة سيدة عادلة قادرة…. أي وجود مركز قرار سياسي اداري عسكري وطني حر مستقل.. وهذا يؤسس لوجود أحزاب سياسية وطنية بكل معنى الكلمة.. ولوجود جيش وطني حديث وقوي… أما ما سوى ذلك فثرثرة من غير هدف ولعبة انتظار تتكرر بغير مسوغ شرعي… انها فقه من دون علم، وعصبية من دون ورع، وتقية من دون تقوى..
… ولا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم…..
mawsaoud@hotmail.com
كاتب وجامعي لبناني
(ملخص ورقة الدكتور سعود المولى الى مؤتمر “لبنان الحاضر والانتقال للمستقبل: أسس استراتيجية الدفاع اللبنانية”، بيروت،البيال،السبت 15 نوفمبر 2008- (العنوان الأصلي: العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة بوحدة صف القوى السياسية والعسكرية)