هناك من يجهر بـ»خوفه» من صعود أحزاب الاسلام السياسي القادم الى السلطة بعد الثورات، ويملأ فراغات كلماته بالأضداد الخشبية اياها، من «تنوير» و»ظلام». ثم يستنتج من كل ذلك موقفا سلبيا منها، وخصوصا الثورة السورية: انظروا، يقولون، كيف ان الاخوان والسلفيين وغيرهم من المجموعات الاسلامية، هم البديل المطروح، هم المستقبل…
الدوافع كثيرة لهذا التلازم بين «الخوف» من الاسلامي من جهة، وبين نسف الثورات بذاتها من جهة أخرى، ونبذ مسارها ومآلها، وذلك من دون المرور بامتحان الترّقّب أو مجرّد السؤال. بعضهم يتبنى لأسباب شخصية محضة: «شخصيات» ثقافية «كبيرة» ازعج «أناها» عدم تنبئها باندلاع الثورات، غياب علمها بها أو مشاركتها باطلاقها او لعب أي دور فيها. أزعجها ذلك، اذ انتزع منها نجومية اعتقدت انها أبدية، مثلما كان الطغاة يعتقدون… وها هي ديناميكية مفاجئة، متفجرة، تزيح العهد الذي شهد «أمجادها». هذه الشخصيات كانت اسبابها واحدة: نحن ضد هذه الثورات لأن الشعوب، بعد انتصارها، سوف تأخذ بيد الاسلام السياسي الى السلطة. فهذه الشعوب، تتابع شخصياتنا، لا تعرف ديموقراطية ولا حداثة.
من بين المتوجسين ايضا «مقاومون» يساريون وقوميون وتقدميون، وطبعا علمانيون. هؤلاء لم يجدوا غضاضة من الوقوف مع «حزب الله»، الحزب الأصولي بامتياز. متخوفون من الاصولية السنية، باسم علمانيتهم او يساريتهم… مع انهم تعايشوا طويلا مع العباءة والعمامة والتشادور وكل مظاهر المزج التام بين الدين والسياسة التي أنشاها «حزب الله» بعقدة محكمة.
«الأقليات» بشقها «المقاوم»، الموالي لنظام الاسد، «متخوفة» بدورها: مسيحيون، دروز، علويون «ممانعون»… ينصبون العداء نفسه للثورة السورية، وللثورات عموما، لأنها انجبت، أو سوف تنجب، اصوليين الى السلطة. نظرية «تحالف الاقليات» هي مرشدهم. الأسد حمى الاقليات يقولون، من دون ان يلحظوا اقتصار هذه الحماية على «حرية العبادة والطقوس»، غير مدركين ان نظرية الذمة الاسلامية التي ترعى «حماية» للأقليات هي نفسها التي ألهمت نظام الاسد مفهوم حمايته الخاصة، كأن هذه الرعاية منّة، من حسابه الخاص، من طيبة قلبه وكرم أخلاقه… ثم يأتي الاسلام السياسي ليقضي على كل هذه «المكتسبات»؟!
هذه حال الفئة الاولى من المتخوفين، الذين يخلصون الى موقف معاد للثورات، والسورية منها بشكل خاص. وخوفهم ذريعة، حجة، أداة تحليل، وحجاب كثيف احيانا. خوف هؤلاء ليس اصيلا ولا حقيقيا. انه خوف مزيف، يغذي خوفا بريئا (اسرائيل أيضا متخوفة. تتساءل دوائرها الرسمية:«سلطة العلويين أم سلطة الاخوان المسلمين؟»).
الفئة الاخرى من المتخوفين، هي من المتحمسون المتضامنين والمساندين لهذه الثورات. بينهم من فترت حماسته، او تشوش، او تراجع. ومنهم من هو مستمر، يعلق قلقه، يؤجل السؤال الملحّ عليه. (من دون ان ننسى فئة «غير المتخوفين»، وبينهم من يفتعل الثقة والاطمئنان، وكل ما يتمنوه من هذه الدنيا ان يرتّبوا حساباتهم مع السلطة الاسلامية الجديدة. وهؤلاء ليسوا موضوعنا الآن).
والتوجس من الصعود الاسلامي له من من الوقائع ما يبرره: فالعصر عصر ديني بامتياز. وخصوصا العصر الشرقي. هذه «روح العصر»، تلف الكيان وتطغى على الثقافة وانماط العيش والتصورات والمسالك. في الغرب هي تعبير عن تناقضات العولمة وما بعد الحداثة؛ وفي الشرق هي تناقضات حداثة وعولمة وما بعد الحداثة. الدين يعطي ابسط الاجابات واكثرها جماهيرية على هكذا تناقضات.
في العالم الاسلامي هيمنة جديدة. بدأت في ايران وما زالت سارية في تركيا. «النموذج» التركي، ازدهر بديموقراطيته النسبية (فنحن متواضعون ديموقراطياً)، بخلفيته الاسلامية، بديبلوماسيته النشيطة وانفتاحه على الغرب… كل هذا جعل الاسلامية الحاكمة ممكنة. بشرط غضّ الطرف طبعا عن السجل التركي غير الناصع مع الاقليات الدينية والأثنية، المسيحيون منهم، أرمن ويونانيين، ناهيك عن الاكراد. ثم لا تنسى الدعم الخليجي غير المحدود لجمعيات واحزاب اخوانية وسلفية. (هل الامر افتعال محض؟ أم ان الارض كانت تنتظر من يحرثها؟ أم الاثنان معاً؟).
هذا من حيث قوة الدفع الجبارة التي تعزّز فرص الاسلامية السياسية ببلوغ السلطة الجديدة. وهي اولى اسباب التخوف. وما يرفع من درجة التخوف هي ممارسات الاسلاميين انفسهم. الذين خاضوا من بينهم الحملات الانتخابية (تونس ومصر) كانوا على يقين سلفا بأنهم مُفْزعون. لذلك كان عنوان حملاتهم «التطمين»: التطمين من انتهاك الحريات، من المسّ بحقوق النساء والاقليات، من خيانة الامانة الديموقراطية، من إلغاء الاتفاقات الموقّعة مع العالم…. كما كانوا يقولون هم. بعد حملات التطمين والفوز بالانتخابات، جاء دور الممارسات والاقوال المنثورة هنا وهناك وكلها تشي بأكثر مما كان متخوَّفا منه: نزعات تسلطية واضحة، سكوت عن ممارسات سلفية شديدة التطرف وعن خُطب شيوخها وامرائها الذائعة، عن رفع قضايا ضد فنانين، تشكيل ما يشبه الميليشيات المدربة تحت الطلب، الدخول باعداد غفيرة الى الشرطة والاجهزة الامنية، استبدال النشيد الوطني بنشيد الاخوان (مصر)، الدعوة الى اقامة الخلافة الاسلامية، إعتماد القضاء العرفي، القبض على الاعلام، اضطهاد الاقليات الدينية (أقباط مصر)، الفصل بين الجنسين، حروب المايوه والخمرة و»التبرّج»، ، تهديد حقوق النساء، القليلة أصلا…
باختصار، الذين بلغوا السلطة من الاسلام السياسي يخوضون اولى معاركهم ضد اوجه من الحداثة، بطريقة عشوائية وفي اكثر تعبيراتها ضعفا، واقلها «نفعا». طلائع هذه المعارك الاسلامية ليست مفتوحة على مستقبل يتطور، او يعد بالتطور، بل هي توحي بأننا مقبلون على زمن سوف نخوض فيه معارك ومناوشات على بديهيات، او ما كنا نعتقده بديهيا ( من قبيل معركة «نائب الآذان» في البرلمان المصري)، وسوف نضطر فيه الى إعادة قراءة حداثتنا، وحقبات تاريخنا الحديث، بل حقبات الدعوة المحمدية، منذ مهدها. فيما كانت الثورة تنبىء بمستقبل مفتوح، ثورة غير ايديولوجية تصرخ بالحرية والكرامة… ها هي نتائجها الاولى تنذر بالعودة عن مستقبل غارق في متاهات الفتاوى والايديولوجيا.
السؤال البديهي المطروح على المتوجسين من سلطة الاسلام السياسي هو: من كنتم تفضلون في رأس السلطة الآن؟ ان كان من بينهم علمانيون او يساريون او قوميون أواشتراكيون أي واحد من التيارات او الانتماءات، فسوف يجيبون انهم طبعا يتوقعون واحدا منهم. واذا قلت لهم ان تجارب كل هذه الاتجاهات كانت فاشلة، يجيبونك انها لم تكن اشتراكية او علمانية او قومية «صحيحة». (تماما كما كان يجيبهم الاسلاميون بأن الاسلام «الصحيح» لم يُختبر على الرغم من تجربتي ايران والسودان «الفاشلتين»).
في السياق نفسه، يحاول الممسوسون بالشك والقلق ان يطمئنوا انفسهم بدورهم، اذ يقولون بأن بلوغ الاسلام السياسي السلطة بعد الثورة ليس إلا مرحلة انتقالية لن تدوم، لأن الاسلام السياسي سوف يفشل سريعا ليخلي مكانه لغيره. ولكن من قال انه سوف يفشل؟ ما معنى «الفشل» اصلا؟ قد يدوم الاسلام السياسي في السلطة، ويكون بذلك «ناجحا»، على غرار «نجاح البعث». هو سوف يعيد المجتمع الى الوراء من الزاوية الاجتماعية والثقافية والفكرية، ولكنه بذلك لن يزعج الا محكوميه. الغرب لا تزعجه هكذا الاحكام، وقد «تعايش» مع ما هو أبشع منها. والأرجح أيضا ان «تنجح» الاسلامية السياسية اقتصاديا وسياسيا (اسرائيل واقتصاد سوق)، مرضية من هم حولها، وفي الآن عينه تفبرك لنفسها دورا «اسلاميا» أو «قوميا»، بغية البقاء في السلطة، كما فعل اسلافها.
اما عندما يتوقع اصدقاؤنا ان يحل غير الاسلاميين محلهم لأنهم سوف يفشلون، فالسؤال يبقى: من هو هذا الغير؟ من يكون فعلا الطرف المرشح لتولي السلطة، من يقدر على إعطاء اجابة مستقبلية على ثورة قلبت الدنيا رأسا على عقب؟ هل تكوَّنَ وانتظمَ وأعلنَ عن نفسه بجدية؟ فتش عن هذا الطرف ولن تجد الا الفراغ. الديكتاتوريات خلفت وراءها ارضا محروقة…
ان صعود الاسلامية لن يحول دون تجاوبنا مع الثورات العربية، السورية منها خصوصا: اولا، لأننا لم نر هذه الثورات قادمة من بعيد، ولا من قريب. ولا نملك اية قدرة بالتالي على الحؤول دون بلوغها نهاياتها. ثانيا لأن هذا الجانب «الظلامي» الذي انكشف عن المجتمع كان محجوبا بتسلطيات تزايد على الدين وتأخذ منه اشد المواقف التباسا، لتؤسلمه بعشوائية فادحة، وتضعفه امنيا وتعززه ايديولوجيا؛ ثالثا لأن صعود الاسلامية يفتح ورشة معرفة مجتمعاتنا وتفاصيل القوة الوهمية والافتراضية او الاعلامية او الحقيقية التي تعبره، ومراقبة الفعل الجديد للإسلامية السياسية، وكيفية تفاعلها مع الوقائع العنيدة.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل