ارتجت قلوب عربية كثيرة بالنشوة والحبور والسرور بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العاشر من فبراير المنصرم أمام مؤتمر ميونيخ عن “سياسات الأمن” باعتباره يمثل من ناحية خطابا “تاريخيا” لأنه يمثل عودة روسية إلي تحدي النظام العالمي المعاصر من خلال انتقاد أساس القطب الواحد الذي يقوم عليه؛ ومن ناحية أخري يمثل النهاية لعصر الهيمنة الأمريكية علي العالم. وهي حالة ليست جديدة تماما علي النفس العربية فمنذ السقوط المروع للاتحاد السوفيتي وكتلته الاشتراكية العالمية في مطلع التسعينيات فإن العالم العربي ظل منتظرا أن تعود الأمور إلي نصابها بظهور أقطاب جديدة. وفي وقت من الأوقات ساد الظن أن اليابان بحيويتها الاقتصادية ومرارتها التاريخية من الهزيمة يمكنها أن تشب عن الطوق خلال التسعينيات لكي تزن الموازين العالمية وتعيدها إلي رشدها. وفي أوقات أخري ساد الظن أن أوروبا الموحدة يمكنها أن تلعب هذا الدور خاصة بعد أن بدأت وحدتها تتمدد جغرافيا حتى الحدود الروسية، وسياسيا إلي سياسة خارجية وأمنية موحدة. وفي أوقات ثالثة كانت معدلات النمو الصينية مبهرة إلي الدرجة التي جعلت بكين مرشحة لكي تكون القيادة العالمية في القرن الواحد والعشرين. ومن وقت لآخر كان هناك متحمسون للهند وتقدمها التكنولوجي، أو لحلف هندي روسي أو حلف هندي صيني يقوم بالمهمة وتصحيح الموازين العالمية المختلة.
المدهش في الموضوع كله أن أحدا لم يهتم بالسؤال الأهم وهو لماذا لا يكون العرب جزءا من هذه الموازين، ولماذا كان العصر الحالي القائم علي القطبية الأحادية أسوأ من عصور سابقة سادها تعدد الأقطاب أو القطبية الثنائية. فما حدث خلال القرن التاسع عشر حينما كانت هناك تعددية بين القوي الاستعمارية المختلفة، وكانت الولايات المتحدة لا تزال قابعة في مكانها وراء المحيطات، إن العالم العربي تم تقسيمه بين القوي الاستعمارية المختلفة الكبيرة منها مثل بريطانيا وفرنسا والصغيرة منها مثل إيطاليا وأسبانيا وحصل كل منها علي قطع مختلفة الحجم من لحم الأمة، وقبل أن ينتهي القرن كانت الحركة الصهيونية قد ولدت. وفي القرن العشرين لم تختلف الأوضاع كثيرا في عهد النظام متعدد الأقطاب عندما استمر تقسيم العالم العربي بين أشكال مختلفة من الاحتلال وتحولت الحركة الصهيونية الوليدة إلي واقع دولي من خلال وعد بلفور وعصبة الأمم. وفي النصف الثاني من القرن، وفي عهد القطبية الثنائية والحرب الباردة هذه المرة، انقسم العرب بين الشرق والغرب، وجرت حروب عربية _ عربية في اليمن وعلي الحدود الجزائرية المغربية، وحروب أهلية في اليمن والسودان ولبنان والعراق، وحروب إقليمية بين العراق وإيران، وبالطبع قامت دولة إسرائيل وتبعتها سلسة الحروب العربية الإسرائيلية المعروفة والتي انتهت باحتلال كل فلسطين وأراض عربية أخري لا زال العرب يحاولون استخلاصها حتي اليوم.
وببساطة فإن النظم الدولية المختلفة سواء المتعددة الأقطاب أو الثنائية القطبية لم تختلف كثيرا في سوئها عن النظام الحالي القائم علي الانفراد الأمريكي. ومن يعتقد أن استمرار احتلال الأراضي العربية من قبل إسرائيل، أو استمرار الاحتلال الأمريكي للعراق، راجع إلي النظام الآحادي القطبية فإنه لم يعرف شيئا عن النظم العالمية السابقة وما جري فيها. والأخطر من ذلك فإنه لا يعلم الكثير عن مفهوم القطبية وكيف يعمل في العالم المعاصر للقرن الواحد والعشرين والذي يقوم بالأساس علي شبكات واسعة من القدرة علي التأثير في مجالات متنوعة مالية وتجارية وتكنولوجية وعسكرية وسياسية. فارتفاع سعر الروبل الروسي أو انخفاضه ربما يكون مقلقا قليلا لعدد من الدول المجاورة، ولكن العواصم العالمية لن تنام إذا ما تعرض الدولار أو الاقتصاد الأمريكي للتذبذب. ومن الجائز تماما أن يظهر أو يختفي واحد من الأقمار الصناعية الروسية أو الصينية أو الهندية دون تأثير يذكر علي شبكة الاتصالات العالمية؛ ولكن هذه سوف تتعرض لشلل كامل إذا ما تعرضت الشبكة الأمريكية للخلل.
هذه القدرة العالمية علي التأثير في مجالات شتي كانت ولا تزال هي أساس القطبية العالمية، وعندما كان الاتحاد السوفيتي قطبا دوليا كان ذلك راجعا لأن سبقا يصل إليه في التسلح كان كفيلا بخلق خلل في التوازن الدولي؛ وكان انتقال دولة من المعسكر الغربي إلي المعسكر الشرقي كفيلا بتغيير هذا التوازن في واحد أو أكثر من أقاليم العالم؛ وفي كل الأحوال كانت موسكو تمثل منظومة أخلاقية وسياسية وأيدلوجية مؤثرة في العالم. مثل ذلك لم يعد موجودا الآن، فلا عاد لدي روسيا نظرية، ولا أصبح لديها سباق تسلح تشترك فيه، ولا بات عندها صناعة أو تجارة- عدا النفط والغاز تنافس بها علي المستوي العالمي. وهكذا لم يبق لدي روسيا مثلها مثل باقي دول العالم الثالث الأخرى، ومثلها مثل عدد من الدول الأوروبية كفرنسا التي تشكو من وقت لآخر من النتائج السلبية الوخيمة للهيمنة الأمريكية، سوي الدخول في دائرة الخطب الدورية لإدانة الإدارة الأمريكية وحماقاتها المتعددة سواء في العراق أو غيرها، ولكنها في كل الأحوال لا تفعل ذلك وفي يدها خطة أو بديل استراتيجي علي مستوي العلاقات الدولية.
ولا يكفي في هذه الحالة الإشارة إلي حالة الصلف الأمريكية وانفراد واشنطن بالقرار الدولي وأخطاء الإدارة الأمريكية المروعة في أفغانستان والعراق ومناطق عالمية كثيرة. فرغم أهمية وصحة ذلك كله وما يمكن أن يؤدي إليه من انسحاب استراتيجي أمريكي علي المستوي العالمي، فإن ذلك لن يعني بالضرورة قيام نظام عالمي أكثر ديمقراطية وتوازنا وعدالة وازدهارا. وبالتأكيد فإن السجل الروسي سواء فيما تعلق بالسياسات الداخلية في إقليم الشيشان أو الإقليمية الخاصة بآسيا الوسطي وإيران لا يدعو إلي الاطمئنان أن العالم الجديد لما بعد الهزيمة الأمريكية سوف يكون أفضل حالا مما كان عليه من قبل. فمفتاح الموضوع بالنسبة لمنطقتنا سوف يظل متعلقا بالقدرات الذاتية للعالم العربي وقدرته علي التأثير علي مجموعة واسعة من العلاقات الأمنية والتجارية والاستثمارية والمالية علي مستوي العالم.
فالحقيقة أن عصر اللعب علي الحبال العالمية قد وصل إلي نهايته مع انتهاء الحرب الباردة ومن المرجح أنه لن يكون له عودة مرة أخري ليس فقط لأنه لم توجد بعد القوة ذات القرار السياسي الموحد والقادرة علي منافسة واشنطن، وإنما لأن كل القوي الجديدة تنمو قوتها في كنف القوة الأمريكية ومن خلال الاعتماد المتبادل معها بل وأحيانا في ظل حمايتها الأمنية. فالنمو الاقتصادي الصيني يقوم في الحقيقة علي نمو الصادرات الصينية إلى السوق الأمريكية من جانب، وعلى التكنولوجيا التي تحصل عليها الصين من الشركات الأمريكية متعددة الجنسية، وفي النهاية على الحماية التي توفرها الأساطيل الأمريكية لمسارات النفط من الشرق الأوسط إلي بكين. ومنذ انفجار الفقاعة المالية اليابانية خلال التسعينيات أدركت اليابان أن السير في الكنف الأمريكي أقل تكلفة من الخروج عليه، أما أوروبا وبعد الفشل الفرنسي في التصديق علي الدستور الأوروبي فقد بات عليها أن تنتظر توحيد القرار الأمني والإستراتيجي إلي عقود قادمة. ولا يمكن خلال الفترة نفسها أن تفرز روسيا قوة عالمية منافسة بالمعني المشار إليه، ومن ثم فإن ما نحن مقبلون عليه ليس نظاما عالميا يحل محل
الهيمنة الأمريكية وإنما حالة من حالات اللا نظام التي لا يعرف أحد إلى أين تمضي وتقود!!.