من يتابع التداعيات المأساوية في العراق، بعيداً عن أخبار السيارات المفخخة التي حصدت أرواح مئات الألوف من الأبرياء، يخرج بانطباع يبعث على الإحباط، وهو أن الطبقة السياسية العراقية لم تصل حتى اليوم إلى مرحلة استخلاص العبر من الكارثة التي حلت بالبلد. بل على العكس، هناك من يبدو كأنه لا يزال في بداية المشوار، رغم هذه السنوات القاسية التي أكلت الأخضر واليابس، وحولت العراقيين أصحاب التاريخ والحاضر المجيد، الأباة والنشامى فعلاً إلى شعب يستحق الرثاء. وثمة اعتقاد ساذج وبريء، دارج في أوساط اصحاب النوايا الطيبة، فحواه أن الذين يمسكون بمفاتيح اللعبة العراقية في هذه اللحظة، لابد أن يتعبوا من رؤية بلدهم يتمزق على هذا النحو الجزافي والعبثي. ولذا يرتفع منسوب التفاؤل كلما لاحت مبادرة لإيجاد صيغة لإيقاف شلال الدم الهادر بلا سبب. لكن يبدو أنه من العبث الاستمرار في هذا التفكير، الذي يقارب المسألة على نحو تبسيطي، لأن قادة العراق الحاليين يصرون على تكذيب كل رهان على عودة العقلانية إلى هذا البلد المنكوب.
لا شك في أن هناك عوامل خارجية تلعب ضد عودة العراق إلى الوضع الطبيعي. وفي وسع المرء أن يتهم حتى سابع جار، إلا أن المشكلة تبقى عراقية عراقية في إطارها العام، وفي أبعادها المباشرة والبعيدة الأمد. لا يختلف أحد حول المسؤولية الأمريكية عما آل إليه الموقف العام من تدهور، ولكن الاستسلام إلى هذا السبب وحده لا يعفي فقط اللاعبين المحليين من مسؤولياتهم، بل يحول دون التفكير جدياً في إيجاد مخرج مناسب، بعيداً عن لعبة الاحتلال الخطيرة ونتائجها. ولكي يكون المرء اكثر وضوحاً، فإن الاحتلال ليس قدر العراقيين النهائي، بمن فيهم أولئك الذين باركوا مشروع اجتياح العراق في البداية، وهو لن يدوم إلى الأبد، ولذا فإن الخوف اليوم هو أن يتراجع الاحتلال إلى المرتبة الثانية في اهتمامات العراقيين، الذين وصلوا إلى درجة متقدمة من التناحر الأخوي.
أسوق هذه المقدمة النظرية لكي أصل إلى “التحالف الرباعي” الذي أعلن عنه في السادس عشر من الشهر الحالي، لأنه يستدعي جملة كبيرة من الملاحظات:
الأولى، رغم أن الطرفين الموقعين، أي الشيعي والكردي، يرتبطان بحلف يعود إلى ما قبل الحرب على العراق، فإنهما ارتأيا إعلان تحالف جديد في صيغة رباعية حزبية. ولا تبدو الحكمة واضحة من وراء تقديم الأمر على هذا النحو، في الوقت الذي يطالب فيه الطرفان من الناحية الدستورية بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق فيدرالية: شيعية، كردية، سنية.
والملاحظة الثانية، أن هذين الطرفين يدوران في نفس المكان منذ ما قبل الحرب على العراق، ويصران في كل مرة على ربط خيولهم إلى حبل التحالف الشيعي الكردي الوثيق. جيد أن تبقى العلاقات متينة إلى هذا الحد بينهما، لكن تبين من خلال التجربة أن هذه التحالف يحتاج إلى ممر آمن يعبر حدود الطمأنينة السنية، وإلا فإنه سوف يبقى يدور في نفس الدائرة المغلقة، حتى لو حاولوا اليوم تربيعها.
الملاحظة الثالثة، تتعلق بمسألة انشغال الطرفين الشيعي والكردي بالتوصل إلى وفاق داخلي. ومن المؤسف حقاً القول إن التحالف الجديد بقي بعيداً عن ذلك، بل إنه كرس نفسه لتكرار الأخطاء، التي ارتكبت على الصعيد العراقي الداخلي منذ اسقاط النظام السابق. وعلينا أن نعترف بأن القوى السياسية العراقية قاطبة بدلاً من أن تنصرف إلى مصالحة وطنية تطوي صفحة الماضي القريب، فإنها انخرطت في عملية تصفية حسابات دموية، لا تتوقف عند الأمس، بل هي ممعنة على نحو مجاني في العودة إلى تأويل الماضي السحيق، على نحو يلغي التقدم الكبير والهائل على الصعيد المدني، الذي انجزه العراقيون على طريق تجاوز الطائفية والعرقية والعشائرية.
لم تبرهن الطبقة السياسية عن جدارة حتى الآن، ولكن المعني أكثر بهذا التشخيص أولئك الذين يمسكون بأيديهم بمقاليد الأمور، أي حكومة المالكي والرئاسة الكردية. ومن المفارقات الغريبة أن حكومة المالكي التي اعتبرت نفسها حين تشكيلها تضم كافة الاطراف، وتعبّر عن جميع الحساسيات الطائفية، تحولت بدورها إلى ساحة حرب، بدلاً من أن تصبح ساحة للحوار ولامتصاص العنف الذي يسود كلغة وحيدة بين العراقيين، وبات يعبر عن نفسه على نحو عار في الشارع، ومن خلال شتى مظاهر الحياة اليومية، وفي صورة همجية ومجانية وبدائية. وإن دل ذلك على شيء في الدرجة الأولى، فإنما هو يعبر عن عدم قدرة أطراف العملية السياسية، على إدارة حالة الانهدام العراقي العام والشامل أو التحكم بها، بل على العكس.
ثم، ألا يدعو للاستغراب ولا يشكل مفارقة لافتة للنظر أن يتم النظر إلى الحلف الجديد من زاويتين مختلفتين؟ فبينما احتفلت به أطرافه الأربعة على نحو انتصاري، اعتبر السفير الأمريكي في العراق ايان كروكر انه “لن يتمكن بمفرده من حل مشاكل البلاد”. وقال “هذا تجمع شيعي كردي”، لكن “المشاكل الرئيسية التي تواجه العراق لا يمكن أن يحلها سوى تعاون بين الشيعة والسنة والأكراد”. عدا ذلك، جاء توقيت إعلان التحالف في لحظة حرجة بسبب مقاطعة اطراف أخرى لحكومة المالكي وانسحابها منها، وخصوصاً القوى السنية التي كانت ممثلة فيها، بالاضافة إلى كتلة رئيس الوزراء السابق اياد علاوي.
من سخريات القدر أن الأمريكيين باتوا مقتنعين بأن الحل في العراق صار يتوقف على حصول مصالحة وطنية حقيقية، بينما تصر القوى السياسية العراقية على الاستمرار في لعبة الغالب والمغلوب، والقوي والضعيف، وتكريس الخطأ بعد الخطأ.
bpacha@gmail.com
* كاتب سوري- باريس
الخليج
الخطأ بعد الخطأ في العراق …
اخشى ان يكون العراقيون اعتادوا حكم”الحجاج”, فلكل امرئ ماتعودا…ً!!