الأقلام المصرية سالتْ على مسلسل «الملك فاروق». وكذلك الألسنة انشغلت به، أمام الملأ التلفزيوني وبعيداً عنه. المسلسل أحدثَ موجة من الحنين الى زمن كان قبل المسلسل قبيحاً. فأثناء عقود بأكملها كان «الزمن الجميل» منعقداً على عهد بعينه، العهد الناصري: عهد الشموخ والريادة والأمل بالتقدم. الآن، أزيح هذا العهد عن عرشه، وانتقل «الجمال» الى العرش الذي سبقه مباشرة. فاروق الأول، وكل الأبهة والاناقة والرقّة والعذوبة.
كأنه ثأر منبعث من التاريخ…
منذ تبوّئه قيادة «الضباط الاحرار»، قام عبد الناصر بما لا زلنا نقوم به حتى الآن: إعتبر زمنه هو الاول، وما قبله جاهلية… تخاذل وأمية وفساد وعرْبدة وخيانة وتبعية واقطاع. العهود التي تلت عبد الناصر استمرت أوتوماتيكياً على نفس نهج المحو. ونشأت اجيال بأكملها ذاكرتها بيضاء عن عهد فاروق. فما كان من مسلسل بالغ الجودة والجاذبية الا ان قلب الآية رأساً على عقب.
فحلّت «الفاروقية» محل الناصرية في «الجمال».
تقول مخرجة شابة: «الملك فاروق ما طلعش فاسد وحرامي وسكّير زي ما عرفنا. كمان ما طلعش زي ما درسنا في المدرسة. نحن يا جماعة إنضحك علينا! (…) زوّروا تاريخ مصر بحالها وضحكوا على أجيال كثيرة…!».
مثل المخرجة الشابة كثيرون يلعنون العهد الناصري، وتنكشف امام عيونهم فجأة عملية المحو، ليس في مناهج التعليم فحسب، بل في الفن، في الغناء، في السينما… فيعبّرون عن سخطهم على ذلك الذي كانوا يعتبرونه الى ايام قريبة «زمناً جميلاً». وفي فورة حماسهم، يُغالون… فيكاد بعضهم ان يمحو العهد الناصري، كما محا العهد الناصري العهد «الفاروقي». انه حنين المغلول…
والحنين ايضا الى أعلى، الى صورة السلطة… لا الى الأدنى، صورة المجتمع. ففي خضمّ فورة الحنين الى فاروق، كان يعرض فيلم للمصرية اليهودية، ناديا كامل «سلاطة بلدي». فيلم يبحث عن جذور عائلة المخرجة في اوروبا واسرائيل. عرض واحد، وتعالت التهم ضدها، من ان فيلمها «يدعو الى التطبيع (…) ويروّج لمشروع الشرق الاوسط الكبير». فيما الفيلم، كما تقول عنه المخرجة، هو تعبير عن حنينها الى المصر الأخرى التي عرفتها أمها وجدتها. مصر المتعددة الكوزموبوليتية. ترثي ما صارت عليه اليوم من «ردّة» و»موجة التعصب الديني والقومي». وتتابع «قابلنا الفرز الديني الاسرائيلي بفرز ديني مقابل. ورددنا على عنصريتهم بعنصرية مقابلة…».
وفيما الحنين الى القيادات والزعامات على اشدّه، تراه يخبو عندما يعود الى الناس العاديين؛ الى المواطن… الى المجتمع. خائضو الحروب ضد التطبيع، وهم ليسوا بالقليلين، يقفون بالمرصاد هنا امام هكذا «مستوى من الحنين». انه حنين مسيّس.
مقارنة سريعة بين هذا الحنين وحنين رومنطيقيي أوروبا اثناء نهضتها. هؤلاء أصِيبوا بالحنين الى أشياء محدّدة: تلك التي افتقدها الانسان الاوروربي بفعل تقدم المجتمع نحو الحداثة، أي الطبيعة والسحر. فكان الماضي عندهم اطارا جماليا لمخيلتهم، لم يتسيّسوا الا نادراً… وعندما تسيست اطروحاتهم اصابتهم الكوارث والحروب. الرومنطيقيون عاشوا في مجتمعات في سبيلها الى التقدم. وحنينهم مشبع بالترَف الفني.
اما حنين العربي الآن فهو بالعكس تماما: هو حنين من صار متأكداً بأن الاشياء، كل الاشياء من حوله، تسير الى الخلف. وبذلك يصبح اي شيء من الماضي أنظف وأجمل وأذكى الخ. انه حنين، مستقبله مثل ذاكرته: صفحة بيضاء…
لذلك ربما ينشىء هذا الحنين نوعاً معيناً من الدراويش: امرأة تعلن على شاشة احدى الاقنية انها حجّت عمرة رمضان على نيّة الملك فاروق وتيم الحسن (الممثل السوري الذي قام بدوره). ووجيه من وجهاء المجتمع القاهري أولَمَ بعد رمضان لمن اعتقده فؤاد الاول، ابن الملك فاروق وحاشيته معه ودعا الى الوليمة عددا كبيرا من اصدقائه ومعارفه… اما ابن فؤاد الاول الحقيقي الذي يعيش في سويسرا، فقد اتصل بالصحف المصرية ونفي ان يكون قد عاد الى القاهرة بعد وفاة شقيقته فوزية. واتهم ضيف الوليمة بإنتحال شخصيته… حنين الدراويش.
أيضا: الرسالة السياسية التي يوجهها الحنين «الفاروقي» رسالة ملتبسة، لا تقوم على قاعدة. فيض المقالات والتحقيقات التي كتبت عنه، يمكّنك بصورة تقريبية من ان تقسمها الى «اتجاهين»: اتجاه معارض للحكومة وآخر موال لها. المعارض يترحّم على ايام زمان، على الدستور والتعددية والاحزاب… ويتوجه، بطريقة نصف مباشرة، بالغمز واللمز، الى الرئيس المصري حسني مبارك بأسئلة من نوع: يا ترى هل يشاهد الرئيس مبارك مسلسل الملك فاروق؟ ما شعور سيادته وهو يشاهد الممثل الجليل صلاح عبد الله وهو يصرخ غاضباً في رفض الاستبداد واحتكار السلطة؟
الموالون نغمتهم مختلفة؛ يدافعون عن «الضباط الاحرار» وعن وطنيتهم، وينبشون في النقاط السوداء للعهد الملكي… وفي الثغرات التاريخية والفنية للمسلسل ايضاً. لسان حالهم يقول: «النظام الجمهوري مظلوم في عصره. لأنه ببساطة لم يمارس الدعاية الحقيقية لنفسه الا في الفترة الوجيزة الماضية»!
لكن الالتباس لا يسمح لهذا التقسيم بين «معارض» و»موال» ان يذهب الى نهايته. فالمعارض يحنّ الى «الفاروقية»، ويرفض في الآن عينه توريث جمال مبارك للحكم. (ومن طرائف هذه المفارقة ان واحدا من اكثر الليبراليين حماسة ضد مبارك والتوريث، يدعوه الى التنحي وتسليم العرش الى الملك فؤاد الأول). فيما الذين يدافعون عن هذه «الجمهورية» ضد «نظام الملكية» لا ينطقون بمأخذ على التوريث… وهو المطروح بإلحاح وكموضوع محوري سياسي يومي. واذا نطقوا به، فلكي ينفوا قطعيا إمكانية حصوله.
ليس معروفا تماما الى متى يستمر «مولد» الحنين الى فاروق وعهده. ربما الى رمضان القادم… ولكن من المؤكد ان هذا الحنين يُبعد تجرّع كأس المستقبل المرّ. ومن المؤكد ايضا ان هذا الحنين لذيذ، وإن كان مهلْهلاً.
dalal.elbizri@gmail.com
الحياة
الحنين الى الملك فاروق وتأجيل تجرّع كأس المستقبل… بسم الله الرحمن الرحيم بيدو جليا ان الأفلاس الفكري طاغي على بعض كتاب مقالات الحائط عبر اعتماد الموروثات الشعبية و الأمثلة منهاجا فكريا و مرورا بضيوف مصر من الأقطار الصغيرة و التى اعتمدت المسلسلات الرمضانية ذات النكهة المصرية كمرجع تاريخي للحقبة التاريخية الملكية المصرية بديلا عن الأخباريين و المؤرخين المصريين والغربيين رغم انه كان من الأحرى متابعة الحارة و بابها و البلطجي بداخلها تعبيرا عن الوطنية الجياشة بديلا عن العروبية الناقصة ويبدو ان التاريخ فى ازمة فوضت لحملة ثقافة ( take away) ان يخاطبون عقول الشعوب الى تعاني الكثير من الصعاب و… قراءة المزيد ..