قيل للبنانيين بعد تشكيل الحكومة الأولى للعهد الجديد انها “تعكس بدقة التوازنات ووجهة التطورات” الداخلية والخارجية، كما بدت عشية اتفاق الدوحة. وأن اجتياز عقدة البيان الوزاري سيكون أمرا ممكنا رغم صعوباته، وبخاصة بعد الإجماع الملتبس و”النبرة الهادئة” في استقبال أسرى، وجثث يعود معظمها الى عقود وقوى سبقت حزب الله.
كما قيل للمواطن، أن يتفاءل بما يجده في الحكومة من ظلال للمجتمع المدني ومن شباب عائدين أو وافدين جدد الى الوزارة.
والحال أن أسماء وزراء مثل طارق متري وزياد بارود وابراهيم شمس الدين وريمون عودة ويوسف تقلا،لا بد أن تثير قدرا من الغبطة. إذ يأتون من أمكنة تجانب الطائفية أو على الأقل تستبطن أقل صورها حصرية. كما انهم يأتون من الإقتصاد والإختصاص والتمايز، أي من تلك الليبرالية الفردانية وذلك التقسيم للعمل الذين لا تتيحهما، عضويا
وواقعيا، دولة الجماعات المطيّفة إلاّ على سبيل الإستثناء.
ولكن لمن لديه ذاكرة يبدو كشف الحساب لهذه الجهة، مشوشا. إذ ليست هي المرة الأولى في تاريخ تأليف حكومات مطالع العهود، التي يوزّر فيها إصلاحيون واختصاصيون ومجتمع- مدنيون وشباب. كما أن هذا المعطى رغم محدوديته،لم يكن ليتحقق لولا رغبة ووضعية رئيس الجمهورية وتخوف بعض قادة 14 آذار من حصيلة تهافت قواها على الحقائب والمواقع عشية تأليف الحكومة، وتأويل تأثيرها السياسي والانتخابي المقبل.
من المفيد بالطبع أن يحدث ذلك رغم الإستقطابات الحادة.
وسيكون علينا بالمقابل قراءة التركيبة الحكومية من زاوية الوجود الشامل لكتل طائفية تحاصصية تبدو للوهلة الاولى كأنها استمرار عادي لتاريخ النظام اللبناني وتجربة التطبيق الجزئي لاتفاق الطائف خلال ما يقرب من العقدين.
إلا أن ذلك لا يعفينا بدوره من القراءة الأهم من زاوية واقعية وهي تلك المتعلقة باستحواذ حزب الله، القائد الفعلي لتحالف المعارضة، على الثلث المعطّل في الحكومة، بالإستناد الى ما ظهّره “اتفاق الدوحة” من تجسيد لمعطيات عرض القوة العنفي في أيار ونتائجه، اللذان يقعان تماما خارج سياق الدولة ونظامها. وهو عرض القوة الذي عمّق حدة الانقسامات وكاد أن يتحوّل من بروفة لعملية “جراحية نظيفة” ومحدودة (وفق أقوال قادة حزب الله) الى حرب أهلية شاملة. والذي اثبت مرة اخرى أن حدة الاستقطاب الراهنة لم ينتجها تاريخ الجماعات الأهلية وحده، وإنما أيضا لجوء جزء منظم ومؤدلج من جماعة أهلية وبدعم إقليمي مديد وجوهري، الى إنشاء “دولة مضادة” يختزن جهازها العنفي ووسائل عمله وتأطيره لمعقله، امكانات فعلية لهيمنة تهدد الدولة والجماعات المختلفة.
وبذلك يصبح على اية قراءة جادة لعملية تشكيل الحكومة ومستقبل ادائها أن تأخذ بعين الاعتبار أولاً ما جاء اساسا من خارج النظام والحكومة والدولة ومفهوم التمثيل. أي ليس الثلث المعطّل وحده، ولكن ايضا وخصوصاً واقع ان “دينامية” بنية الحزب وبروز فائض قوته العسكرية ومصادرها، وانخراطه الاقليمي، هي العناصر التي فرضت انعقاد اجتماع ثم “اتفاق الدوحة”. وهي العناصر التي تتعدى واقعا ودوراً ومعنى الدولة اللبنانية وحدودها ومفاهيم واعتبارات وجودها.
ويصبح من قبيل التستر على “ترشيد” وتمرحل استراتيجية الحزب وعلى سعيه لاكتساب دور قيادي مهيمن، الترويج لـ”تضحياته” بقسم من الحقائب الوزارية التي يمكن أن تعود إليه، تحت عناوين”الزهد بالحكم” و”الوفاء للحلفاء” والحرص على تقوية تمثيل الأطراف الاخرى من المعارضة. سواء تلك المنتمية الى شعبويات تزاوج بين زعم العلمانية والطائفية الفعلية كمثل الحالة العونية، او بتلك التمثيلات الطائفية “الجديدة” الناشئة بفعل الحروب والوصايات المتناوبة منذ 1975، مثل حركة أمل، أو مجموعات أقلوية مضادة تاريخيا للكيان اللبناني بفعل إيديولوجيتها والتحاقها الاقليمي الذي صار مع الوصاية السورية عضويا(كالحزب القومي السوري).
ولذا يبدو اختزاليا التركيز الإعلامي على أسئلة من نوع :هل تكون حكومة “الوحدة الوطنية” ميدان صراع أو مجال حوار؟ هل هي حكومة الهدنة المؤقتة – قبل أو حتى موعد الإنتخابات النيابية – أو حكومة الهدنة المديدة ؟
ليس لأن هذه الأسئلة غير ذات معنى بحد ذاتها. ولا لأن طرح مثلها صار من كلاسيكيات السياسة عند تأليف حكومات”الوحدة”و”الاتحاد” و”الوفاق” العديدة التي تخللت تاريخ الحروب والهدنات المتناوبة منذ 33 عاما. بل لسبب
أكثر بساطة وفداحة في الوقث نفسه. وهو غفلتها عن الاشارة الى مصير وسيرورة وممكنات الدولة المدعوة مثل هذه الحكومات الى حكمها بعد كل من المراحل.
والحال أننا امام تغيير سلبي تصاعدي حدث في موقع الدولة اللبنانية، جرى “تشييده” على عدة عقود. إذ اجتمعت قوى محلية وإقليمية على التناوب في إضعاف سيادتها وبنيتها وبخاصة في مراحل الوصاية السورية الممنهجة التي انتهت نظريا في 26 نيسان 2005. سيادتها “في الدولة” نفسها وسيادتها كـ”دولة” بحسب التمييز المفهومي الذي يعتمده موريس دوفرجيه. قاصدا بالأولى تراتبية هيئاتها ووجود سلطة عليا سيدة مبرّرة لشرعية ما دونها، وبالثانية موقعها المتفوق في تراتبية مختلف الجماعات في نطاقها.
واذا كان مبدأ سيادة الدولة يفترض نظريا أنها المجموعة الاكثر تنظيما وتفوقا والاقوى من كل الجماعات الاخرى على ارضها، فاننا بدـنا نشهد انجاز تحول الدولة اللبنانية الى طرف ضعيف ودوني واقل تنظيما امام حزب الله.
وإذ كانت الدولة حتى هجمة ايار بدت وكأنها تتعادل نسبيا مع قوة الحزب الخميني، بامتداد هيمنتها المبدئية الى فضاء جغرافي واهلي اوسع، وبلعب وظائف اكثر كثافة وتخصصا وبالإمساك – المبدئي ايضا – بالأجهزة الحكومية اضافة بالطبع الى استئثارها بالاعتراف والشرعية الدوليين، فإن نطاق ونوعية استخدام القوة المسلحة للحزب ونتائجه السياسية والسياق التراكمي الذي جرى ضمنه، يقرّبانه من الاطاحة تقريبا بعناصر هذه الميزة المبدئية.
وهو الامر الذي مكّن الحزب من بداية طرح معلن غالبا وموارب احيانا، لدفتر شروطه على الحكومة الجديدة وعلى الرئيس سليمان معا، وصولا الى التأثير الحاسم على ظروف وشروط إجراء الانتخابات النيابية المقبلة بما يمكّنه من
ربحها مح حلفائه الداخليين والاقيميين وطي “فاصل” وآثار انتفاضة الاستقلال.
وعلى الرغم من إبداء الرغبة بالحوار والاستعداد المعلن لمقتضياته في خطاب امين عام حزب الله في استقبال الاسرى،
فإن مقترحاته العملية ( اشراك الدولة والفئات والطوائف الاخرى في المقاومة وتحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والغجر و”حماية البلد”) لا تشكل قطعا مع السياق السابق، المتمثل بما يسميه الحزب “استراتيجية التحرير والدفاع”. وهي الاستراتيجية التي شكّلت الغطاء لزيادة تسليح الحزب واستقلال جهازه العسكري والامني وعملياتهما بالكامل عن الدولة أجهزة وسياسات منذ انسحاب القوات السورية، قبل وبعد القرار 1701.
واعطى مسؤولون عديدون في الحزب تفسيرات لاحقة تؤكد هذا الاستنتاج. من نوع تكرار الحديث عن المجتمع المقاوم
والدعوة الى الاجماع حول المقاومة التي وصفها الامين العام في الخطاب نفسه بأنها “جوهر وهوية الامّة”.
يمكن ان نرى في الدعوة الى بناء اجماع حول المقاومة عنصرا مستجدا بعد تسفيه سابق للاجماع باعتبار “ان حركات المقاومة في التاريخ لم تنل ولم تنتظر الاجماع ابدا”. والارجح ان هذا الطرح المستجد ناجم عن سببين متصلين:
الاول، هو أن استخدام السلاح في ايار الماضي حقق تقريبا اهدافه السياسية بمعنى إظهار قدرات وممكنات الحزب بالسيطرة العسكرية على العاصمة بكل ما تمثّل وتهديد مناطق اخرى بمواجهات قاسية ومديدة ومكلفة حتى لو كان اجتياحها صعبا. الأمر الذي ادى بالجيش والقوى الأمنية الى الإنكفاء الى حالة حياد شبه سلبي وبأطراف اساسية في 14 آذار الى تقديم تنازلات ملموسة تستبطن – جزئيا على الاقل – حصيلة نسبة القوى.
وطالما أن الخصم بدأ مسارا محدودا ومتفاوتا من الإقرار بنسبة القوى وطالما أن التموضع على الأرض لا زال تقريبا على حاله مع إخفاء مظاهره المسلحة كما يقال، تغدو حاجة حزب الله ماسّة إلى حماية وتعميق هذا المسار بتقديمه على أنه دعوة إلى إجماعات جديدة تقدّم على انها ستنجم عن الحوار ، وتكون في الحقيقة استدراجا لتنازلات سياسية قطعية وليس جزئية ومؤقتة وحسب كما جرى في اتفاق الدوحة.
الثاني، هو أن الحزب بصدد تحضير استباقي لاحتمالات نجاح منحى التسويات في الملفات الاقليمية الساخنة ولما يمكن أن تفرزه من أوضاع وشروط جديدة، على علاقاته وتسلحه وتمويله وعملياته واهدافه. الأمر الذي قد يضع حدودا لاستخدامه المباشر والمكثّف للسلاح لكنه يزيد ايضا حاجته الى الحصول على مكاسب سياسية أساسية تمكّنه ليس فقط من اجتياز المرحلة بسلام بل خصوصا تطوير وتوسيع دور القوة الاولى في التأثير على الدولة وفي عملية اعادة تركيبها تحت مسميّات مختلفة من نوع اعادة انتاج السلطة او تحقيق”الدولة القادرة والعادلة” او غيرها من الصيغ. وهي سياسة تعتبر الانتخابات المقبلة محطة مفصلية في التمكن من تحقيق اهدافه، مستفيدا من ضغط أطياف السلاح وفتور التنسيق بين قوى 14 آذار ومن منحى التطورات الاقليمية والدولية كما يفسّره الحزب.
وضمن هذا السياق يصح طرح علامات استفهام قوية عن آفاق الحكومة الجديدة كحكومة انتقالية “انتخابية” مهددة بضغط الاوضاع ونسبة القوى على الارض وبالثلث المعطّل، معا. كما يصح التساؤل عن السياق الذي ستدخل فيه الدولة كبنيان سياسي قانوني وكأجهزة. وهو سياق يوحي باحتمالين غير مشرقين:
الاول، ان يتبلور الاقتطاع الطوائفي والشلل التقريري داخل هيئات الدولة وفي ممارستها لوظائفها الطبيعية بفعل حق النقض وحدة الاستقطاب وعجز اي من الاطراف عن الحسم. وفي ذلك مخاطر على استمرارية النظام نفسه في وضع لا يملك فيه آليات سياسية ودستورية لمعالجة هذين الانقسام والشلل. كما في ذلك مخاطرة باستئناف سياسة حافة “الحرب الاهلية” المبردّة حاليا. وهو وضع قد يكون مفيدا لبعض القوى الاقليمية.
والثاني وهو الاقل احتمالا، ان يتمكن حزب الله من انتزاع “الإعتراف” بأرجحيته في تحديد مسار الدولة ووجهة تعديل بناها وسياساتها حتى قبل إجراء الانتخابات. وهو ما يسعى اليه سعيا حثيثا. حيث يتمسك الحزب في مناقشات البيان الوزاري بصياغات تركّز على شرعنة واضحة لسلاحه تحت صيغة ال”تناغم” بين المقاومة والدولة ضمن الاستراتيجية الدفاعية رغم محاولات الرئيس بري تخفيف آثار اقرار هذه الصيغة حين يقول أن “المقاومة مستعدة لأن تكون جزءا من الاستراتيجية الدفاعية وليست كلها”. إذ ان الاساس هو بقاء سلاح الحزب واستخداماته الاحتمالية في الضغط على السياسة والاختلافات الاهلية خارج المساءلة واستبعاد بدء مسار استيعابه وحامليه ضمن هيئات وبنى الدولة.
اما الاحتمال الثالث الممكن نظريا، وهو تصدع 14 آذار وتراجع قسم منها تحت الضغوط المتقاطعة فيصب فعليا في الاحتمال الثاني ويسعى الحزب الى نشر الشعور بإمكان حدوثه بذريعة المصالح الانتخابية لبعض قوى التحالف الاستقلالي الفضفاض.
وكل ذلك في حال حدوثه يهدد بجعل العهد الجديد بمثابة وعاء لاستمرار الازمة وربما تعميقها مع مخاطر حاسمة على الدولة ككيان وكبنى. كما ان من شأنه استبعاد نجاح المساعي المترددة الى تشكيل كتلة وسطية تتجمع حول الرئيس سليمان وما عكسه من سياسة في خطاب القسم.
nhilal@club-internet.fr
• كاتب لبناني