كان الدكتور. محمد طه بدوى وأحدا من أساتذة القانون العام البارزين خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، له إسهامات عديدة من أهمها تأسيسه لقسم العلوم السياسية بكلية التجارة جامعة الإسكندرية، تتلمذ على يديه عددا كبيرا من الباحثين في مجال العلوم القانونية والسياسية، لذا فقد حظي باحترام كبير على المستوي الأكاديمي والشخصي، ويكفي أنه صاحب مقاربة واضحة تصل إلى حد التنظير في العلوم السياسية، حيث كان يرى أن الدولة القومية المعاصرة بحكم طابعها المؤسسي تنقسم إلى مؤسسات سياسية، وأخرى غير سياسية، تبعا لاختصاص كل منهم (1) وأنه من الطبيعي أن تخضع المؤسسات غير السياسية في أداء وظائفها لسيطرة المؤسسة السياسية، وذلك لسببين أولهما: ما تتميز به المؤسسة السياسية من تمتع قراراتها بصفة العمومية، ثانيهما: ضمان تحقيق التعاون والانسجام والتكامل بين هذه المؤسسات على اختلافها في خدمة استقرار المجتمع واستمراره وتحقيق أهدافه العليا.
ويأتي موقع المؤسسة العسكرية ضمن مؤسسات الدولة غير السياسية، نظراً لكونها تقوم بوظيفة غير سياسية قوامها الذود عن أرض الوطن ضد أي أخطار قد تهدد أمنه واستقراره واستمراره، بعبارة أخرى هي مؤسسة إدارية بحته فنية صرفه ينحصـر دورها في إدارة الحرب دون اتخاذ قرار الحرب ذاته، ذلك أن قرار الحرب يعد عملا سياسيا من اختصاص المؤسسات السياسية ولاسيما التشريعية منها، بينما تقع مهمة اختيار الطرق الفنية المناسبة لتنفيذ هذا القرار على عاتق العسكريين، لذلك يمكن القول أن المؤسسة العسكرية هي مؤسسة إدارية يتولاها فنيون مهمتهم تنفيذ قرار الحرب وليس اتخاذه (2).
وقد تمنى الدكتور طه بدوى أن يتصدى أحد تلاميذه لدراسة ظاهرة الحكومات العسكرية في المنطقة العربية في محاولة استقراء أحد أبرز الظواهر السياسية التي انتشرت بين دول هذه المنطقة عقب استقلالها، وذلك بهدف الوقوف على أثر هذه الحكومات على ممارسة الحياة السياسية في تلك الدول، ومدى نجاحها في تحقيق الاستقرار في الأوضاع الداخلية، وهذا ما قامت به باقتدار وتمكن الباحثة النابهة آيات محمد عبد الوهاب وحصلت بهذه الدراسة على درجة الماجستير في العلوم السياسية.
تستهل الباحثة بحثها بتناول الإطار النظري للدراسة، والذي يتحدد في التعريف بظاهرة الحكومات العسكرية، تلك الظاهرة التي انتشرت انتشاراً واسعاً بين الدول حديثة الاستقلال والتي اصطلح على تسميتها بدول العالم الثالث، ومن بينها دول المنطقة العربية، وهذه الظاهرة مردها في الأساس إلى طبيعة العلاقات المدنية / العسكرية داخل الدولة المعاصرة، ومدى خضوع أدوات الإكراه المادي في المجتمع، والتي تجسدها المؤسسة العسكرية لسيطرة السلطة السياسية المدنية، فكلما ضعفت هذه السيطرة لصالح المؤسسة العسكرية، كلما اقتربنا من تحقق الظاهرة، وكلما قويت هذه السيطرة لصالح السلطة المدنية ابتعدنا عن تحقق الظاهرة، لذلك يتطلب التعريف بالظاهرة البدء بالوقوف على موقع المؤسسة العسكرية وطبيعة الوظيفة المنوطة بها وفقاً لما استقر العمل به في الدولة القومية المعاصرة، ثم ننتقل إلى التعريف بمفهوم الحكومات العسكرية باعتباره مفهوم الأساس لظاهرة الحكم العسكري وفى ضوء التعريف بمفهوم الأساس نستطيع استخلاص المعايير الرئيسية التي نستند إليها في تمييز الحكومات العسكرية عن غيرها من أشكال الحكم الأخرى ومن ثم اختبار مدى توفرها.
فعبارة الحكومة العسكرية تتضمن أمرين: الحكومة، والعسكرية، أما لفظ الحكومة فقد ورد بشأنه العديد من التعريفات منذ أفلاطون وحتى الآن (3) حيث استقر المعنيون بتنظير خصائص الدولة القومية المعاصرة على تعريف الحكومة بأنها ذلك الكائن العضوي الذي يباشر السلطة السياسية في الدولة لا بوصفه صاحبها وإنما بصفته أداة الدولة في ممارسة مظاهر السلطة السياسية في المجتمع، فتصدر عنه قرارات ملزمة للمحكومين، ولكن هذه السلطة الموكلة له تظل مقيدة لصالح الدولة فهو يأمر ويؤتمر بأمرها لا لكونه صاحب هذه السلطة – فهي ليست حقاً خالصاً له – وإنما لكونه عاملاً عليها لحساب ذلك الكائن الاعتباري – الدولة – (4).
ويستند مفهوم الحكومة إلى ثلاث مقومات رئيسية، الأول مؤسسي ويتعلق بالمؤسسات والهياكل السياسية، والثاني أيدلوجي ويتعلق بالأيدلوجيات التي قامت إعمالاً لها المؤسسات السياسية، والثالث حركي ويتعلق بعملية صنع القرار (5) بينما لفظ العسكرية يفيد في موقعه تمييز أعضاء هذا الكيان العضوي عن غيره، أي الضباط العاملون بالمؤسسة العسكرية، ووظيفتهم الدفاع عن الوطن كما سبق وأشرنا، والمؤسسة العسكرية بمدلولها الواسع تشتمل على القوات المسلحة بفروعها الرئيسية الثلاثة البرية والجوية والبحرية بالإضافة إلى قوات الشرطة، والميليشيات العسكرية والميليشيات الحزبية، وقوات الحرس الخاص، أما بمدلولها الضيق فتشتمل على القوات المسلحة فقط بفروعها الرئيسية البرية والبحرية والجوية (6).
ومن ثم فإن عبارة الحكومة العسكرية تعنى من حيث المدلول اللفظي أن الكيان العضوي الذي يباشر السلطة السياسية في الدولة يتشكل أعضاءه من الضباط العسكريين، هذا وقد ورد في شأن التعريف الاصطلاحي للحكومة العسكرية العديد من التعريفات نذكر منها على سبيل المثال، تعريف “خوندار” للحكومة العسكرية بأنها السيطرة المباشرة على السلطة السياسية من جانب مجموعة من أعضاء القوات المسلحة، ويكون لهذه السيطرة انعكاساتها بعيدة المدى على السياسات الداخلية والخارجية للدولة (7) بينما يعرفها “جيفن كيندى” بأنها تلك الحكومة التي تستولي على السلطة بوسائل غير دستورية وغير شرعية (8) وتعرفها “الموسوعة البريطانية” بأنها تلك الحكومة التي يحل فيها العسكريون محل المدنين في تولى السلطة السياسية في الدولة، بوسائل غير دستورية (9) أما ” صموئيل فاينر” فيرى أن الحكومة العسكرية هي الإحلال القهري أو الجبري للمدنيين شاغلي السلطة، بعناصر أخرى من القوات المسلحة (10).
ومن جملة ما تقدم نخلص إلى تعريف الحكومة العسكرية بأنها استيلاء العسكريين على الحكم بوسائل غير شرعية، وفى ضوء التعريف السابق يمكن تحديد معيارين أساسيين نستطيع من خلالهما تمييز الحكومات العسكرية عن غيرها، واختبار مدى توفرها، ومن ثم الحكم بوجود حكم عسكري من عدمه، هذان المعياران هما:
• الوسيلة التي استخدمها العسكريون للوصول إلى الحكم.
• والمصادر التي يستندون إليها للاستمرار في الحكم وكسب التأييد السياسي وإضفاء مظاهر الشرعية على وجودهم في السلطة.
وتتركز الوسائل التي يتخذها العسكريون في الاستخدام المباشر للقوة المسلحة أو التهديد باستخدامها ضد النظام المدني القائم، فيما يعرف بالانقلاب العسكري “Military Coup “11 ولفظة الانقلاب تعنى في مدلولها اللغوي قلب الشئ، أي انقلب عليه بينما تعنى كمصطلح سياسي، التخطيط المسبق والدقيق لمجموعة من الأفراد ليس لهم الشرعية أو المشروعية في إحلال الحكومة القائمة بالعنف أو التهديد باستخدام العنف (12) ومما يساعد العسكريين على استخدام العنف أو التهديد به تلك الإمكانيات الهائلة المتاحة لهم دون غيرهم من فئات المجتمع حيث تتميز المؤسسة العسكرية باحتكارها ملكية أدوات الإكراه المسلح في المجتمع كما سبق وأشرنا.
ومن أهم التعريفات الواردة بشأن مفهوم الانقلاب العسكري ، تعريف ” رابابورت ” حيث يرى أنه حركة مفاجئة، خادعة، عنيفة وغير شرعية تحتاج لمهارة عالية من جانب القائمين بها من العسكريين هدفها تغيير الحكومة القائمة (13) ويتفق معه “هرزى وايتر” في أن الانقلاب العسكري، هو محاولة منظمة تنظيماً دقيقاً من العسكريين هدفها قلب نظام الحكم المدني، ويؤكد هرزى أن هذه المحاولات رغم مظهرها العسكري، إلا أن مضمونها وهدفها سياسي، وهو قلب نظام الحكم (14) أيضاً يرى “روزمرى اوكان” أن الانقلاب العسكري هو استراتيجية خاصة للعسكريين هدفها الإطاحة بنظام الحكم القائم، وجوهرها الهجوم المفاجئ على الحكومة القائمة (15).
ومفهوم الانقلاب العسكري بمدلوله المتقدم قد يتشابه في بعض جوانبه مع مفهوم الثورة لذلك نجد لزاما علينا التمييز بين المفهومين، فرغم وجود اختلافات بين عديد من المفكرين حول مفهوم الثورة إلا أن هناك شبه اتفاق على أنها تمثل استخدام العنف بهدف تحقيق تغيير شامل وجذري في المجتمع، هذا التغيير يشمل القيم والبنية الاجتماعية والمؤسسات السياسية والنخبة الحاكمة، ويأتي الخلط بين مفهومي الثورة والانقلاب العسكري من أن كليهما يعتمد على استخدام العنف بصرف النظر عن طبيعة هذا العنف وصولاً لتحقيق هدفه، بينما يتباين المفهومان من حيث طبيعة وعمق الهدف، فهدف الثورة يبدو أشمل وأعمق بحيث يتسع ليشمل التغيير والتأثير في كافة قطاعات المجتمع مقارنة بهدف الانقلاب العسكري الذي يقتصر على تغيير النخبة الحاكمة.
أما بخصوص المعيار الثاني فإن الحكومات العسكرية تستمد التأييد السياسي لاستمرارها في الحكم من مساندة القوات المسلحة لها، فكما أن الحكومات العسكرية تعتمد على استخدام القوة للاستيلاء على الحكم، نجدها أيضاً تستمر في استخدام القوة للاستمرار في الحكم، فاحتكار العسكريين لأدوات العنف في المجتمع، يمكنهم من تسخير إمكانياتهم هذه في صالح استمرار وجودهم غير الشرعي في السلطة، لذلك نلاحظ حرص الحكومات العسكرية مع بداية عهدها بالسلطة بصفة خاصة، على استرضاء قواتها المسلحة لتضمن ولاء وتأييد الضباط وعدم انقلابهم ضدها فيما يعرف بالانقلابات المضادة.
عوامل التدخل العسكري في الحكم
تتباين العوامل التي تؤدى لتدخل العسكريين تدخلاً مباشراً في الشئون السياسية ما بين عوامل أساسية تهيئ لها البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع وعوامل أخرى ثانوية تساهم في نجاح التدخل والسيطرة العسكرية على العملية السياسية.
أما العوامل الأساسية فنذكر منها:
أ – ميكانيزم انتقال السلطة، ونقصد به كيفية تداول السلطة والطريقة المتبعة لاختيار القائمين على السلطة التنفيذية في الدولة، وقد استقر العمل في الدول المتقدمة على استخدام نظام الانتخابات الدورية كوسيلة وأسلوب دستوري يتيح للمواطنين حرية الاختيار لحكامهم (16) في حين تعد كيفية تداول السلطة واختيار حاكم جديد للدولة، واحدة من أخطر المشكلات السياسية التي تواجها نظم الحكم في الدول النامية على وجه الخصوص وذلك نظراً لغياب ميكانيزم واضح وشرعي يحكم عملية انتقال السلطة في تلك الدول، وهو الأمر الذي أتاح المجال لوصول العسكريين إلى السلطة السياسية والسيطرة عليها.
ب – الصراعات السياسية بين أفراد النخبة الحاكمة، حيث يلاحظ أن نظام الحكم في معظم دول العالم الثالث تنتشر بينها محاولات الحاكم للانفراد بالحكم دون معارضة ، وقد يصل الأمر أحياناً إلى التخلص من المنافسين باستخدام العنف وفى نفس الوقت العمل على كسب التأييد الجماهيري لشخصه فقط. الأمر الذي يؤدى لظهور العديد من الصراعات والانقسامات في صفوف النخبة السياسية في قمة الهرم السياسي مما يهيئ لانتشار الاضطراب وعدم الاستقرار في الدولة ، وبالتالي يتدخل العسكريون بدافع حسم هذه الصراعات واسترداد الاستقرار الداخلي وعادة ينتهون إلى حسمه لصالحهم ويسيطرون بأنفسهم على مقاليد الحكم (17).
جـ – ضعف الممارسة الحزبية ،فرغم تنوع النظم الحزبية بين دول العالم الثالث، إلا أن بعضها يعمل بنظام الحزب الواحد والآخر بنظام التعدد الحزبي لكن الملاحظ أن الحياة الحزبية في تلك الدول ما تزال ضعيفة حتى أنها لتعجز عن تعبئة الجماهير في اتجاه أهداف الحزب، ويرجع ذلك لتورط أعضاء هذه الأحزاب في غالبيتهم في صراعات داخلية تؤثر سلبياً على أداء الحزب ووضعه في المجتمع، أيضاً نلاحظ أن نظم الحكم السائدة في معظم دول العالم الثالث، تعجز عن احتواء نشاط أحزاب معارضة، فهي تعمل على تهميش النشاط السياسي وغير السياسي لأحزاب المعارضة حتى أن بعض النظم قد تلجأ للقوة والقمع لفرض الطاعة والولاء للحزب الحاكم، وبالتالي يؤدى ضعف وفساد الممارسة الحزبية السياسية إلى طرح التدخل العسكري كأحد البدائل للتصدي لما يعانيه النظام المدني القائم من فساد سياسي (18).
د – المشكلات الاقتصادية المتراكمة التي تعانى منها معظم دول العالم الثالث والتي من أهم أسبابها اعتماد هذه الدول على الموارد الأولية في التصدير، مما يحولها إلى اقتصاديات تابعة للدول المتقدمة المستوردة لهذه المواد الأولية وفى نفس الوقت تصبح مجرد أسواق استهلاكية تستورد السلع الصناعية الأساسية من تلك الدول، ويؤدى سوء الأوضاع الاقتصادية وتواضع التصنيع والاستثمار إلى تفشى البطالة وانخفاض مستوى دخل الفرد على المستوى الداخلي وتراكم الديون الخارجية على المستوى الخارجي، وهذه المشكلات والأوضاع الاقتصادية المتدهورة تدفع بالعسكريين للتدخل والإطاحة بالسلطة المدنية العاجزة عن حل هذه المشكلات.
هـ – أزمة إعادة توزيع الدخول والثروات، وهى من أهم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية أيضاً، التي تدفع لحدوث التدخل العسكري الانقلابي بدعوة إعادة توزيع الثروات في المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية، وعموماً يتخذ العسكريون من الأزمات والمشكلات الاقتصادية المتراكمة مبرراً كافياً للتدخل والسيطرة على السلطة السياسية بدعوة الرغبة في تصحيح الأوضاع الاقتصادية.
و – الطبيعة الخاصة للتركيب الاجتماعي لمعظم دول العالم الثالث حيث تتسم بالضعف بسبب أمراض اجتماعية مستوطنة في تلك المجتمعات أهمها التعددية العرقية والدينية والقبلية المتطرفة وهى أمراض لم تنجح المدنية الحديثة في القضاء عليها، بل إن الاستعمار الأوروبي الذي استمر لعقود في تلك المجتمعات عمل على تعميق هذه الأمراض الاجتماعية وتغذيتها بوضع حدود سياسية لا تتلاءم والحدود الجغرافية مما نتج عنه العديد من أزمات الحدود والصراعات، ويأتي تدخل المؤسسة العسكرية في محاولة لتحقيق التكامل والتماسك في البناء الاجتماعي للدولة بعد فشل السلطة المدنية في تحقيق ذلك.
ز – الصراع الطبقي يعد بدوره واحد من أبرز العوامل الاجتماعية لتدخل العسكريين في محاولة لحسم الصراع بين طبقة المالكين وغير المالكين في المجتمع.
أما العوامل الثانوية فنذكر منها:
أ – دور القوى الخارجية خاصة الدول الغربية التي طالما استعمرت دول العالم الثالث، وما تزال تعمل على استمرار سيطرتها ونفوذها في الدول النامية وذلك للحفاظ على مصالحها في تلك الدول، ومن الأساليب المستخدمة لتحقيق ذلك مساندتها للحكومات العسكرية طالما أن هذه الحكومات موالية وتابعة لها والعكس إذا كان قادة الانقلاب معارضين لمصالح القوة الخارجية.
ب – عدوى انتشار الانقلابات بين شعوب المنطقة الواحدة حيث يؤدى حدوث انقلاب عسكري في دولة ما إلى احتمال تكرار نفس الظاهرة في دول أخرى مجاورة، فيما يطلق عليه عدوى الانقلابات العسكرية، وهو ما نلاحظه في سلسلة الانقلابات المتعاقبة في دول العالم الثالث عموماً خلال النصف الثاني من القرن العشرين (19).
حـ – السمات الهيكلية للمؤسسة العسكرية، حيث التدرج الهرمي للسلطة العسكرية بداية بالقائد الأعلى للقوات المسلحة انتهاءاً بالمجند البسيط، وسيادة مفهوم الطاعة والولاء وفقاً لهذا التدرج مما يضمن تنفيذ الأوامر دون تردد، وبالتالي يسهم لحد كبير في نجاح الانقلاب عندما يصدر قادته الأوامر لمن دونهم من الرتب فيطيعونهم (20) هذا بالإضافة إلى الإمكانيات الهائلة التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية باحتكارها لأدوات العنف من أسلحة متطورة وشبكات اتصالات ومواصلات عالية الكفاءة تحقق لها سرعة إتمام المهام العسكرية، كما أن المؤسسة العسكرية بصفة خاصة تحتكر النصيب الأكبر من ميزانية الدولة نظراً لدورها الاستراتيجي في حفظ أمن وسلامة الوطن (21) وهذه الإمكانيات التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية توفر للعسكريين القوة والقدرة على تنفيذ خطة الانقلاب والإطاحة بالسلطة القائمة والسيطرة على الحكم.
د – السخط وعدم الرضي الشعبي عن سوء وتدهور الأوضاع الداخلية للحكم المدني القائم، والذي يعبرون عنه في صورة اضطرابات ومظاهرات شعبية ولكنها لا ترقى للإطاحة بالحكم، نظراً لافتقادها للقيادة والتنظيم ومختلف إمكانيات القوة والعنف المسلح إلا أن هذه الحالة من عدم الرضي تساعد إلى حد كبير على قبول الجماهير للتحرك العسكري والإطاحة بالنظام القائم الذي فقد شعبيته (22).
هـ – الهزائم العسكرية التي قد تتعرض لها الجيوش، يرى البعض أن لها أثراً سلبياً في نفوس العسكريين خاصة صغار الضباط، تجعلهم يندفعون للتخلص من حكوماتهم وقادتهم بعد تحميلهم مسئولية هذه الهزائم التي لحقت بالجيش، على سبيل المثال هزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين 1948، كانت واحدة من أسباب سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة العربية فيما بعد (23).
أشكال الحكومات العسكرية وخصائصها
تتخذ ظاهرة الحكومات العسكرية عند التطبيق عدة أشكال تتحدد هذه الأشكال وفقاً لطبيعة العلاقات المدنية / العسكرية، والتي تتفاوت درجاتها تبعاً لتفاوت درجات التدخل العسكري في الشئون السياسية، ومن أهم الدراسات الواردة في هذا الشأن دراسة ” لفاينر ” يميز فيها بين أربعة أنواع من نظم الحكم وفقاً للعلاقات المدنية / العسكرية (24).
– النوع الأول، ويشمل نظم مدنية تعتمد في بقائها واستمرارها على مساندة القوات المسلحة لها كمصدر للتأييد السياسي ومن أمثلة هذا النوع نذكر المغرب والأردن ويطلق عليها فاينر ” Military Supportive Regimes “.
– النوع الثاني، ويشمل نظم مدنية أيضاً، ولكن قواتها المسلحة ذات نزعة انقلابية بمعنى أنها مستعدة للتدخل والإطاحة بالنظام المدني إذا اقتضت مصالحها ذلك خاصة وأن لها تجارب سابقة في التدخل، ومن أمثلة هذا النوع القوات المسلحة التركية ويطلق فاينر على هذا النوع اسم ” Intermittently Indirect Military Regimes “.
– النوع الثالث، يشمل تلك النظم المدنية التي وصلت إلى السلطة بفضل القوة العسكرية التي تساندها وتؤيدها، وهذا النوع أكثر وضوحاً في أمريكا اللاتينية وأفريقيا على وجه الخصوص، حيث تدخل العسكريون في عديد من الحالات لصالح جماعة مدنية معينة ويطلق عليها فاينر اسم ” Indirect Military Regimes “.
– النوع الرابع، ويشمل الحكومات العسكرية الخالصة التي تقوم نتيجة استيلاء العسكريين على السلطة من خلال عمل عسكري انقلابي، وسيطرتهم على عملية صنع القرار الحكومي، ومن أمثلتها سوريا من عام ( 1949 – 1954 ) والسودان من عام ( 1958 – 1964 ) ويطلق عليها فاينر ” Proper Military Regimes “.
ومن جملة ما تقدم نستطيع أن نحدد شكلين رئيسيين للحكومات العسكرية:
– الشكل الأول، حكومات عسكرية صريحة (صرفة): ويتسم هذا النوع بالسيطرة العسكرية الكاملة على عملية صنع القرار مع استبعاد أي مشاركة للعناصر المدنية، وعادة ما يبدو هذا النوع أكثر وضوحاً خلال السنوات الأولى من قيام الحكم العسكري، ويتسم هذا الشكل باتخاذه لعدة إجراءات من شأنها إطلاق يد العسكريين في الحكم وبسط سيطرتهم الكاملة دون قيود، من أهم هذه الإجراءات حل المجالس التشريعية، ووقف العمل بالدستور وحل الأحزاب السياسية، وكلها إجراءات تتلاءم وطبيعة الجهاز العسكري باعتباره جهاز ردع وقمع، لا يسمح بوجود قيود (دستورية) على أداءه كما لا يقبل الرقابة من أي نوع (حزبية أو برلمانية ) فالخبرة السياسية المحدودة للعسكريين في مواجهة القوى السياسية الشرعية الأخرى المنافسة لها في مجال العمل السياسي يجعل من هذه القوى هدفاً للعسكريين للتخلص منهم والقضاء عليهم.
لذلك فإن هذا الشكل من الحكم عادة ما يعانى من افتقاره للشرعية سواء في طريقة الوصول للحكم أو طريقة إجراءاته وممارساته، وقد أطلق ريتشارد روبنس على هذا الشكل من الحكومات العسكرية اصطلاح الديكتاتورية العسكرية وذلك في تحليله لحكم تركيا الفتاة (25) في حين استخدم إِ. سيكيلز تعبير الأوليجاركية العسكرية ليعبر بها عن الحكومات التي تلغى المجالس البرلمانية وتقضى على كل معارضة (26) ومن أمثلة الحكم العسكري الصريح نذكر: الحكم العسكري في سوريا عام 1949 بزعامة حسنى الزعيم والحكم العسكري في السودان عام 1958 بزعامة إبراهيم عبود.
– الشكل الثاني، حكومات عسكرية غير صريحة: ويتسم هذا النوع بتفاوت السيطرة العسكرية على الحكم حيث تسمح بالمشاركة المدنية في السلطة، ولكن نفس هذه المشاركة تتخذ درجات ما بين مشاركة يغلب عليها الطابع العسكري فهي لصالح العسكريين ويلعب المدنيون فيها دوراً هامشيًا أو العكس بمعنى تزايد المشاركة المدنية في غير صالح العسكريين، وقد تتحقق هذه المشاركة في المراحل الأولى للحكم ولكن في الأغلب الأعم أنها تأتى في مراحل تالية للحكم العسكري، حيث يهدف العسكريون من وراء السماح بمشاركة المدنيين لهم في الحكم إلى إضفاء الطابع المدني على حكوماتهم ومن ثم معالجة أزمة الشرعية التي تواجهها حكوماتهم وتهدد استمرارهم في السلطة.
والتحالفات العسكرية المدنية تبدو شكلاً في صالح مزيد من السيطرة المدنية، بينما في حقيقة الأمر يحتفظ العسكريون بالسيطرة الفعلية لصالحهم، ومن أمثلة التحالفات العسكرية المدنية نذكر، التحالف العسكري بقيادة ضباط اللجنة العسكرية السرية السورية والمدني بقيادة حزب البعث في سوريا عام 1963، والتي وصل بمقتضاها حزب البعث لأول مرة إلى الحكم، والتحالف المدني بقيادة بن بيلا، والعسكري بقيادة الكولونيل هوارى بومدين في الجزائر عام 1962 – 1965، والملاحظ أن كلا التحالفين انتهى باحتفاظ العسكريين بالسيطرة الفعلية.
الانتشار المعاصر لظاهرة الحكومات العسكرية في المنطقة العربية:
إن الانتشار المعاصر للحكومات العسكرية في المنطقة العربية يرتبط في ظهوره باستقلال هذه الدول من قبضة الاستعمار الأوروبي، أي أن ثمة علاقة توافق غير حتمية بين هذين المتغيرين، الاستقلال وانتشار الحكم العسكري، وهذا التوافق مرجعه أن وجود الاحتلال ذاته لا يسمح بالتدخل العسكري المباشر (27) لما في ذلك من تهديد لوجوده وسيطرته كمستعمر وبالتالي يستحيل أن نرصد حالة لانقلاب عسكري معاصر في ظل وجود مستعمر أجنبي.
فقد يحدث أن تقبل سلطات الاحتلال بالتمرد، كما حدث في الهند عام 1857 في ظل الاحتلال البريطاني، لكنها لا تسمح بالانقلاب، ومن ثم نلاحظ أن انتشار ظاهرة الحكم العسكري في المنطقة العربية جاءت في أعقاب الاستقلال بسنوات متفاوتة من دولة لأخرى، ويقدم الجدول التالي رصدا تاريخيا لحالات التدخل العسكري المباشر في المنطقة العربية وفقاً لسنوات استقلالها (28).
الترتيب الدولة تاريخ الاستقلال تاريخ الانقلاب الأول الدورة الزمنية النتيجة
1 العراق 1932 26/ 10 / 1936 أربع سنوات نجح
2 سوريا 1946 30 / 3 / 1949 ثلاث سنوات نجح
3 لبنان 1946 30 / 12 / 1969 خمسة عشر سنة فشل
4 مصر 1954 23 / 7 / 1952 – نجح
5 السودان 1954 17 / 11 / 1958 أربع سنوات نجح
6 الأردن 13 / 3 / 1957 13 / 4 / 1957 شهر فشل
7 الجزائر 1963 1965 سنتان نجح
8 اليمن 1963 26 / 9 / 1962 – نجح
9 ليبيا 1952 1 / 9 / 1969 سبعة عشر سنة نجح
يتبين لنا من الرصد السابق أن العراق تأتى في الصدارة حيث استقلت سنة 1932 وشهدت أول انقلاب عسكري – والذي يعتبر أيضا الانقلاب الأول في المنطقة العربية – بعد أربع سنوات فقط من الاستقلال وبالتحديد في 26/10/1936 قاده بكر صدقي نائب القائد الأعلى ضد النظام الملكي القائم، نتج عنه تدخل مباشر من العسكريين، يليها سوريا ولبنان، وكلاهما استقل في نفس العام 1946، أما سوريا فشهدت أول انقلاب بعد ثلاث سنوات فقط من الاستقلال سنة 1949 بقيادة حسنى الزعيم قائد الجيش ونتج عنه حكومة عسكرية صريحة.
في حين شهدت لبنان أول انقلاب بعد خمسة عشر عاماً من استقلالها في 31/12/1961، وهى فترة طويلة مقارنة بنظائرها في المنطقة، ثم تأتى ليبيا التي استقلت في عام 1952، ولم تشهد تدخلاً عسكرياً مباشراً من العسكريين في صورة انقلاب إلا بعد مرور سبعة عشر عامًا من الاستقلال أي في 1/9/1969 وهو انقلاب وحيد لم يتكرر قاده صغار الضباط بزعامة العقيد القذافى ونتج عنه قيام حكومة عسكرية صريحة (29).
وفى عام 1954 تحقق لمصر الجلاء التام لآخر جندي بريطاني وعلى خلاف النماذج السابقة نلاحظ في حالة مصر أن الانقلاب الأول وقع في 23/7/1952 أي قبل تحقيق الجلاء التام بعامين، وهى حالة استثنائية في المنطقة، نجح خلالها الانقلاب في الإطاحة بالحكم الملكي في مصر وتحويلها لجمهورية يحكمها الضباط الأحرار قادة الانقلاب الناجح وهم مجموعة من صغار الضباط المصريين كان لهم أكبر الأثر على دول المنطقة العربية التي تأثرت لحد كبير بالتجربة المصرية الناصرية وعملت على تقليدها مثل ليبيا عام 1969 والعراق عام 1958.
ثم تأتى بعد مصر مباشرة السودان التي استقلت في 1953 بناء على الاتفاقية الموقعة بين مصر وإنجلترا بخصوص حق السودان في تقرير مصيره خلال فترة انتقال ثلاث سنوات اختار قبل انتهائها الانفصال عن مصر عام 1954، وفى عام 1958 أي بعد أربع سنوات فقط من استقلالها شهدت أول انقلاب عسكري قاده إبراهيم عبود قائد الجيش نتج عنه حكومة عسكرية ديكتاتورية.
أما الأردن فاستقلت في 13/3/1957 بعد توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا وشهدت أول انقلاب في 13/4/1957 أي بعد شهر واحد من الاستقلال وهى أدنى دورة زمنية مقارنة بانقلابات الدول العربية الأخرى، لكنها باءت بالفشل.
وبالنسبة للجزائر فقد استقلت في 18/6/1963 بعد توقيع اتفاق الجلاء مع فرنسا واختيار شعب الجزائر للانفصال عن فرنسا وقد سبق هذا الاتفاق كفاح مسلح لإجبار المستعمر على الجلاء، أما أول انقلاب في الجزائر فوقع عام 1965 بقيادة ضباط جبهة التحرير، وهم من ضباط الجيش الجزائري الذين شاركوا في الكفاح المسلح ضد المستعمر، ونتج عن هذا الانقلاب حكومة عسكرية.
أما حالة اليمن فنلاحظ أنها تمثل حالة استثنائية مقارنة بالدول العربية الأخرى في المنطقة ذلك أن اليمن لم تعانى من الاستعمار، بل نجحت في الاحتفاظ باستقلالها بعيداً عن السيطرة العثمانية وبالتالي لم تقع في يد الاستعمار الغربي واكتفت إنجلترا بوجودها العسكري في منطقة عدن الاستراتيجية رغم ذلك حدث أن شهدت أول انقلاب عسكري على الأئمة الزيديين في 26/9/1962 بقيادة عبد الله السلال نتج عنه الإطاحة بحكم الإمامة وإعلان اليمن جمهورية وتشكيل حكومة عسكرية.
من جملة ما تقدم عن رصد لحالات التدخل العسكري المباشر في المنطقة العربية في أعقاب استقلالها نلاحظ ما يلي:
1 – انطلاقاً من علاقة التوافق بين الاستقلال المعاصر للدول العربية وانتشار التدخل العسكري في الشئون السياسية نلاحظ أن استقلال هذه الدول تحقق خلال فترة زمنية امتدت من الثلاثينيات وحتى الستينيات، فبعض هذه الدول استقلت مبكراً مقارنة بأخرى، على سبيل المثال استقلت العراق عام 1932 أي قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية مقارنة بالجزائر التي استقلت عام 1963 أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بثمانية عشر عامًا حيث تباينت الوسائل التي اتبعتها الدول العربية للحصول على استقلالها بعضها تحقق عن طريق اتفاقيات الجلاء مثل مصر والسودان والعراق والأردن، وآخرين عن طريق عرض القضية على مجلس الأمن مثل سوريا ولبنان وليبيا، وثالثة عن طريق الكفاح المسلح مثل الجزائر، كما هو موضح في الجدول التالي.
جدول يوضح توزيع دول المنطقة العربية وفقاً لطريقة الاستقلال
دول استقلت عن طريق إبرام اتفاقيات جلاء دول استقلت عن طريق قرار من مجلس الأمن دول استقلت بالكفاح المسلح
– الأردن سنة 1957 – سوريا سنة 1946 الجزائر سنة 1963
– العراق سنة 1932 – لبنان سنة 1946
– السودان سنة 1953 – ليبيا سنة 1949
– مصر سنة 1954
– تونس سنة 1955
2 – أيضاً نلاحظ أن علاقة التوافق المشار إليها نسبية وليست حتمية، ويتضح ذلك من حالة اليمن التي أشرنا إليها من قبل، كما يتضح في دول عربية مثل تونس والسعودية ودول الخليج التي لم تنتشر بينها الحكومات العسكرية في أعقاب استقلالها.
أما بالنسبة لمصر فقد شهدت التدخل العسكري الأول عام 1952 أي قبل توقيع اتفاقية الجلاء التام مع بريطانيا عام 1954 ولكن الثابت تاريخياً أن إنجلترا أنهت احتلالها لمصر عام 1947، وذلك بانسحاب قواتها من جميع المدن المصرية – فيما عدا منطقة القناة – وبموجب اتفاقية عام 1954 المبرمة بين مجلس قيادة الثورة المصرية والسلطات البريطانية تم جلاء آخر جندي بريطاني عن الأراضي المصرية سواء في منطقة القناة أو غيرها.
3 – لا يمكن تحديد دورة زمنية معينة لحدوث التدخل العسكري في الحكم عقب الاستقلال، ذلك أن سنوات استقلال الدول العربية كما سبق وأشرنا متباينة وتبعاً لذلك قد تتراوح الفترة بين استقلال الدولة وحدوث أول تدخل عسكري في الحكم بين سنتين وأربع سنوات كما هو الحال بالنسبة للعراق وسوريا والجزائر والسودان وقد تتجاوز إلى عشر سنوات وخمس عشرة سنة كما في لبنان وليبيا، فبناء على تاريخ استقلال هذه الدولة وعوامل أخرى داخلية يتحدد التدخل العسكري الأول.
4 – إن انتشار ظاهرة التدخل العسكري في الحكم بالدول العربية بدت مستقرة في بعضها دون الأخرى، فمثلاً نلاحظ أن العراق شهدت بعد الانقلاب الأول سنة 1936 ما يقرب من ستة انقلابات حتى عام 1941 بمعدل انقلاب كل عام نفس الشئ بالنسبة لسوريا التي شهدت ثلاثة انقلابات خلال عام واحد 1949 بمعدل انقلاب كل أربعة أشهر، بينما دول أخرى لم تشهد سوى انقلاباً واحداً مثل ليبيا عام 1969.
الإطار التطبيقي للدراسة
تتناول الباحثة في الإطار التطبيقي من الدراسة عدداً من حالات المنطقة العربية التي شهدت ظاهرة الحكم العسكري خلال الفترة الممتدة من تاريخ استقلالها الحديث – أي منتصف القرن العشرين – وحتى الربع الأخير من نفس القرن وبالتحديد أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات.
ويأتي اختيار هذه الدول في محاولة من الباحثة لإثراء الدراسة فمن ناحية يحقق هذا التعدد في الاختيار درجة مناسبة من التنوع حيث لكل دولة من الدول موضوع الدراسة ظروفها الداخلية التي تتباين في تفصيلاتها مع الدول الأخرى، ومن ناحية أخرى يحقق تغطية أشمل للمنطقة العربية التي تتميز بأنها أفروآسيوية، فالسودان عربية / إفريقية، بينما كل من العراق وسوريا عربيتين / آسيويتين.
ونظراً لاتساع الفترة التاريخية التي نرصد عبرها نشأة الظاهرة وأثرها على الأوضاع الداخلية لتلك الدول، بالإضافة لتباين الظروف الداخلية المحيطة بوقوع الظاهرة في كل دولة على حده، سوف تسعى الدراسة لاستقراء واقع الحكم العسكري في كل حالة من خلال نموذج نظري ينقسم إلى مرحلتين أساسيتين، المرحلة الأولى هي المرحلة السابقة لحدث الأساس والمرحلة الثانية هي المرحلة اللاحقة له، وحدث الأساس، هو الحدث المنشئ للظاهرة ونقصد به الانقلاب العسكري الناجح الذي ينتج عنه استيلاء العسكريين على السلطة وقيام حكم عسكري.
أما في المرحلة السابقة لحدث الأساس فنتناول الأوضاع السياسية وغير السياسية التي هيأت وسمحت بالتدخل العسكري المباشر في الشئون السياسية، ومن ثم وقوع الانقلاب العسكري بينما المرحلة اللاحقة تتناول الأوضاع السياسية وغير السياسية في ظل حكم وسيطرة العسكريين. وذلك في إطار تحقيق هدف البحث في الوقوف على أثر التدخل العسكري والحكومات العسكرية على الممارسة السياسية في تلك الدول وفرصها في تحقيق التنمية السياسية.
أولاً: بالنسبة لتجربة الحكم العسكري في السودان فإنها تعكس حالة منفردة متميزة حيث تتسم بخاصية الثنائية المتعاقبة، بمعنى التعاقب بين حكم مدني يطيح به حكم عسكري والعكس، فمنذ استقلال السودان عام 1956 وحتى أواخر القرن العشرين شهدت السودان ثلاث حكومات عسكرية تفصلها ثلاث حكومات مدنية، وتتناول الباحثة في الدراسة التالية الحكومة العسكرية الأولى والتي استمرت من عام 1958 – 1964 وحدث الأساس خلالها هو الانقلاب العسكري الأول في السودان بقيادة إبراهيم عبود عام 1958، كما نتطرق إلى الحكومة العسكرية الثانية والتي استمرت من عام 1969 – 1985 برئاسة جعفر النميرى ونستعرض من خلالهما الأوضاع السياسية وغير السياسية السابقة لقيام الحكم العسكري واللاحقة له، كما نستوضح من خلالهما خاصية الثنائية المتعاقبة التي يتميز بها الحكم العسكري في السودان.
ثانياً: بالنسبة لتجربة الحكم العسكري في سوريا فإنها تتسم بخاصية الانقلابات المتكررة والحكومات العسكرية المتوالية وذلك خلال الفترة من 1949 – 1970 أي على مدى واحد وعشرين عام – باستثناء الحكم المدني في الفترة من 1954 – 1958- حتى بلغت ثلاث عشرة محاولة انقلابية أربع منهم محاولات فاشلة وتسع منهم محاولات ناجحة نتج عنها قيام ثماني حكومات عسكرية وحكومة مدنية واحدة عام 1954، أي أن ظاهرة الحكم العسكري في سوريا اتسمت خلال هذه الفترة بعدم الاستقرار، بينما منذ نجاح الانقلاب المضاد الأخير بقيادة حافظ الأسد عام 1970 وقيام حكومة عسكرية برئاسته تخلصت سوريا من خاصية الانقلابات المتكررة والحكومات العسكرية المتوالية، ونعمت تجربة الحكم العسكري في سوريا لأول مرة بدرجة من الاستقرار في ذاتها، لذلك سوف نتخذ من الانقلاب المضاد عام 1970، حدث أساس نستعرض الأوضاع السياسية وغير السياسية السابقة له وتمتد من 1946 – 1970 والأوضاع السياسية وغير السياسية اللاحقة له وتمتد من 1970 – 1982.
ثالثاً: بالنسبة لتجربة الحكم العسكري في العراق فإنها تتسم بالتنوع ما بين التدخل الانقلابي لمجرد الضغط على السلطة السياسية المدنية من عام 1936 – 1941، والتدخل الانقلابي للإطاحة بالسلطة المدنية وإحلالها بحكومة عسكرية من عام 1958 – 1979، حيث أطاح الانقلاب العسكري بقيادة عبد الكريم قاسم عام 1958 بالنظام الملكي وأعلن العراق جمهورية، لتقوم بذلك أول حكومة عسكرية في العراق برئاسة قاسم عام 1958، لذلك سوف نتخذ من الانقلاب العسكري عام 1958 حدث أساس نستعرض الأوضاع السياسية وغير السياسية السابقة عليه وتمتد من 1932- 1958، ثم الأوضاع السياسية وغير السياسية اللاحقة له وتمتد من 1958-1979.
خلاصة القول أن ظاهرة الحكم العسكري عند تطبيقها على الحالات محل البحث – السودان وسوريا والعراق – قد تتباين في ملامحها الخاصة التفصيلية تبعاً لتباين الأحداث والظروف الداخلية التي عايشتها كل دولة، في حين تظل الملامح العامة للظاهرة واحدة في الدول الثلاثة كما سيأتي في التفصيل اللاحق.
وهكذا نجد أن سيطرة العسكريين وتدخلهم في الحكم كان له أثرا بالغا على الحياة السياسية في هذه الدول، الأمر الذي شكل بدوره تهديداً واضحاً لاستقرارها السياسي، وتعويق لفرص تنميتها وتحولها نحو تحقيق الدولة القومية المدنية المعاصرة بكل خصائصها ومقوماتها ولاسيما فيما يتعلق بالممارسة السياسية الديمقراطية.
المراجع والهوامش
(1) انظر: د. / محمد طه بدوى ، النظرية السياسية – النظرية العامة للمعرفة السياسية ، المكتب المصري الحديث ، إسكندرية ، 1991 ، ص 218.
(2) انظر فى تفصيل ذلك: د / محمد طه بدوى ، م. س. ذ. ، ص 218.
(3) – Britannica Encyclopedia , William Benton Publisher , Vol. 10 , p. 616.
(4) انظر: د / محمد طه بدوى ، م. س. ذ. ، ص 67 ، 68.
(5) انظر: د/ حمدي عبد الرحمن حسن ، العسكريون والحكم في أفريقيا مع التطبيق على نيجيريا ، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، جامعة القاهرة ، 1985 ، ص 10.
(6) انظر: نفس المرجع السابق ، ص 12.
(7) – H. Khonder Habibul , ” Bangladish: Anatomy Ful coup “, Armed forces and society, Vol. 13 , No. 1 , 1986 , p. 186.
(8) – Ekart Zimmermann , Political Violence , ( Cambridge: Schenkman Publishing Co. ) 1983 , p. 237.
(9) 449 – Britannica Encyclopedia , op. cit. , Vol. 15 , p.
(9) – Ekart Zimmermann, op. cit., p. 237.
(10) يرجع أول ظهور للانقلابات العسكرية كأحد الأشكال المعاصرة لاستخدام العنف فى تهديد السلطة والاستيلاء عليها إلى القرن التاسع عشر ، وبالتحديد في أواخر عام 1851 ، عندما تزعم نابليون الضابط بالجيش الفرنسي انقلابا عسكرياً ضد ملك فرنسا لويس السادس عشر. انظر: – Kenndy Gavin, The Military in the Third World ( London, Duckworth, 1974 ), p. 14.
(12)- The Blackwell Encyclopedia of Political Science, Bagdanor, 1991, p. 158 , 159.
(13)- Ekart Zimmermann, op. cit. , p. 238.
(14)- Janowitz Morris on Military Intervantion ( New York: Rotterdam University Press, 1971 ) p.64
(15) – Konder Habibul H., op. cit., pp. 186 – 187.
(16) – Blondel Jean, Comparative Government, ( London: Weidenfield and Nicolson ) 1974, pp. 92-339. وأيضاً: – Roth David F. & Others, op. cit., p. 316.
(17) د / حورية توفيق مجاهد ، نظام الحزب الواحد فى أفريقيا بين النظرية والتطبيق ، مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، 1977 ، ص 105.
(18) انظر: د / حمدي عبد الرحمن ، العسكريون والحكم فى أفريقيا ، م. س. ذ. ، ص 27 ، 30. وأيضا- Jean Blondel, op. cit., p. 386
(19) – Wells Alan, Coups d’etat in Theory and Practise, American Journal of Sociology, Vol. 7o, N. 4, 1974, p. 560.
(20) انظر: د / حورية مجاهد ، م. س. ذ. ، ص 106.
(21) انظر: د / حمدي عبد الرحمن ، العسكريون والحكم فى أفريقيا ، م. س. ذ. ، ص 57 ، 58.
(22) انظر: أحمد حمروش ، الانقلابات العسكرية ، دار بن خلدون ، بيروت ، 1980 ، ص 34.
(23) المرجع السابق ، ص 40.
(24) انظر: نقلاً عن د / حمدي عبد الرحمن ، العسكريون فى أفريقيا ، م. س. ذ. ، ص 68.
(25) – Robenson Richard, Tirkish Republic ( Massachusetts, Harverd University Press, 1963 ) , p. 16.
(26) – Jonhson John, The Role of the Military in Underdeveloped Countries, ( N. J: Princeton University Press, 1962 ) , p. 67 – 69.
(27) انظر: أليعازر بعيرى ، م. س. ذ. ، ص 247.
(28) لمزيد من التفصيل عن استقلال الدول العربية انظر: د/ جمال حمدان ، استراتيجية الاستعمار والتحرير ، دار الشروق، القاهرة ، 1983 ص ص 2250223.
(29) انظر:- Sharabi H. B., Government & Politics of the Middle – East in the twentieth
Century, ( London: D. Van Mostrand Company, INC., 1962 ) , pp. 158 – 159.
الحكومات العسكرية في المنطقة العربية: البندقية تحكم العقل السياسي
رحمة الله عليك يا جدى العزيز و1000 مبروك على الماجيستير يا آيات وجزاك الله خيرا على إجتهادك