على الإنترنت صور لأردوغان كتب عليها أشخاص بالعربية: “خالد الترك”. هؤلاء لا علاقة لهم بالتاريخ، فهم في الغالب عرب في مقتبل العمر، يريدون التعبير عن إعجابهم برئيس الوزراء التركي، الذي حوّل إسطنبول إلى عاصمة للإخوان المسلمين، وتحيّز للقضية الفلسطينية في خطابات، ومنتديات، وسياسات، ورفع في أكثر من مناسبة شارة “رابعة” تضامناً مع الإخوان المصريين.
وهم، بالتأكيد، لا يعرفون خالد الترك، ولا خالد العرب. فالأوّل في ثوبه الأردوغاني صناعة تلفزيونية، والثاني جزء من تاريخ توجته القداسة. لذا، سيبدو صادماً لهؤلاء إن عرفوا أن “خالد الترك” الأصلي يمثل نفياً “لخالد الترك” في تجلياته الأردوغانية، وأن المناسبة الأصلية التي اجتمع فيها الاسمان تمثل نفياً لكل ما يبرر اجتماعهما في الوقت الحاضر.
خالد الترك الأصلي هو مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، الذي ألغى الخلافة، والأبجدية العربية، ووضع تركيا على طريق العلمانية، في محاولة للقطع مع الماضي الإمبراطوري، والأممية الإسلامية.
أما المناسبة الأصلية فكانت حروب الغازي، مصطفى كمال، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وكلها مبررات كافية، في نظر أمير الشعراء أحمد شوقي، لمديح الغازي، ومقارنته بخالد بن الوليد، في قصيدة مطلعها: “الله أكبر كم في الفتح من عجب/ يا خالد الترك جدد خالد العربِ”.
وما لا يعرفه هؤلاء أن جيل الاستقلاليين العرب، الذي أراد الانفصال عن الإمبراطورية، وتحرير العرب من دولة بني عثمان، كان معجباً بمشروع الغازي لإنشاء تركيا الحديثة. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالنخب المدينية في الحواضر العربية (طالما أن الكلام عن “الجماهير” في العقود الأولى للقرن العشرين مجرّد خرافة مضحكة) فقد رأت في العلمانية التركية نموذجاً يحتذى، وطريقاً إلى إنشاء الدولة العربية الحديثة.
لم يكن جيل الاستقلاليين العرب يعاني من أزمة في الهوية. ولم نكن قد وصلنا، بعد، إلى الحرب العالمية الثانية، وسياسات الهوية في الحرب الباردة، أي تديين السياسة، وتسييس الدين، التي كانت جزءاً من استراتيجية القوى الغربية لتأمين الموارد النفطية، وتحصين الشرق الأوسط في وجه الخطر الشيوعي، وحماية المواقع ذات الأهمية العسكرية والتجارية، ولم تكن الحواضر قد ناءت تحت ثقل الطغاة والطغيان، ولا كانت للبوادي أنياب أيديولوجية. لذلك، كان أتاتورك جديراً بمديح شوقي.
ولذلك، أيضاً، تبدو عبارة “خالد الترك” على وجه أردوغان مجرد دعاية رخيصة. وهذا أهون الضررين. فالضرر الأكبر يتمثل في حقيقة أننا نعيش في زمن الإنترنت، والفضائيات، والهواتف الذكية، وشبكات الدعاية العابرة للحدود والقوميات، وشبكات البنوك والبزنس، وكلها معطوفة، ومرفوعة على ساعد لعبة للأمم قديمة، وجديدة، قادرة على إنشاء آليات وديناميات أيديولوجية، وسياسية، وثقافية، لتشويه وإعادة إنتاج الحقيقة التاريخية، على طريقة الأخ الأكبر في تحفة أورويل.
الدعايةُ تطرد الحقيقة التاريخية بما ينبغي، لكثرة تكراره، أن يكون بديلها. ففي البطانة الأيديولوجية لعبارة “خالد الترك” على وجه أردوغان، مثلاً، نعثر على مرافعة من العيار الثقيل في جعبة الإسلام السياسي العربي ومفادها: انظروا كيف انكفأت العلمانية، وعاد الأتراك إلى هويتهم الأولى، ورفعوا الإسلاميين إلى سدة الحكم، فحافظ هؤلاء على النظام الديمقراطي، ونجحوا في تحقيق النهضة الاقتصادية.
وهذه المرافعة يُراد لها أن تكون محرجة، على نحو خاص، للمُصنفين في خانة “العلمانيين”، و”الليبراليين”، ومعارضي الإسلام السياسي عموماً (على الرغم من حقيقة أن بين “العلمانيين”، و”الليبراليين” مَنْ يؤيد الإخوان، وغيرهم، استناداً إلى اجتهادات علمانية وليبرالية خالصة، لذا ينبغي التحفّظ على التصنيف).
يمكن لمرافعة كهذه أن تكون مُقنعة، فقط، إذا تجاهلنا اعتراف الإسلام السياسي التركي بالهوية العلمانية للدولة، وفي ظل عدم توفر معلومات كافية حول الإسلام السياسي التركي. من حسن الحظ أن ثمة الكثير من الكتابات الرصينة، بلغات مختلفة. ومن سوء الحظ أن العربية ليست من بينها. ومؤخراً أضافت بانو أليغور، أستاذة العلوم السياسية التركية، كتاباً جديداً إلى قائمة أدبيات أصبحت طويلة، صدر الكتاب بالإنكليزية عن مطبعة جامعة كامبردج بعنوان “تعبئة الإسلام السياسي في تركيا”.
والمُفاجئ، في هذا الشأن، أن سيرة الإسلام السياسي في تركيا، لا تختلف في الجوهر عن سيرته في العالم العربي، وأماكن أخرى. فقد نشأ بعد الانقلاب الذي قاده الجنرالات في العام 1980، عندما عمل هؤلاء، على مدار ثلاث سنوات قضوها في الحكم، على تكريس مزيج من القومية التركية، والإسلام السني، كأيديولوجية للنظام، وأداة لمواجهة المعارضة اليسارية. وعلى النهج نفسه سار حزب يمين الوسط، الوطن الأم، الذي حكم البلاد من العام 1983 وحتى العام 1991.
بمعنى آخر، لا علاقة للأمر بانكفاء العلمانية، أو بالعودة إلى هوية أولى، سواء كان الكلام عن مصر، أو تركيا. فالدولة هي التي بدأت مشروع الأسلمة.
والمُفارقة، هنا، أن أردوغان، لن يحظى بالطمأنينة تحت قناع “خالد الترك”، وأن مرافعات انكفاء العلمانية، والعودة إلى الهوية الأصلية، لن تستقيم في تركيا والعالم العربي، إلا إذا نجحت في حجب الحقيقة التاريخية. وهذه، كغيرها، كانت وما تزال ضحية رهانات، وطموحات، وصراعات، لم تبدأ اليوم، ولن تنتهي غداً، لا في تركيا، ولا في العالم العربي.
كل ما في الأمر، الآن، أن شخصاً ما قص عبارة لشوقي قيلت في مديح أتاتورك، وألصقها على صورة لأردوغان. وهي الطريقة نفسها الشائعة في تحرير النصوص الإلكترونية، وتصفح الإنترنت. أما سؤال الحقيقة فهو، حتى إشعار آخر، قيد النفي والنسيان، ومعه الحق والبطلان في الفرق بين أتاتورك وأردوغان.
khaderhas1@hotmail.com