من حق أي مرجعية دينية أن تعارض وبشكل واضح وصريح المطالب العلمانية والليبرالية وغير الدينية المتعلقة بالشؤون الحياتية. لكن ليس من حق أي طرف ديني سواء كان مرجعية أو تجمعا أو حزبا أو فقيها أن يصف معارضته تلك بأنها نابعة من أصل مقدس ما يعتبرها إلهية وقطعية وغير قابلة للنقاش، مبررا موقفه بأنه من أمور الشريعة الإسلامية النهائية وأنه خط أحمر ديني لا يمكن تجاوزه، وأن يسلب الآخرين حق تأييد تلك المطالب أو حق عدم التعليق عليها، وأن يصف من يؤيد تلك المطالب بأنه خارج عن الدين. ففي شؤون الحياة التي تنظمها الديموقراطية لا ثوابت، بل كل الأمور مفتوحة للنقاش، ولا وجود لتفسيرات نهائية قطعية حمراء الخطوط.
وحينما تكون الشريعة الإسلامية لدى بعض المرجعيات الدينية غير قابلة للتغيير أو التعديل وتدخل في إطار التفسيرات النهائية والقطعية، وحينما يعتبر هذا البعض أن قضايا الحياة لا تخرج عن موضوع الشريعة، هنا تطفو مشكلة كبيرة على السطح متمثلة في أن هذا النوع من الفهم والتفكير لن يستطيع التعايش مع الديموقراطية التي بدورها لا تستطيع أن تتعايش مع التفسيرات النهائية والقطعية، كما لا يمكن لهذا الفهم أن يفرض الوصاية على المواقف بشأن قضايا الحياة، لاعتباره موقفه بأنه يعكس ما يريده الله وأن المواقف الأخرى هي مجرد مواقف ضلال.
وإذا استثنينا الاختلاف الكبير بين المدارس الدينية بجميع مذاهبها وتوجهاتها في تفسير الشريعة الإسلامية وفهم شؤون الحياة، فإن معارضة المطالب العلمانية والليبرالية وغير الدينية لا يمكن أن توصف بأنها “معارضة دينية”، باعتبار أن القضايا المتعلقة بها تدخل في إطار الشؤون الحياتية لا الدينية.
لكن، إذا اعتبر البعض بأنها دينية، هنا لا يمكن استخلاص نتيجة نهائية وقطعية بشأنها، باعتبار أن الاجتهادات الدينية مختلفة حول الغالبية العظمى من القضايا. ففيما يرفض الإسلاميون في الكويت – على سبيل المثال – إلغاء عقوبة الإعدام، نجد أن حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) في تركيا يؤيد مطلب الاتحاد الأوروبي بإلغاء حكم الإعدام. لهذا نطرح بعض التساؤلات: هل يمكن أن نضع أصبعنا على بعض الآراء أو التفسيرات الحياتية التي نستطيع وصفها بأنها دينية ومقدسة وغير قابلة للتغيير نهائيا؟ وبالنسبة للموقف من عقوبة الإعدام، هل هي تلك التي تعارض إلغاء الحكم، أم تلك التي تؤيد الحكم، أم تلك التي لم تحدد موقفا منه حتى الآن؟!
لذلك، لا يمكن وصف من يؤيد مطلب إلغاء حكم الإعدام بأنه “مناهض للإسلام”، إذ الحكم لا يعتبر من القضايا المتعلقة بذات الدين، بل يدخل ضمن القضايا العرضية التي جاء ذكرها في إطار تاريخ الدين وشكل حياة من عاشوا الظرف الاجتماعي لبدء ظهور الدعوة الإسلامية. ثم هناك العديد من الاجتهادات الدينية التي أيدت إلغاء حكم الإعدام، وهي اجتهادات لها أدلتها، فهل يمكن وصفها بأنها “مناهضة للإسلام”؟
إن بعض الدول الغربية لا تنظر لحكم الإعدام إلاّ من منظور واقعي، ودائما ما تتساءل عن فائدة أي قانون سواء ارتبط بالإعدام أو بغيره من القوانين. فهي على سبيل المثال تتساءل هل أن تطبيق الإعدام يؤدي إلى خفض نسبة الجريمة؟ وهل هو سبب للردع والخوف من ممارسات ضد القانون؟ وتستند في تلك التساؤلات إلى الحكمة القائلة بأن معاقبة شخص هدم بيت شخص آخر بهدم بيته، ليست سوى انتقام وتخريب أكثر مما هو ردع وتقويم. وبنظرة سريعة لإحصاءات دولة واحدة من الدول الغربية، وهي كندا التي ألغت حكم الإعدام، يتبين لنا أنها شكلت لجان لدراسة أثر هذا الإلغاء في معدلات الجريمة، فوجدت أنه في السنة الأولى بعد إلغاء الحكم انخفضت نسبة 3،15 من الألف من الجرائم إلى 2،80 بالألف في السنة التي تلتها. وعليه يقول المراقبون للجريمة أن الردع القاسي واستعمال القوة المفرطة لا يكون بالضرورة علاجا أو سلاحا ناجحا للقضايا، وأن الأحكام النهائية والمطلقة المتعلقة بالشؤون الحياتية لا يمكن أن تدلل لوحدها على صحتها، بل لابد أن تخضع لشروط العلم والتجربة والواقع.
لا تزال المشكلة الرئيسية التي يعاني منها التفسير الديني تتمثل في تبني قاعدة أساسية في التفكير والتفسير ما يجعل التيار الديني غير قادر على التعايش مع الآخر، سواء كان هذا الآخر ضمن إطاره الإسلامي أو كان خارج هذا الإطار. فهو غالبا ما يكون طاردا للآخر، وفي مرات كثيرة لا يبالي في استخدام العنف ضده من أجل إلغائه دينيا.
وعلى الرغم من تبني أقلية من التيار الديني لمفهوم التعددية والتسامح وقبول الآخر، غير أن طرحها غير واقعي ولا يمت للمفهوم الحديث المعاش في عالمنا الراهن بصلة. فهي تتبنى التعددية والتعايش على أساس الفهم التاريخي ضمن إطاره الضيق، لا على أساس الفهم الإنساني الواسع في ظل ما وصلت إليه النظريات البشرية من رؤى في هذا المجال. هذا إذا استثنينا المتزمتين الذين عادة ما يعتبرون تفسيراتهم لشؤون الحياة مطلقة، ولا يعترفون بوجود تفسير ديني آخر، ويعتقدون بأن فهم الشأن الديني والحياتي يأتي عن طريقهم ومن خلالهم فقط. لذلك، هم يعيشون أزمة قبول الآخر في إطاره الضيق داخل المذهب لا خارجه، سواء كان في الداخل الشيعي أو في الداخل السني.
إن المشكلة تكمن في أن في كل مذهب أو مدرسة أو جماعة دينية هناك أغلبية تعتقد بأن تفسيرها هو صواب مطلق، منطلقة من القاعدة التي تقول بان الحق الديني مطلق وواضح وضوح الشمس، وأنه لا يمكن أن يكون نسبيا، ومن ثم لا يمكن للفهم الديني أن يكون نسبيا أيضا. بمعنى أن التفسير يصبح “عين الصواب”، ولا ينظر إليه كونه علم يقبل الصواب والخطأ، بل كونه حق وغيره باطل.
وهناك رؤى وتفاسير دينية يزعم أصحابها اعترافهم بالرأي والتفسير الديني الآخر، غير أنه في الواقع هي مجرد رؤى سياسية “مصلحية”، وهي بالتالي لا تقف على أرضية فكرية صلبة وقاعدة مفاهيمية حديثة، ومن ثم لا تصمد أمام أي اختبار للتعايش، فما أن يصبح العامل المشترك للتعايش والاختلاف عقديا حتى تبرز رؤى إلغاء الآخر. والأمثلة التي تتحدث عن إمكانية تعايش الرؤى الدينية المختلفة في ظل المصلحة السياسية عديدة، من ضمنها ما يؤكده الواقع الأصولي الشيعي السني المعاش في الكويت إذ عادة لا يختلف بشأن تلك المصالح، وحتى لو اختلف فإنه يمرر الموضوع تحت عنوان “الإيمان بالتعددية”. لكنه لا يستطيع أن يطرح موضوع التعايش وقبول الآخر في القضايا المتعلقة بتفسير العقائد وبنقد الصحابة والأئمة، وهو ما يعني أن الاختلاف والتعدد خارج نطاق المصلحة السياسية وداخل إطار العقائد وضمن حدود نقد الصحابة يعتبر من “المحرمات” التي تحاصرها الخطوط الحمراء، وبعبارة أخرى، هو تعبير عن حق ديني مطلق في مقابل باطل ديني مطلق.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com