التطرف الإسلامي محدود في ليبيا، لكن بإمكانه أن ينمو إذا لم يتم اتخاذ أي إجراء ضد المسؤولين عن أعمال العنف الأخيرة.
*
كان مقتل السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز وثلاثة أفراد دبلوماسيين آخرين في هجوم أمس على القنصلية الأمريكية في بنغازي بهذه الطريقة المأساوية هو الحلقة الأخيرة في العنف المسنَد إلى الإسلاميين المتطرفين في ليبيا. فقد ظهرت فرقة صغيرة من الجهاديين المحليين منذ الإطاحة بمعمر القذافي، وقد برزوا الآن ليُثنوا على الهجمات الأخيرة رغم أنه ليس واضحا قدر المسؤولية التي يتحملونها عن تنفيذها. ويُعتبر نمو مثل هذه الجماعات تطورا مزعجا يضاعف أهمية التقارب الأمريكي النشط مع السلطات الليبية الجديدة.
الجهادية الليبية قبل الحرب
قبل انتفاضة 2011 كانت الحركة الجهادية الرئيسية المنظمة في الدولة وهي الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة قد تخلت بالفعل عن الراديكالية واعتزلت. وحيث تأسست بعد الجهاد ضد السوفييت، حاولت هذه الجماعة الإطاحة بنظام القذافي في منتصف التسعينيات لكنها بدأت التحرك بعيدا عن الصراع المسلح في 2006. وفي 2009، تفاوض أعضاء مجلس شورى الجماعة –بعضهم في السجون الليبية وآخرون منفيون في أوروبا- لإنهاء الصراع مع النظام عبر ابن القذافي، سيف الإسلام . وأما البقية التي خالفت القرار فقد انضمت إلى “القاعدة” في باكستان تاركة وجوداً غير منظم في ليبيا. ولذا، فإنه عشية حرب العام الماضي كانت الجهادية العنيفة المنظمة في ليبيا تقريبا قد انقرضت.
وبمجرد اندلاع الانتفاضة التزمت الجماعة بوعدها ولم تعد إلى الأنشطة الجهادية، بل إنها غيَّرت اسمها إلى “الحركة الإسلامية الليبية للتغيير”. ومع هذا، وحيث اتسع التمرد، انضم عدد كثير من أعضائها إلى المقاومة المسلحة استغلوا فيها خبراتهم القتالية السابقة وبخاصة الشخصية الأبرز في الجماعة وهو “عبد الحكيم بلحاج”، الذي صار رئيس المجلس العسكري في طرابلس.
وبعد سقوط القذافي انشقت “الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة” إلى فصيلين سياسيين تنافسا في الانتخابات التشريعية في تموز/يوليو 2012: “حزب الوطن“، المعتدل ذي القاعدة الواسعة الذي انضم إليه “بلحاج” و”الأصغر”، و”حزب الأمة الوسط“، الأكثر تعصبا وتلوّنا بالصبغة الإسلامية الذي انضم إليه معظم أعضاء الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة الآخرين تحت قيادة الشخصية البارزة “سامي الساعدي“. ولم يفز “حزب الوطن” بأية مقاعد، فيما نال حزب الأمة الوسط مقعدا واحدا تم تخصيصه لـ”عبد الوهاب قايد“، شقيق الراحل “أبو يحيى الليبي”، الشخصية القيادية بالقاعدة.
جماعات محلية جديدة
برغم تخلي الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة عن أسلحتها بعد الحرب وانخراطها في العملية السياسية إلا أن جماعات جهادية جديدة قد بدأت في الظهور بمجرد أن انقشعت الغيوم واستتب الأمر. وإحدى أكبر هذه الجماعات هي أنصار الشريعة في بنغازي بقيادة محمد زهاوي. وبالإضافة إلى الاتصالات عبر الإنترنت بجماعة أنصار الشريعة في تونس إلا أن أنصار الشريعة في ليبيا لهم روابط بالعديد من الكتائب السلفية الجهادية الأصغر في ليبيا والتي تشمل جماعة ظل تسمى أنصار الشريعة في درنة بقيادة نزيل سجن جوانتانامو السابق أبو سفيان بن قومو. وقد شارك الكثير من تلك الكتائب في “المؤتمر السنوي” الأول لأنصار الشريعة في بنغازي في حزيران/يونيو الماضي وذلك بناء على صور التقطت لهذا المؤتمر الذي حضره الآلاف.
تدمير المساجد والمقابر الصوفية
والهمُّ الرئيسي لأنصار الشريعة في بنغازي هو مأسسة الشريعة الإسلامية بناء على فهمهم الضيق لها. وطبقا لتقارير حديثة فإن أنصار الشريعة في كل من بنغازي أو درنة أو الكتائب الأخرى الأصغر هم الذين كانوا مؤخرا وراء تدمير المساجد والمقابر الصوفية. ورغم أن أنصار الشريعة في بنغازي لم يتبنوا المسؤولية عن الأحداث إلا أنهم أثنوا على مرتكبيها.
وثمة عنصر آخر في الظل وهو “ألوية الشيخ السجين عمر عبد الرحمن” التي سُميت باسم زعيم الجماعة الإسلامية المصرية الذي يقضي حاليا عقوبة السجن المؤبد في الولايات المتحدة لتورطه في الهجوم على مركز التجارة العالمي عام 1993 من بين مخططات أخرى. وليس الكثير معروفا عن قيادة الجماعة أو حجمها لكنها كانت مسؤولة عن سلسلة الهجمات التي وقعت في بنغازي في أيار/مايو وحزيران/يونيو الماضيين حيث وقعت هجمتان ضد اللجنة الدولية للصليب الأحمر بهجوم بقنبلة ضد القنصلية الأمريكية وهجوم على موكب السفير البريطاني.
ولا توجد حاليا روابط عملياتية معروفة بين تلك الجماعات الليبية والقاعدة أو المنتمين إليها. وفي أوائل هذا العام استشهدت “السي إن إن” بتقارير استخباراتية مجهولة الهوية تشير إلى أن القاعدة قد أرسلت نشطاء من باكستان لتكوين خلايا في ليبيا لكن بدون أية أدلة تعزز ذلك. فقد حاولت القاعدة بالفعل استغلال انتفاضة العام الماضي بخاصة وأن اثنين من كبار قادتها (أبو يحيى الليبي وعطية الله أبو عبد الرحمن) ليبيّا الأصل. لكن كلا الرجلين قد تم قتلهما منذ ذلك الحين بهجمات بطائرة أمريكية بلا طيار وهو ما قد يكون السبب في أن المنظمة لم تركز على ليبيا في 2012.
الجهاد في شمال مالي
أحد العواقب غير المقصودة للانتفاضة الليبية هي كيف أنها أثّرت على مالي حيث أدت الحرب إلى تدفق الأسلحة إلى شمال مالي مما ساعد على إحياء الصراع العرقي القبلي الذين كان يهدأ ثم يثور بين الفينة والأخرى منذ الستينيات. ولم يكن هذا صراعا جهاديا بل كان غرسا تدريجيا على مدار العقد الماضي للجماعات الجهادية في الساحل الإفريقي، مما مكنهم من استغلال فقدان الحكومة المالية السيطرة على الشمال. وبينما كانت “القاعدة في المغرب الإسلامي” تحوم في الخلفية حتى لا تجذب الكثير من الانتباه إليها، استطاع حلفاؤها أنصار الدين وجماعة التوحيد والجهاد السيطرة على الحكم يوما بعد يوم في مدن جاو وكيدال وتيمبكتو شمال مالي.
معسكرات تدريب سورية
انخرط بعض مقاتلي الانتفاضة الليبية أيضا في الحرب المدنية السورية، وهي ظاهرة جدُّ مختلفة، ويجب ألا تلتبس بنمو الجهادية الليبية أو التطورات في مالي. وتشير تقارير موثوقة إلى أن عشرات الليبيين إن لم يكن أكثر قد انضموا إلى لواء الأمة وهو جماعة معارضة مسلحة في سوريا بقيادة مهدي الحراتي وهو مواطن مزدوج الجنسية أيرلندي ليبي كان في السابق قائدا للواء في طرابلس. وقد أفادت التقارير وجود أربع حالات مؤكدة لليبيين توفوا في ساحة القتال السورية.
وفوق هذا صارت ليبيا معبرا لمقاتلين من شمال أوروبا والمغرب متوجهين إلى سوريا. وتؤكد التقارير الإخبارية والمصادر الجهادية أن بعض هؤلاء الأفراد قد حضروا معسكرات التدريب في مصراتة وبنغازي وفي الصحراء القريبة من بلدة هون والجبل الأخضر في الشرق رغم أن دقة تلك التقارير غير مؤكدة.
وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء المقاتلون جهاديين عالميين أو متعاطفين مع القاعدة بل يبدو أن الكثيرين منهم يعتنقون فهما أكثر تشددا للإسلام مما يعني أن المقاتلين الإسلاميين الأجانب الذين شاركوا في عدد من الصراعات الأخيرة في الخارج قد صاروا سببا للاضطراب عند عودتهم إلى بلادهم، ولهذا السبب وحده يستحق الليبيون في سوريا مراقبة دقيقة.
الخلاصة
تتوفر للراديكاليين الليبيين الأسباب التي تشجعهم على ما يفعلونه، والتي تتلخص في عجز الحكومة عن التصدي لأولئك المسؤولين عن تدمير المساجد والقبور الصوفية مؤخرا. وفي ظل الرد الرسمي الضعيف ضد هجوم أمس على القنصلية الأمريكية ستزيد الانتهاكات مما قد يؤدي إلى عنف ضد الحكومة. وينبغي أن تتقاسم واشنطن وطرابلس مستقبلا ما لديهما من استخبارات عن الجهاديين حتى يتمكنا من العمل سويا على مواجهة تلك المشكلة.
وعلاوة على هذا فإن من المهم لواشنطن أن تفهم أن الاتجاه الجهادي في ليبيا له قاعدة دعم ضئيلة حيث تحظى الميليشيات والقبائل بالتأثير الأكبر على الناس. كما أن معظم الليبيين ينفرون من التطرف الإسلامي لا سيما مع ما لوحظ في الأداء الباهت لفلول الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة والإخوان المسلمين الليبيين في الانتخابات الأخيرة.
ومع ذلك ينبغي أن تضغط واشنطن على طرابلس لإجراء تحقيق جدي وشامل عن مقتل السفير ستيفنز والأفراد الآخرين.
هارون ي. زيلين هو زميل ريتشارد بورو في معهد واشنطن.