“تعيد أنقرة احتضان حلفاءها القدماء في واشنطن على حساب طهران ودمشق.”
*
عاد “حزب العمال الكردستاني” إلى المشهد في تركيا بصورة دموية. فوفقاً لتقرير أصدرته مؤخراً “مجموعة الأزمات الدولية” أسفرت أعمال العنف التي قام بها “حزب العمال الكردستاني” منذ صيف 2011 عن مقتل نحو 700 شخص. وتذكِّر هذه الحصيلة من عمليات القتل، أعمال الرعب التي وقعت في تسعينيات القرن الماضي عندما قُتل الآلاف من المدنيين في هجمات ارهابية قام بها “حزب العمال الكردستاني” والحرب الوحشية التي دارت في شرق تركيا بين الحكومة والمقاتلين الأكراد.
وليس من قبيل الصدفة أن يعود العنف الذي كان يقوم به “حزب العمال الكردستاني” إلى الظهور من جديد. فهو يرتبط ارتباطاً مباشراً بموقف تركيا المتحدي الداعم للانتفاضة السورية والمعادي لنظام الأسد ورعاته في إيران. وتشكل عودة أنقرة إلى احتضان أصدقائها القدامى في واشنطن الاتجاه الإيجابي العام بالنسبة للغرب.
لقد بدأ الانهيار في العلاقات التركية السورية في صيف عام 2011. ومنذ ذلك الحين سمحت دمشق لـ “حزب العمال الكردستاني” بالعمل ثانية في سوريا. وفي الوقت نفسه ومن أجل معاقبة أنقرة حيال سياستها تجاه سوريا، توصّل قادة إيران إلى [اتفاق] سلام مع المتمردين الأكراد الذين كانوا يقاتلونهم، مما سمح لـ “حزب العمال الكردستاني” تركيز طاقته ضد تركيا.
ولم تكن هذه خطة أنقرة. فعندما بدأت الانتفاضة السورية في ربيع 2011 شجع القادة الاتراك في البداية نظام بشار الأسد على إجراء إصلاحات في بلاده. وفي آب/أغسطس 2011 اجتمع وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في دمشق لمدة ست ساعات مع الأسد وطلب منه وقف قتل المدنيين.
إلا أن الطاغية السوري لم يتجاهل مناشدات تركيا فحسب بل أرسل أيضاً دبابات الى حماة بعد ساعات من مغادرة السيد داود أوغلو العاصمة السورية. وبعد ذلك، عملت أنقرة على توتير علاقاتها مع الأسد وأخذت تدعو إلى الإطاحة به. كما بدأت تركيا توفر ملاذات آمنة لجماعات المعارضة السورية، وأشارت تقارير وسائل الإعلام أن أنقرة عملت على تسليح المتمردين السوريين.
وقد ردّ الأسد على ذلك بالسماح لـ “حزب العمال الكردستاني” بالعمل في سوريا بعد أن كان يحد من أعمال الجماعة لمدة دامت أكثر من عقد من الزمن. ففي عام 1998 كان والد الأسد قد اتخذ إجراءات صارمة وضيّق الخناق على وجود المتشددين الأكراد في سوريا الذي دام فترة طويلة، بعد أن هددت تركيا بغزو سوريا إذا واصلت هذه الأخيرة إيواء “حزب العمال الكردستاني”. وفي الربيع الأخير سمح الأسد لـ “حزب العمال الكردستاني” بنقل حوالي 2,000 مسلح اإلى سوريا من جيوبهم الجبلية في شمال العراق. وفي الواقع أشار الأسد إلى أنقرة: “ساعد عدوِّي، وساقوم بمساعدة عدوَّك.”
وتحدث النظام الإيراني بنبرات مماثلة. ففي أيلول/سبتمبر 2011 بعد بدء أنقرة بمواجهة نظام الأسد مباشرة أنهت طهران خلافاتها مع “حزب الحرية والحياة في كردستان” – وهو الفرع الإيراني لـ “حزب العمال الكردستاني”. لقد كانت طهران تقاتل متمرديها الأكراد منذ عام 2003، وذلك كجزء من استراتيجية تعمل على الاستفادة من الصدع بين تركيا والولايات المتحدة في بداية “حرب العراق”. فمن خلال مساعدتها لتركيا على هزيمة الميليشيات الكردية كانت ايران تأمل في الحصول على بعض المزايا في علاقتها مع أنقرة على حساب عدوتها اللدودة واشنطن. ولكن إيران قلبت هذا الموقف في العام الماضي رأساً على عقب، وبتوصلها إلى [اتفاقية] سلام مع المقاتلين الأكراد منحت طهران حرية العمل لـ “حزب العمال الكردستاني” لكي يقوم باستهداف تركيا.
ولا يمكن للموقف الجديد المتعلق بـ “حزب العمال الكردستاني” أن يكون قد عمل ضد تركيا بهذه الصورة الجيدة لو لم تؤدي الانتفاضة السورية إلى تحمس الأكراد في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك في تركيا. وحيث نجح المتمردون السوريون في تقويض سلطة النظام في شمال سوريا هذا الصيف، بدأ الأكراد يسيطرون على المدن هناك – عبر الحدود مع تركيا.
وحيث تشجع “حزب العمال الكردستاني” من هذا التطور، فقد حاول انتزاع السيطرة على المدن التركية باستهدافه المناطق غير الحصينة بصورة كافية – خاصة في مقاطعة هاكاري الوعرة والمنعزلة في أقصى جنوب البلاد على الحدود مع العراق وإيران. وعلى الرغم من عدم ضمان “حزب العمال الكردستاني” [السيطرة على] أي إقليم حتى الآن، فقد أودت المعركة على هاكاري بوقوع مئات الضحايا خلال الأشهر الأخيرة.
ويبدو أن إيران متورطة في هذا الاعتداء الجديد الذي قام به “حزب العمال الكردستاني” – على الأقل جزئياً. وفي الشهر الماضي قال نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينج للصحفيين بأن الحكومة “تلقت معلومات تفيد بأن إرهابيي [حزب العمال الكردستاني] قد تسللوا من الجانب الإيراني من الحدود” قبل شنهم هجوماً واسعاً على بلدة سيمدينلي في مقاطعة هاكاري. وتنفي طهران ذلك.
وباستعادة “حزب العمال الكردستاني” الترحيب الذي حصل عليه في سوريا وإيران، ومن تعثر “الإنفتاح تجاه الأكراد” من قبل أنقرة أيضاً – تلك المحاولة التي أُحبطت في عام 2009 والتي كانت تهدف إلى تحسين حقوق الأكراد في تركيا – يقوم “الحزب” الآن بنقل التوترات إلى ما هو أبعد من المناطق ذات الأغلبية الكردية في جنوب شرق تركيا. وفي 20 آب/اغسطس، قتلت الجماعة تسعة اشخاص في انفجار سيارة ملغومة في غازي عنتاب – مدينة تركية كردية مختلطة ومزدهرة كانت قد نجت من عنف “حزب العمال الكردستاني”. ويلقي المحور السوري الإيراني ظلاله من جديد على الهجوم: فقد زعم مسؤولون أتراك بوجود تواطؤ سوري في الهجوم الذي وقع في غازي عنتاب، وعندما التقى المفاوض النووي الإيراني سعيد جليلي برئيس الوزراء التركي في اسطنبول في 18 أيلول/سبتمبر، ورد في الأنباء بأنه قد عاتبه.
وترتكز سياسة أنقرة في الشرق الأوسط على فرضية أساسية واحدة وهي: أن كل من يدعم “حزب العمال الكردستاني” هو عدواً لتركيا. ويترتب على ذلك قيام مشكلة لأنقرة مع دمشق إلى أن يسقط الأسد، ومشكلة طويلة الأمد مع طهران حتى بعد سقوط الأسد.
ووفقاً لذلك، تؤدي أيضاً هذه التحولات السياسية-الأمنية في الشرق الأوسط إلى حصول تقارب أكبر بين أنقرة وحليفتها منذ فترة طويلة وهي الولايات المتحدة. فقد وافقت تركيا على استضافة نظام الدفاع الصاروخي لمنظمة حلف شمال الأطلسي الذي يهدف إلى حماية أعضاء التحالف الغربي من التهديدات النووية الإيرانية وغيرها.
وبعد أسابيع من قيام هجمات وأعمال شغب ضد سفاراتهم في أماكن أخرى في الشرق الأوسط من المحتمل جداً أن يتساءل الأمريكيون إذا كان “الربيع العربي” قد أسفر عن أي نتائج إيجابية على الإطلاق بالنسبة للولايات المتحدة. إن قطع العلاقات التركية الإيرانية يمكن على الأقل اعتباره واحداً منها.
سونر چاغاپتاي هو زميل “باير فاميلي” ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن.