طول العهد بحياة من نوع ما تدفع أصحابها أحيانا للإعراض عن ما يجري خارج عالمهم. فمشهد المفرج عنهم من سجون امضوا فيها عمرهم المديد جعلهم يديرون ظهرهم للحياة خارج الأسوار والعودة طواعية إلي ما يعرفونه لحظة الإفراج، وفي بعض الأحيان بالانتحار لو فشلوا في العودة. أعمال فنية كثيرة أتحفتنا بذلك المشهد. وهناك حلول أخري لو أنهم جبناء أمام فكرة الانتحار ألا وهي ارتكاب الجريمة مجددا لضمان العودة قانونيا. وهو غالبا ما نعيشه حاليا في بعض من معارك المجتمع بين ماضيه ومستقبله. إنه الذكاء الإنساني والذي يعمل في كل الظروف ويجد حلا للمأزق الحياتي للمريض بالاستمرار ممروض. فالانتحار أو العودة بكل السبل مشروط بخلو ذاته من شجاعة مفقودة داخله للتقدم إلي الجديد.
فالاعتراض علي تحرير المرأة بحجة انه عمل به انصياع للغرب أو قرارات مؤتمرات السكان أو غيرها من الحجج البليدة كالدعوة للشذوذ أو الانحلال ليست سوي مشهد يدير فيه المعترضون ظهورهم للمستقبل ليعودوا إلي عصر الحريم والحرملك وجماعات النساء التي شهدت مصر شطرا منها في العصر المملوكي وما قبله. ففيه سادت ثقافة الجواري حيث تخرج النساء حاسرات بملابس وألوان زاهية لاستماله العسكر والمقاتلين. كانت النساء حتى دخول نابليون مصر ينقسمون كما تنقسم قطاعات من المجتمع إلي حرائر وعبيد. الحرائر مخبأه في حرملك الأسياد باعتبارهن كملكات النحل كامنات في مخادعهن لا يخرجن إلا في أوقات الطلب للتناسل مصاحبات للذكر. أما الجواري والإماء والسابلة ومن ملكت أيمانهم فكانوا أكثر انطلاقا. فلهم بعض الحرية منذ زمن عمر بن الخطاب الذي رفض الحجاب للإماء وشدده علي الحرائر. فالأمة سلعة لا ينبغي حجبها عن السوق للفت نظر المشترين أينما شاهدوها كبضاعة مستباحة للبيع أو الشراء. كان التاريخ المصري في عصور الانحطاط يعج بهذا الصنف من الطبقات الاجتماعية. ولم يضطرب الوضع وتختلط الأمور إلا بعد أن حط نابليون رحاله في مصر.
يذكر الجبرتي علي سبيل المثال أن فئات كثيرة من المصريين خالطوا الفرنسيين. وعاملت النساء المصريات الفرنسيين طبقا لأوضاعهم ووظائفهم التي حددها لهم المجتمع المصري بتخلفه آنذاك. فبعض من النساء المصريات من ذوي الحسب والجاه وقعن اسري للفرنسيين بعد هزيمة المماليك ودخول نابليون بيت كبيرهم واعتبره مقرا له، تماما كما اعتبر بريمر قصر صدام مقرا لقيادته. انه العرف البدائي القديم حيث يضع المنتصر قدمه علي رقبة المهزوم. وان لم يجده، لفراره، فيتعامل مع أي رمز بديل محققا مشهد الزهو بالانتصار. أما النساء فكن دائما الأكثر تعاسة في بيئة الغزو ومناخ الهزيمة.
ولان مجتمع النساء في مصر منذ قرنين كان منقسما إلي حرائر وجواري و شغالات أو من الريفيات البعيدين عن سوءات المدن ومباذلها، فان النساء الحاسرات من سكان المدن تحت حكم المماليك لا يحسدن كثيرا في تلك الحملة البونابرتية. مع الاحتلال تداخلت الوظائف والأوضاع الطبقية والاجتماعية واختلط الحابل بالنابل فيما بين الحريم من الجواري والساقطات وبين الحرائر من نساء القصور وأشرافها ممن يراق علي جوانب شرفهن الدم.
بعد هرب المماليك واخذ الفرنسيين زمام السلطة تساوي بين من في الأسر من النساء. فهم إمام الفرنسيين سواء، غنائم حرب وسبي معارك. فليس ضروريا أن يكون نابليون مسلما حتى يخالف سنن وأعراف الغزاة والفاتحين. يقول الجبرتي أن الحرائر من النساء تزين بما يملكوه من حلي وجواهر للتدليل علي عظمة مكانتهم وتفريقا بينهم وبين الجواري وحريم السلاطين. باعتبار أن الثروة هي موطن التفرقة الاجتماعية راجين اختلاف المعاملة من المحتل الجديد. كان راس الإمبراطورة الفرنسية ماري أنطوانيت ثمنا ليتساوى الناس علي الأرض الأوروبية. بينما كان السلاطين ووعاظهم من المشايخ عندنا يبحثون في الكتب القديمة كيف يمكن الحفاظ علي كل طبقة في وضعيتها. واختراع الفتاوى بعدم جواز الاختلاط مع زيادة الارتفاع في الأسوار لضمان التفرقة بين خلق الله. فما أن تساوي الجميع أمام عسكر الفرنسيس حتى سارعت النسوة من الجواري والشغالات إلي ما وصفه الجبرتي بقوله ” أما الجواري والسود فإنهن لما علمن رغبة القوم في مطلق الانثي ذهبن إليهن أفواجا فرادي وأزواجا فنططن الحيطان وتسلقن إليهن من الطيقان ودلوهن علي مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك”.
فنية الفرار إذن من الأسر المملوكي لم تكن من أخلاق الحرائر اللائي يسال علي شرفهن الدم، بل كانت ضمن الأهداف المكبوتة لدي باقي نساء المجتمع وخاصة الجواري من الحريم أو من البسطاء والسوقة والساقطات. فرغم أنهن كانوا ممن لا يلتزمن بالاحتشام أو الحجاب كمظهر شكلي زائف للعفة إلا أن أرواحهن كانت تتوق لما في قلوب الذين قاموا بالثورة الفرنسية. وما فعله نابليون رغم كونه غازيا شانه شان الغزاة طوال التاريخ المصري إلا انه اسقط أسوارا و فتح أبوابا لسجون مجتمعية وطبقية ساوت في لحظة انكسار وهزيمة نكراء بين النساء بل وبين الرجال أيضا كمهزومين ثقافة وفكرا وتاريخا وهوية.
كانت محاولة التمييز اللائي اتبعتهن حرائر السلاطين من المماليك طبقية في شكلها ومضمونها بارتداء الفاخر من الثياب والذهب والمجوهرات. وهي ليست سوي عريضة طلب عفو ذليلة أمام الغزاة ليعاملوهن معاملة تليق بهن، لكن باقي النسوة كن أكثر ثورية وحرية ولم يديروا ظهورهن للجديد رغم ابتذال افقه القريب ومبتذله في تلك اللحظة وامتلكوا شجاعة مفقودة عند أمراء المماليك وحريمهم ونسائهم وقرروا السير مغامرين في طريق الحرية. فليس هناك ما سوف يخسرونه سوي وضعهم المتدني في المجتمع المملوكي، فهو مكسب مؤقت في ظل احتلال كامل للوطن. فنية الفرار من القهر والعبودية وإدارة الظهر للماضي التعس كانت مبيته ممن لم يكن الحجاب ضمن زيهن الشرعي خاصة الجواري السود في أسفل السلم الاجتماعي. كان الإحساس بفرص الانعتاق حاضرة بشكل اقوي عند الطبقات الدنيا وعند الجنس الأضعف فكانوا أسرع في اقتناصها سعيا للحرية في أوسع معانيها بعد أن كانوا محصورين في سجن ضيق أو زنزانة قبيحة لا يري نزلاؤها مشهد الحرية إلا حكرا يملكه الحرس والسادة من جواهر وأموال تعطيهم وهما بأنهم مماليك أحرار!!
لم تشفع الثروة والتزيين بالجواهر والمرصعات للانعتاق فكان الاختلاط بديلا والمطالبة بحقوق علي استحياء أصبح معروفا. فنساء رشيد طالبوا بالخروج للحمامات العامة. بل أن بعض الحرائر من الطبقات العليا صاحبن الفرنسيس كزينب البكرية ابنه الشيخ البكري نقيب الأشراف، الذي تبرأ منها لاحقا كذلك زوجه إسماعيل الكاشف ونساء أخري كثيرات.
وكانت النساء الأقل قيمة دنيويا والأقل قدرا والأكثر مشقة في العمل الادني أجورا من الطبقات التحتية اسعد حالا فلم يكن هناك من يطالبهن به كشرف مهدر أو نسب رفيع. كانت الحرية كقيمة عليا مثمنه ومسعرة بقدر الملكية لكن الملكية وحجم الثروات ذاتها لم تشفع للانعتاق لحظة أن اجتمع الكل في اسر الغزاة الأوروبيين. فالحرائر استغلوا الثروة للاستمرار في طبقية لم تحمهم لحظة المواجهة. بعضهن أدركن المأزق ففضلن التطبيع مع المحتل بمصاحبة جنوده. والفقراء سعوا إلي الأسر للمساواة مع ملاكهم. هكذا اختلط الحابل بالنابل والاعلي بالادني والشريف العفيف بالمنحط والقبيح. ولا نعرف علي وجه الدقة مدي ما حققه الحجاب أو النقاب كزي شرعي، أو حتى السفور، من حماية لأي منهما في هذه الأحداث التي استدعت الدعاء لخفي الألطاف.
الأسر البونابرتي دفع بمعاني جديدة للمراه المصرية، أو علي الأقل التلويح بشئ يبتغيه البعض بين النساء، بغض النظر عن وضعيتها الاجتماعية وساوي بينهن بجعلهن جميعا حريما له. فيالها من تناقضات جمعها واقع الهزيمة و سخريات التاريخ والغزو وحققت انتصارات مضمرة علي الذات الغير واعية لواقع حياتها أو المجهول الذي ينتظرها. المرأة المصرية سكنت الزنازين المحافظة طويلا تحت ستر الحجاب والزى الشرعي أو كممتلكات للاستخدام الجنسي أو التناسلي للمماليك مما افقدها صورة العالم فلم تدرك كيف كانت تتولد خارج أسوار السجن في شمال البحر الأبيض قيما جديدة.
بعد قرن من تلك الأحداث كتب قاسم أمين كتابين ” تحرير المرأة ” و ” المرأة الجديدة”. فوصفها بأنها لا تجيد سوي التزين للرجل بغرض استثارته جنسيا فبضاعتها هي تسلية الرجل وإمتاعه، فتفننت في الاستيلاء علي أهوائه وخواطره. وأنها جاهلة لا تعرف من الرجل سوي مظهره أما باطنه فهي في غفلة عنه. وألقت هدي شعراوي بعدها بالنقاب. فهو لم يعصم المصريين من الهزيمة زمن الفرنسيين علي ارض مصر. ولم يكن عاصما من التفرقة الطبقية والانحياز الاعمي للظلم الاجتماعي. فهو مجرد زى يمكن فقط للبصير أن يميز صاحباته اجتماعيا ويدعوه لاستحلال ايهما أو الخوف من الاقتراب من الاخري لوجودها ضمن حماية مملوك أو عبد آخر استمد سلطته من حكم الدين وليس بحق ألمواطنه.
ما فعلته حرائر مصر وقت الاحتلال الفرنسي هو انحناء ذليل للغرب البونابرتي مباهين أنفسهم بثروة من الجواهر المسروقة من عرق الساقطات والشغالات خارج أسوار القصور والقلاع. كانوا من فرط قصر النظر يعتبرون أن التباهي بالثروة كفيل ببث الرعب في القادمين أو بالعفو عنهم لحظة الأسر باعتبار أن حيازة الثروة دائما من صكوك القوة والمنعة. وهو نفسه السبب لجعل المماليك يخرجون مثقلين بالزينة والسيوف المرصعة بالجواهر لملاقاة مدافع نابليون فهزموا شر هزيمة. أما الجواري فكانوا أكثر شجاعة وحرية، فلم يمتلكوا ما يستحق الحسرة علي فقدانه فقبلوا من المحتل حرياته التي ساوت النساء جميعا تحت شعاراته فأصبحوا بنعمته اسري حرب متساوون مع الشريفات العفيفات المصونات من نساء الحكام والأمراء. الطبقات الدنيا من النساء ممن لا يلتزمون غالبا بزي شرعي أو تقليدي كانوا أكثر شجاعة ساعين لمستقبل قريب غير مأمون لكنه مضمون في الأجل البعيد ويشبه العالم خارج السجون والمعتقلات بعد طول عهد بالحبس. وانتقم بعض الرجال والمشايخ من كثير من النساء بعد خروج الفرنسيين تطويعا لهم بحجة الشرف المهدر دون سؤال عن معني الشرف لدي المماليك. ذكر قاسم أمين كثير من الصفات التي امتازت بها الأمم الغربية. وعدد كثير من أخطاء المرأة والرجل في مصر منذ قرن والذي يبدو الآن كمستقبل زاهر للبعض ممن يلبسن الزى الشرعي باعتبارهم حرائر أو من سلاله الحرائر ، أو ربما إماء لم يستطيعوا التوافق مع العالم بعد قرار الإفراج.